تاريخ الفلسفة منذ اليونان حتى يومنا هذا

الفيلسوف الفرنسي لوك فيري يقدم مسحاً تاريخياً شاملاً

لوك فيري
لوك فيري
TT

تاريخ الفلسفة منذ اليونان حتى يومنا هذا

لوك فيري
لوك فيري

غني عن القول أني لا أستطيع استعراض جميع الكتب التي قرأتها أخيراً، ولكني سأتوقف عند أحدها، وهو للفيلسوف الفرنسي لوك فيري، ومعلوم أنه كان قد نشر سابقاً كتاباً بعنوان «أجمل قصة لتاريخ الفلسفة». وكنت قد أشدت به هنا على صفحات «الشرق الأوسط»، في مقالة مطولة فور صدوره، ولكنه أصدر بعده كتاباً أكثر ضخامة، بعنوان «فلسفات الأمس واليوم»؛ العنوان الحرفي للكتاب هو «حكمات الأمس واليوم»، جمع حكمة. ومن مصادفات الأمور السعيدة أن العرب كانت تترجم كلمة «فلسفة» اليونانية بكلمة «حكمة». وربما كان الأفضل أن نترجم عنوان الكتاب بـ«فلاسفة الأمس واليوم»، وذلك لأنه يستعرض تاريخ الفلسفة منذ اليونان حتى يومنا هذا، ولكنه يضيف إليهم غلغامش وبوذا وحكمة الشرق أو حكمائه. وينبغي أن نعترف فوراً بأن لوك فيري هو أفضل شارح لتاريخ الفلسفة في فرنسا، وربما في العالم كله. ما عدا ذلك، فإن هذا الكتاب يتحدث لنا عن تاريخ الفلسفة من هوميروس إلى أفلاطون، في فصل افتتاحي تدشيني، ثم ينتقل مباشرة لكي يتحدث عن أرسطو (تلميذ أفلاطون)، في فصل مطول يحاذي الأربعين صفحة تقريباً، يليه فصل عن الرواقيين، ثم عن الأبيقوريين، ثم عن غلغامش وبوذا وحكمة الشرق، كما ذكرنا.
وبعدئذ، يكرس المؤلف فصلاً كاملاً ليسوع المسيح والثورة الدينية الرائعة التي دشنها ودفع حياته ثمناً لها. ولكن ينبغي الاعتراف بأن الدوغمائية الدينية الانغلاقية انقلبت لاحقاً على الفلسفة اليونانية، بل وكفرتها باعتبار أنها وثنية، ثم جاء عصر النهضة في القرن السادس عشر لكي ينقلب بدوره على الدوغمائية الدينية اللاهوتية، وينتقم للفلسفة. وهكذا، انتقلنا من نقيض إلى نقيض في تاريخ الفكر الأوروبي. فالعدو أصبح العصور الوسطى المسيحية، وليس الفلسفة والآداب اليونانية - الرومانية التي أشعلت النهضة الأوروبية. ومعلوم أن العرب لعبوا دوراً كبيراً في انطلاقة نهضة أوروبا، عن طريق نقل الفلسفة اليونانية إليها من خلال الفارابي وابن سينا، ثم الشارح الأكبر ابن رشد.
ونلاحظ أن لوك فيري يركز على شخصية واحدة من شخصيات النهضة الإيطالية، ألا وهو: بيك الميراندولي، الذي كان معجباً جداً بالعرب وحضارتهم وثقافتهم. وسوف أتوقف عنده لحظة بعد قليل. وماذا حصل بعد عصر النهضة في القرن السادس عشر؟ شيئان عظيمان: الثورة العلمية التي قضت على علم أرسطو وبطليموس، بفضل كوبرنيكوس وغاليليو، والثورة الفلسفية التي تحققت على يد ديكارت.
وبعد أن يفرغ المؤلف من الحديث عن الثورة الديكارتية، نجده يكرس فصلاً مطولاً لأهم تلميذين خرجا من معطف ديكارت وتفوقا عليه في بعض المجالات، وهما لايبنتز وسبينوزا. ثم يخصص صاحبنا فصلاً كاملاً للفلسفة الأنغلو - ساكسونية، وهذا أضعف الإيمان. وبعدئذ، ينتقل مباشرة إلى التحدث عن كانط والأنوار. ومعلوم أن فيري مختص بكانط، وهو يقرأه في النص الأصلي، أي الألماني. بل ونعته البعض بأنه كانط جديد، عندما اندلعت المعركة ضد فوكو ونيتشه في الساحة الباريسية نهاية السبعينات وبداية الثمانينات. ثم يخصص المؤلف فصلاً كاملاً لجان جاك روسو وتوكفيل، اللذين دشنا الفكرة الديمقراطية في الغرب. وبعدئذ، يخصص فصلاً طويلاً لهيغل والفلسفة المثالية الألمانية، ثم ينتقل إلى شوبنهاور العدو اللدود لهيغل. ومعلوم أنه كان يغار منه، ويشتمه بعبارات نابية. وبالتالي، فالفلاسفة الكبار قد يفقدون أعصابهم أحياناً بسبب الغيرة والحسد من بعضهم بعضاً، وكنا نتوقع منهم غير ذلك، ولكن انظر إلى حقد المثقفين العرب على بعضهم بعضاً أيضاً! ثم ينتقل المؤلف إلى تلميذ شوبنهاور الذي تفوق على أستاذه: عنيت نيتشه. وبعد نيتشه، يجيء دور ماركس وفرويد وكارل بوبر وهيدغر، وسارتر والفلسفة الوجودية، ثم فكر «مايو 68»، المتمثل بالأقطاب الكبار فوكو وديلوز ودريدا، إلخ. وهم الذين حاول لوك فيري تفكيكهم أو تحطيمهم في كتاب مشهور صدر بالاسم نفسه عام 1985. ثم يختتم المؤلف كتابه بفصل مطول عن وضع الفلسفة اليوم. هكذا، تلاحظون أني عددت مفاصل الكتاب بدقة لكي يتسنى للقارئ أخذ فكرة عن المشروع العام ككل. والآن، دعونا ندخل في التفاصيل.
يرى المؤلف منذ البداية أن هدف الفلسفة هو: تحديد نوعية الحياة الجيدة التي ينبغي أن يعيشها الإنسان؛ إنها تبغي التوصل إلى الحكمة التي تقودنا في الحياة، وذلك اعتماداً على العقل فقط. والفلسفات المتتالية ما هي في نظر لوك فيري إلا روحانيات علمانية منافسة للدين، أو مستغنية عنه، وذلك على عكس الروحانيات الدينية التي لم يعد لها لزوم في عصر الحداثة، بحسب رأيه. وهنا، نجد أنفسنا مختلفين مع السيد فيري، فنحن لا نعتقد أن بتر الإيمان أو الدين شيء مستحب. نعم لبتر التعصب الديني التكفيري، ولكن لا لبتر الدين في المطلق، فنحن لا نعتقد أن هناك تعارضاً بين الفلسفة والدين، أو العقل والإيمان، بشرط أن نفهم الدين بشكل عقلاني متنور. وأكبر مثال على ذلك الفيلسوف بول ريكور، فقد كان فيلسوفاً ضخماً، باعتراف لوك فيري نفسه، وفي الوقت ذاته كان مؤمناً كبيراً. على أي حال، فالسيد فيري حر في تصوراته، مثلما نحن أحرار في تصوراتنا.
لكن لنواصل رحلتنا مع هذا الكتاب الضخم الذي يتجاوز الثمانمائة صفحة من القطع الكبير.. يرى المؤلف أن الانتقال من مرحلة هوميروس إلى مرحلة أفلاطون يعني الانتقال من عصر الأسطورة إلى عصر الفلسفة، أو من عصر الملاحم الشعرية إلى عصر النثر والعقل. بهذا المعنى، فإن أفلاطون هو أول فيلسوف في تاريخ البشرية، وربما أكبر فيلسوف، كما قال لي يوماً ما كاستورياديس، أستاذ لوك فيري نفسه وكل جيله، وذلك عندما قابلته يوماً ما في منزله الباريسي لصالح مجلة «الكرمل»، التي كان يرأس تحريرها شاعرنا الكبير محمود درويش.
وماذا عن أرسطو الذي هيمن على البشرية العربية الإسلامية والأوروبية المسيحية طيلة العصور الوسطى؟ إنه القطب المضاد لأستاذه أفلاطون. فبقدر ما كان هذا الأخير مثالياً سارحاً في عالم المثل السماوية، كان أرسطو واقعياً يركز اهتمامه بالدرجة الأولى على دراسة الواقع الأرضي المحسوس. والصراع بين أفلاطون وأرسطو اخترق تاريخ الفلسفة من أوله إلى آخره، إنه الصراع بين المثالية والواقعية. نقول ذلك باختصار شديد وتسرع أشد. والآن، لنقفز على فصول كثيرة، ولننتقل مباشرة إلى عصر النهضة في القرن السادس عشر. وهنا، نصل إلى بيك الميراندولي، الذي يُعتقد أنه مات مسموماً في عز الشباب: 31 سنة فقط! لقد اغتاله الإخوان المسيحيون، فقد اتهموه بالزندقة والكفر والخروج على الدين. وكان الميراندولي يقول إن علينا أن نقلد علماء العرب وفلاسفتهم، إذا ما أردنا أن ننهض ونتطور. وكان في رأي لوك فيري أول من بلور النزعة الإنسانية الحديثة في الغرب، عندما ألف كتابه عن «الكرامة الإنسانية أو العظمة الإنسانية»، ولذلك اصطدم باللاهوت المسيحي ورجال الدين، وقد اشتهر بثقته الكبيرة في الإنسان، وقدرته على صنع المعجزات، وقال إنه أخذ هذه الفكرة عن كتب العرب التي تقول إنه «لا يوجد على وجه الأرض أروع من الإنسان»، ولكن المتشددين فهموا كلامه على أساس أنه تطاول على الذات الإلهية. هذا في حين أنه كان مؤمناً بالله، ولا غبار عليه، ولكن الإنسان في نظرهم لا يستحق كل هذا الاهتمام والتمجيد، فهو مجرد عابر فان، يجدر به أن يفكر بآخرته لا بدنياه. وهنا، نلتقي بإحدى سمات العصور الوسطى التي كانت تحتقر الحياة الدنيا، وتزهد بالإنسان وإمكانياته وملكاته وقدراته.
ننتقل الآن بسرعة شديدة إلى ديكارت، الذي يقول عنه المؤلف: لقد خُلد اسم ديكارت لاحقاً عن طريق كتابين فقط، هما: مقال في المنهج (1637)، والتأملات الميتافيزيقية (1641). وهذان الكتابان صغيران من حيث الحجم، ولكنهما ضخمان من حيث التأثير الذي مارساه على تاريخ الفلسفة، والدليل على ذلك أن العمالقة اللاحقين، من هيغل إلى هيدغر، أشادوا بديكارت كل الإشادة، واعتبروه بطل الفكر والمؤسس الحقيقي للفلسفة الحديثة، بمعنى أنه أغلق العصور الوسطى والفلسفة الأرسطوطاليسية. ولا نستطيع الدخول في تفاصيل الفلسفة الديكارتية لأننا قد نغطس بكل بساطة. ولن نتوقف عند تلميذيه الكبيرين، لايبنتز وسبينوزا، ولا حتى عند الفلسفة الأنغلو - ساكسونية، وإنما سننط نطة كبيرة واحدة لكي نصل إلى كانط والأنوار، فماذا يقول لوك فيري عن الموضوع؟ يقول بالحرف الواحد: «سوف نتحدث اليوم عن إيمانويل كانط (1724 - 1804)، إنه أكبر فلاسفة التنوير وأعظمهم شأناً، وربما كان أكبر فيلسوف في تاريخ البشرية. إن مؤلفاته تشبه جبال الهمالايا: من الصعب جداً تسلقها، ومن المستحيل مضاهاتها». ولكي لا نغطس هنا أيضاً، بل ونغرق كلياً، دعونا ننتقل فوراً إلى الفصل التالي، عن جان جاك روسو، أستاذ كانط ذاته ومثله الأعلى، قدوةً وأخلاقاً وسلوكاً.
أين تكمن عظمة روسو؟ في نزعته الإنسانية العميقة التي لا تضاهى. يضاف إلى ذلك أن روسو غامر بحياته من أجل الحقيقة؛ لقد شطب على حياته الشخصية بكل بساطة. ما السؤال الرئيسي الذي طرحه جان جاك روسو على عصره؟ إنه التالي: هل التقدم العلمي والتكنولوجي للبشرية يترافق بالضرورة مع التقدم الأخلاقي والإنساني؟ سؤال هائل وعظيم انفجر في عصره كالزلزال أو البركان، فراحوا يشتمونه ويتهكمون عليه، بل ويطلقون الشائعات حول مدى صحته النفسية وإمكانياته العقلية.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم