مذكرات يانيس فاروفاكيس عن ستة أشهر أعادت اليونان إلى طوق الطاعة

وزير للمالية في «بطن الحوت الأوروبي»

يانيس فاروفاكيس
يانيس فاروفاكيس
TT

مذكرات يانيس فاروفاكيس عن ستة أشهر أعادت اليونان إلى طوق الطاعة

يانيس فاروفاكيس
يانيس فاروفاكيس

في الحادي عشر من يونيو (حزيران) 2011 اقتحم 5 آلاف رجل أمن مدججين بالسلاح ميدان سينتاغما - قلب العاصمة اليونانية - لينهوا بالقوة اعتصاماً عاماً استمر عدة أشهر تحت شعار (احتلوا أثينا) شارك فيه 35 في المائة من المواطنين فعليّاً بالنزول إلى الشوارع والميادين العامة منادين بـ(ثورة) على النظام الفاسد من النخب التي حكمت اليونان خلال عقود ماضية عبر تحالف ممنهج بين مافيات التهريب والأوليغارشية التي استنزفت موارد الدولة والمجتمع - فأثرت، وأفقرت بذات الوقت البلاد والعباد.
«روح (سينتاغما) تلك» يقول يانيس فاروفاكيس، وزير مالية اليونان السابق في مذكراته (عقلاء في الغرفة) التي نشرها حديثاً: «تحولت إلى حراك سياسي أصبح لا يمكن إيقافه». وبالفعل فإن تلك الأشهر القليلة أعادت تشكيل توجهات اليونانيين السياسيّة على نحو جذري رفع نسبة الناخبين الذين صوتوا لصالح حزب سيريزا اليساري إلى أغلبيّة 36 في المائة في انتخابات 2015 العامة مقارنة بأقل من 5 في المائة في الانتخابات السابقة. كان الحزب قد طرح برنامجاً طموحاً لإعادة تنظيم اقتصاديات البلاد في وقت كانت الميزانيّة العامة تتدحرج إلى هوة الإفلاس نتيجة لتوقف اليونانيين عن دفع الضرائب وامتناع البنك المركزي الأوروبي والشركاء الأوروبيين الكبار - على رأسهم ألمانيا – عن إقراض اليونان.
فاروفاكيس – الذي كان والده يونانياً مصريّاً عاد ليدرس في جامعة أثينا – وجد نفسه بعد تلك الانتخابات داخل قلب الحوت الأوروبي وزيراً للماليّة مقابل فريق من دهاقنة البنوك الأوروبيين «الذّين لم يكونوا يريدون تحصيل ديونهم بقدر ما أرادوا تلقين اليونانيين درسَا في عدم الخروج عن طوق الطاعة ليصير عبرة للشعوب الأوروبيّة الأخرى». كانت مهمة فاروفاكيس بالفعل أشبه بمهمة استشهاديّة لا طائل من ورائها.
لم يتفاءل الأوروبيّون بتولي فاروفاكيس ذلك المنصب الحساس. هم كانوا يريدون وجهاً من البيروقراطيين التقليديين أقل راديكالية، كي يوافق على إملاءاتهم دون كبير عناء، فانتهوا إلى أكاديمي يساري معروف بتمرده واستقلاليته يذهب إلى مقر عمله بجاكيت جلدي على دراجة ناريّة. لكن ذلك الأكاديمي فاجأ الجميع بقدرته المذهلة على فهم الأبعاد المعقدة للمسائل الماليّة والاقتصاديّة، وبراغماتيته في التفاوض، وقدرته على استجلاب دعم مجموعة من عتاولة اليمين الغربي والمؤسسات الماليّة الدوليّة لدعم موقف اليونان. لم تكن لدى فاروفاكيس أي أوهام بشأن إمكانيّة قيام ديكتاتوريّة العمال والفلاحين في بلاده وقتها لأن تلك مواجهة ستكون حتماً عبثيّة بين سمكة صغيرة بمواجهة حوت غاضب، ولهذا فإن خطته التفاوضيّة تركزت حول استخدام أوراق القوة القليلة التي لديه - والمتمثلة أساساً بالتفويض الشعبي الواضح والتهديد بالخروج من فضاء العملة الأوروبيّة الموحدة (اليورو) - لتحسين شروط الاستسلام من خلال إعادة هيكلة للديون ومحاولة تخفيف وطأة سياسات التقشف على المواطن اليوناني الفقير. كان وزير ماليّة آتياً من جذور ماركسيّة، لكنّه يحاول وبجد التفاوض لأجل منهج رأسمالي معتدل كينزي النزعة في إدارة الأزمة «يمكن أن ينقذ الرأسماليّة من نفسها».
(عقلاء في الغرفة) يقّدم رواية فاروفاكيس عن تفاصيل تلك الفترة العصيبة من تاريخ اليونان الحديث، والتي استمرت لستة أشهر تقريباً، وانتهت بعدما ترك منصبه بناء على طلب ألكسيس تسيبراس رئيس الوزراء اليوناني عن «سيريزا» الذي خضع لضغوط الأوروبيين. وهو استعار العبارة من تأنيب كريستن لاغارد، رئيسة البنك الدولي للمفاوضين مع اليونان عندما فارت المشاعر بأحد الاجتماعات قائلة إنها تحتاج إلى عقلاء ناضجين في تلك الغرفة.
لم يكن فاروفاكيس عضواً في سيريزا، لكنه ترشح على لائحة الحزب بالانتخابات العامة عام 2015 فحصل على أعلى عدد من أصوات الناخبين اليونانيين بين كافة المرشحين. لكن تفويض الرجل لإدارة الصراع مع الشركاء الأوروبيين الكبار لم يأت بسبب شعبيته الجارفة فحسب، فهو بالفعل من أهم العقول الاقتصاديّة الأوروبيّة، وقد تفرّد قبل كل الآخرين بالتحذير علناً في 2006 من خطورة انكشاف البنوك الأوروبيّة المتزايد أمام المشتقات الماليّة الأميركيّة وديون العقارات المتضخمة على الجانب الآخر من الأطلسي، وكتب قبل تفجر الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008: «السؤال الآن ليس إذا كانت الأزمة ستقع أم لا، بقدر ما هو متى ستقع»، كاشفاً أن «البنوك الأوروبيّة في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وهولندا تستثمر أكثر من 30 تريليون دولار في تلك الأدوات الماليّة الأميركيّة الغامضة، وهو مبلغ يعادل ضعفي الناتج القومي للدّول الأربع مجتمعة». كان فاروفاكيس يعلم تماماً أن هذي الثقة الشعبيّة العالية حمْلٌ ثقيل، وهو لذلك احتفظ طوال فترة توليه المنصب العام باستقالة مكتوبة داخل جيبه ليلقي بها في وجه العالم لحظة تطلب الأمر.
عند فاروفاكيس ليست أزمة اليونان - رغم إقراره بالفساد المستشري وسوء الإدارة المزمن في بلاده - سوى مجرّد عرض جانبي لأزمة البنوك الأوروبيّة الكبرى التي أرادت أن يتحمل دافع الضرائب الأوروبي المسكين ما خسرته خلال مغامرتها (الأميركيّة) الطائشة.
يكتب فاروفاكيس بنفس روائي متمكن حتى لتنسى أنّه أكاديمي في العلوم الماليّة. ويوميات مواجهته تلك تبدو كمغامرات دونكيشوت نبيل معاصر لم يجد حتى مساعده بانشو ليقف معه في مواجهاته العبثيّة الكبرى. فهو رغم براغماتيته المشهودة، فقد أغضب الأوروبيين عليه بوضعه خطة بديلة حال فشل المفاوضات تقوم على توقف اليونان عن الدفع والخروج من (اليورو) لمصلحة استعادة الدراخما. هو بحسه التقني العالي كان يدرك صعوبة تنفيذ تلك الخطة، لكنه كأي مفاوض لمّاح، سعى لتحسين موضعه على ميزان القوى المائل وبشدة لمصلحة اللاعبين الأوروبيين الكبار. رئيس الوزراء اليساري تسيبراس الذي وعده إثر تشكيل الحكومة بالاستقالة والعودة للتظاهر في الشارع من جديد إن حاول الأوروبيون فرض قراراتهم المجحفة على اليونان بدا مرعوباً من انقلاب عسكري يعيد البلاد لقبضة اليمين المتطرف إن استمرت تلك المواجهة. وهو فيما يبدو استجلب فكرة إجراء الاستفتاء الشهير لمعرفة مدى دعم الشعب لموقف فاروفاكيس التفاوضي الذي لم يسانده أحد من الوزراء، آملاً ألا يوافق الشعب على المضي في خيار المواجهة أو أقله الخروج بنتيجة ملتبسة تسمح لسيريزا بقبول الاستسلام والاحتفاظ بالسلطة في ذات الوقت، بينما فاروفاكيس تعهد علناً بالاستقالة حال لم تحظ استراتيجيته على تأييد شعبي حاسم.
يروي فاروفاكيس أحداث ليلة الاستفتاء المثيرة التي أبقت الفريق الوزاري اليوناني برمته داخل مقر الرئاسة مترقباً النتيجة لحظة بلحظة. لقد صوّت اليونانيون بأغلبيّة الثلثين الحاسمة لمواجهة متصلبّة ترفض إملاءات الترويكا الأوروبيّة المفاوضة. وبينما كان يقفز فرحاً، لاحظ تجهم جميع الوجوه من حوله. لا أحد كان يريد المواجهة. ليلتها كان لقاؤه مع تسيبراس صادماً، إذ عبر له عن خشيته من تكرار حادثة (غاودي) عندما أعدم ستة من القادة اليونانيين بعد انقلاب عسكري في الثلاثينيات، ولذا فإنه لن يخضع للإرادة الشعبيّة بل سيقبل بشروط الأوروبيين، وطلب إليه الاستقالة من منصبه لأنه أصبح كما عقبة لقبولهم بأي تسوية مع اليونان. لقد كان ذلك الموقف غاية الجبن من الزعيم اليساري، لكنه كان أيضاً لحظة كشفت عن معدن فاروفاكيس الصلب. لقد اعتبر موقف حكومة تسيبراس «انقلاباً من الحكومة على الشعب»، فأخرج خطاب استقالته من جيبه وسلمه إياه معتبراً «إن هذه الاستقالة رداء شرف سيرتديه على كتفيه طوال عمره».
نص (عقلاء في الغرفة) ليس مفصليّاً فحسب لتدوين تلك المرحلة من التاريخ اليوناني على يد أحد أهم صانعي أحداثها - التي جرى أعقدها وراء الكواليس -، بل هو يكتسب قيمة عالميّة لكل راغب في فهم جذور أزمات الرأسماليّة المتكررّة، وطبيعة النادي النخبوي المعولم القابض على مقدرات العالم متجاوزاً كل سيادة محليّة أو تفويضات شعبية. وقد وصفته صحيفة التلغراف البريطانية اليمينيّة بأنه كتاب «يتسبب بالدهشة وقراءة لازمة لكل حكومات أوروبا». لقد فشل هذا اليوناني المتمرد في مهمته «لإنقاذ الرأسماليّة من نفسها»، ليعود هو على دراجته إلى منصبه الجامعي، بينما سجلت الرأسماليّة نصراً آخر على شعب فقير.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.