المسرح المصري يراهن على تجارب الشباب

صعد في الستينات ثم راح ضحية ثقافة الاستهلاك

الناقد المسرحي عمرو دوارة - المخرج المسرحي خالد جلال - الكاتب المسرحي بهيج إسماعيل
الناقد المسرحي عمرو دوارة - المخرج المسرحي خالد جلال - الكاتب المسرحي بهيج إسماعيل
TT

المسرح المصري يراهن على تجارب الشباب

الناقد المسرحي عمرو دوارة - المخرج المسرحي خالد جلال - الكاتب المسرحي بهيج إسماعيل
الناقد المسرحي عمرو دوارة - المخرج المسرحي خالد جلال - الكاتب المسرحي بهيج إسماعيل

مثلت حقبة الستينات زمن الصعود الأقوى للمسرح، وارتبطت بأسماء مبدعين كبار: مؤلفين، وفنانين ومخرجين، تركوا بصمة لا تزال مثيرة للدهشة والمتعة، لكن هذا الحراك ذبل وانطفأ مع التحولات التي طرأت على المجتمع، ودخوله في نفق سياسة الاستهلاك الشرهة، ليتراجع موقعه على الخريطة الثقافية مصرياً وعربياً.
«ثقافة» استطلعت في هذا التحقيق آراء مسرحيين، لمعرفة هل ثمة خطط ومشاريع لإخراج المسرح من الحالة المؤسفة التي يعيشها حالياً؟
في البداية، يقول الناقد المسرحي الدكتور عمرو دوارة: «على الرغم من المحاولات الجادة للتنمية الاقتصادية التي تشهدها بلادنا، فإن التنمية الثقافية للأسف ما زالت تأتي في الدرجة الأخيرة من الاهتمام، وبالتالي لا نجد أي اهتمام حقيقي من جانب الجهات المعنية بتقديم الدعم المناسب للفنون المسرحية، ومع ذلك شهدت المواسم المسرحية الأخيرة، خلال عامي 2017 و2018، عدة محاولات جادة لإنقاذ المسرح المصري من عثراته وأزماته المزمنة، بعدما حمل رايته جيل جديد من الشباب العاشقين له والمؤمنين بدوره. ويحسب لهؤلاء المسرحيين الشباب حماسهم الشديد، وتوظيفهم لجميع خبراتهم لجذب الجمهور مرة أخرى إلى المسارح. وبالفعل، علقت لافتة (كامل العدد) على شباك كثير من مسارح الدولة، وذلك في حين غاب النجوم عن المسرح، بتفضيلهم العمل بالدراما التلفزيونية، خصوصاً مع تقلص نشاط فرق القطاع الخاص، بل اختفاؤها بصورة شبه كاملة، والاكتفاء بتقديم بعض العروض بالفضائيات».

المسرح والشارع
ويفسر الدكتور دوارة انفصال المسرح حالياً عن هموم الشارع والشخصية المصرية، قائلاً: «هناك محاولات للتغلب على غياب مشاركات فرق القطاع الخاص، نظراً لارتفاع تكلفة إنتاج العروض المسرحية (كنتيجة لارتفاع أجور النجوم والدعاية وإيجار المسارح). ونتيجة لذلك، انتشرت ظاهرة مؤسفة أساءت كثيراً إلى المسرح المصري، وإلى مفهوم المسرح بصفة عامة، وهي ظاهرة مساهمة بعض القنوات الفضائية في إنتاج عروض للتصوير التلفزيوني، ثم تقديمها من خلال الشاشة الصغيرة فقط. والحقيقة أن النجاح التجاري لهذه التجربة، وزيادة الطلب على مثل تلك النوعية من العروض، قد دفع بعض الفنانين إلى استغلال الفرصة وتقديم بعض العروض المتواضعة جداً فنياً. وكشفت إعادة عرض هذه العروض مدى الإفلاس، ومدى تدني المستوى الفني لتلك العروض، التي لا يمكن أن تصمد أمام الزمن، ولا يمكن مشاهدة أي منها أكثر من مرة، فجميعها تعتمد على تقديم بعض القوالب الشعبية للكوميديا المرتجلة واللعب بالكلمات والقفشات اللفظية، والسخرية من بعض العاهات أو الأحداث الآنية، وذلك على النقيض من تلك الأشكال والقوالب الكوميدية الراقية التي تعتمد على حبكات جيدة، ومجموعة من المواقف الدرامية محكمة الصنع، التي قدمها المسرح المصري منذ عشرينات القرن الماضي، وكان على رأسهم الفنان الكبير نجيب الريحاني، وعلي الكسار، مروراً بمسرحيات فترة الستينات لكتاب الكوميديا الكبار، التي استطاعت تناول قضايا الإنسان المصري، وعبرت عن طموحاته وآماله من خلال قوالب فنية راقية».
ويرى د. دوارة أن «أزمة المسرح تتمثل فقط في أزمة الإدارة، وأن مصر ولادة فعلاً، وتتمتع بعدد كبير من الفنانين الموهوبين في جميع المجالات، ومن بينها الكتابة المسرحية، ولكن تبقى مشكلة الإدارة التي يجب عليها القيام بعملية الفرز الدقيق، ومنح الفرص للموهوبين فعلا فقط». ولكن ما يحدث في أرض الواقع، كما يضيف، يخالف ذلك «حيث يقتنص الفرص أنصاف الموهوبين أصحاب النفوذ، في حين تغلق أبواب النشر وفرص الإنتاج المسرحي أمام عدد كبير من أصحاب الموهبة الحقيقية والكفاءة. ومن خلال مشاركاتي ببعض لجان التقييم والتحكيم، تأكد لي وجود عدد كبير من كتاب المسرح الرائعين بمختلف الأقاليم المصرية، ولكن للأسف كثيراً ما يصيبهم الإحباط كنتيجة منطقية لاهتمام المسؤولين ببعض الأشكال والقوالب التجريبية فقط، وتسييدها وإتاحة الفرصة لإنتاجها على حساب تلك النصوص الرصينة التي يقومون بتجاهلها وإهمالها».
واعتبر دوارة أن تجليات المسرح البديل تكمن في تعاظم دور «هواة المسرح» بمصر، وهو الظاهرة الإيجابية التي تحتاج لمزيد من دعم جميع الجهات المعنية بالشباب، خصوصاً بعدما نجحت بعض فرق الهواة، لا سيما من الفرق الجامعية وفرق «الجمعية المصرية لهواة المسرح»، في جذب جمهور جديد لعروضهم المتميزة التي يحرصون على تقديمها لعدة ليال متتالية ببعض مسارح العاصمة والأقاليم، اعتماداً على دعم جمهورهم وإيرادات شباك التذاكر.
وأضاف: «لقد نجح (هواة المسرح) وعشاقه المغامرون في تحقيق التواصل مع جمهورهم عبر وسائل الاتصال الحديثة، وكذلك في التخلص من جميع القيود الرقابية، وأهمها لوائح ممارسة المهنة بنقابة المهن التمثيلية، وقوانين ضريبة الملاهي، وقبل كل ذلك فكرة ضرورة مشاركة النجوم لاجتذاب الجمهور. والملاحظات التي يجب تسجيلها في النهاية هي أن أغلب فعالياتنا ومهرجاناتنا المسرحية تعاني كثيراً من عدم التنسيق فيما بينها (سواء على مستوى مواعيد تنظيمها أو على مستوى تكرار بعض الأنشطة)، كما تفتقد للتخطيط السليم نظراً للاعتماد على القرارات الفردية والجهود العشوائية».
وطالب دوارة بضرورة وضع خطط قصيرة المدى، وأخرى طويلة المدى، والحرص على تنفيذ كل منها بكل دقة، مع ضرورة مراعاة الاهتمام بالخطاب الدرامي لتحقيق المشاركة في التنمية الاجتماعية بصورة فعالة، مما يتطلب أيضاً ضرورة تنظيم خطط للتجوال بجميع العروض لتحقيق فكرة العدالة الاجتماعية، وتوصيل دعم الدولة للجميع، ولن يتحقق ذلك بالطبع إلا من خلال الاختيار الدقيق للقيادات المسرحية، والاعتماد على أسلوب العمل الجماعي، من خلال لجان القراءة والمكاتب الفنية المتخصصة، مع تحقيق فكرة المتابعة والتقييم والتقويم بكل جدية وشفافية.

ثقافة الإنترنت
ومن جانبه، يقول الكاتب المسرحي بهيج إسماعيل إنه تحول لكاتب روائي أخيراً، وصدرت روايته الأولى «المنفى والملكوت»، لتراكم الإشكالات الكبرى التي استقرت على الفن المسرحي في مصر خلال السنوات الماضية، ولم تنته بعد إصابة المسارح بالروتين الحكومي الذي يفرض نموذج «الطابور» على المبدعين وانتظار الدور، ما أدى إلى ترهل المشهد الإداري.
ويضيف إسماعيل: «لا توجد حركة مسرحية الآن في المسرح المصري، بمعنى أن الدولة لها توجه تنموي واضح في شتى المجالات، لكنها لا تلتفت لكتاب المسرح الذين أصابهم الاكتئاب حتى بحثوا في أكوام الأفكار عن الموضوعات العدمية لكتابتها، وهذا ترتب عليه أن مسرحنا الآن (غير وطني)، بمعنى أن الكاتب يكتب في فضاء ذاتي، بما يناسب حالته النفسية، وهذا لا يشكل حركة مسرحية وطنية إطلاقاً. والمثال الأقرب لهذه الفكرة أنتجته ثورة 1952، حينما كان المسرح هو ظهير الاشتراكية. وإن أسقطنا هذا النموذج على واقعنا المعاصر، سنجد أن مصر قامت بها ثورتان في فترة وجيزة، شارك فيهما أغلب المصريين، ومن بينهم بطبيعة الحال المسرحيون. ومع ذلك، لم يواكبها أي حراك مسرحي حقيقي يؤرخ ويوثق هذا الحدث التاريخي الجلل بشكل يليق».
ويتابع: «لا يمكن أن نتجاهل النقلة النوعية التي أحدثها الذكاء الإلكتروني واختزال المعلوماتية في جهاز صغير، حيث تربت أجيال متلاحقة على استخدام (الموبايل) للسفر حول العالم وهم في أماكنهم، وبالتالي أنتج هذا سهولة التلقي، وإلغاء كاملاً للخيال والمسافة بين الشباب والقراءة الجادة، فهناك ارتباط وثيق الصلة بين العادات القرائية التي تفرز إنساناً مثقفاً حقيقياً قادراً على التخيل وفن المسرح، وكلما ابتعد الجمهور عن القراءة، ابتعد بطبيعة الحال عن خشبة المسرح».
ولكن المخرج خالد جلال لا يتفق مع الآراء السابقة، فهو يرى أن فن المسرح ليس غائباً عن المشهد الثقافي المصري، مستشهداً بكم العروض المسرحية التي تعرض على مسارح الدولة، والتي «كسرت الدنيا» - على حد تعبيره - في القاهرة، وكذلك في باقي المحافظات.
ويقول عن ذلك: «إن المسارح في كل ربوع مصر تستقبل 3 آلاف عرض مسرحي في العام الواحد، أي أن المنتج الثقافي الذي يقدمه المسرح المصري هو الأكبر مقارنة بأي منتج ثقافي آخر، وهذا على مستوى العالم العربي، ولو كان هناك غياب للمسرح ما كانت وسائل الإعلام قد اهتمت بتسجيل العروض المسرحية وبثها على مدار الموسم». ويستشهد هنا بالفرق المسرحية التي كانت تقيم عروضها في مواسم محددة، وينجذب إليها الجمهور المصري والعربي، مثل العروض المسرحية التي كان يقدمها الفنان عادل إمام ومحمد صبحي وسهير البابلي ومحمد نجم وسمير غانم، وكان لها أثر بالغ في صناعة مشهد ثقافي يتصدره المسرح الخاص.
ويستدرك المخرج جلال بقوله: «ولكن مع تطور وسائل الإعلام والميديا، تراجع هذا النوع من العروض، وذلك يرجع إلى تكاليفها الباهظة، بدءاً من تأجير المسرح، مروراً بكل ما يخص العرض من تجهيزات، إضافة لأجور الفنانين المرتفعة التي لا يصمد أمامها سعر تذكرة العرض، خصوصاً أنها سوف تسجل وتذاع مما يقلص عدد الجمهور. وهذا التراجع الملحوظ ساهم في تأكيد وجود وانتشار مسرح الدولة، وذلك لأنه لا يعتمد في عروضه على أسماء الفنانين الكبار غالباً، لكنه يعتمد في الأساس على شباب المسرحيين. ومن هنا، علينا أن نعترف بأن خريطة المسرح في مصر قد تغيرت مع غياب هذه الفرق المسرحية، وبروز مسرح الدولة الذي جذب كتاباً كباراً في مراحل مختلفة، وكان وجود هذه الأسماء مؤشراً حقيقياً على محو البيروقراطية والروتين الثقافي».



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.