المجاعة طبعت بصماتها على جينات الهولنديين

تغيرات جينية أدت إلى ازدياد الأمراض لدى الأطفال طيلة حياتهم

المجاعة طبعت بصماتها على جينات الهولنديين
TT

المجاعة طبعت بصماتها على جينات الهولنديين

المجاعة طبعت بصماتها على جينات الهولنديين

في كشف مثير، عثر العلماء على دلائل تشير إلى أن مجاعة حدثت في هولندا خلال الحرب العالمية الثانية «طبعت بصماتها» على التركيبة الجينية للأطفال الذين ولدوا أثناءها وبعدها.
وترجع المجاعة إلى أحداث وقعت في سبتمبر (أيلول) 1944، عندما توقّفت القطارات في هولندا بشكل كامل، بعدما عقد عمّال سكة الحديدة الهولنديون آنذاك الآمال بأن يساهم الإضراب في توقف نقل القوات النازية، ومساعدة قوّات الحلفاء على التقدّم لتحرير بلدهم.

اختبار علمي مثير

لكن حملة الحلفاء فشلت، وعاقب النازيون الهولنديين بقطع إمدادات الطعام، وأغرقوا قسماً كبيراً من البلاد بالمجاعة، التي تسببت في وفاة 20.000 شخص بسبب الجوع حتى تحرير هولندا في مايو (أيار) 1945.
ولكن ظهر لاحقاً أن «شتاء الجوع الهولندي» اختلف عن غيره من المجاعات في نواحٍ غير متوقعة؛ لأنه بدأ وانتهى بشكل مفاجئ، واستخدم اختباراً علمياً غير مخطّط له في الصحة البشرية. فقد تبيّن أن النساء الحوامل عانين من تأثير مختلف على أجسامهن، جراء هذه المجاعة؛ لأن آثارها ظلّت ظاهرة في الأولاد الذين أنجبوهن طوال حياة أولئك الأطفال.
وعندما أصبح هؤلاء الأولاد أشخاصاً بالغين، عانوا من زيادة في الوزن تجاوزت المعدلات الطبيعية.
ولدى وصولهم متوسط العمر، عانوا أيضاً من ارتفاع في معدّلات الدهون الثلاثية ثلاثي الغليسريد والكولسترول المنخفض الكثافة (الضار) أكثر من غيرهم. كما اتضح أن معدّلات السمنة والسكري والفصام كانت أعلى لديهم.
وأظهرت دراسة أجراها الباحث إل إتش أومي، عالم الأوبئة من جامعة كولومبيا، أنه ومع تقدّمهم في السن، تعاظم تأثير هذه الأخطار.
فقد راجع مع فريق من زملائه عام 2014 سجلّات وفاة مئات آلاف الهولنديين الذين ولدوا في منتصف الأربعينات، ووجد أن نسبة الوفيّات بين الأشخاص الذين كانوا أجنّة إبّان المجاعة، التي تعرف باسم شتاء الجوع الهولندي، كانت أعلى مقارنة بالأشخاص الذين ولدوا قبل المجاعة أو بعدها.
وقال أيضاً إنهم وجدوا ارتفاعاً بنسبة 10 في المائة في معدلات الوفيات بعد سنّ 68 عاماً.

ذاكرة الجينات

لم تتمّ مناقشة النماذج التي وثّقها لومي وزملاؤه، لكن العلماء لا يزالون يحاولون جاهدين فهم كيفية توصّلهم إلى هذه النتائج. فقد تساءل بنجامين هيجمنز، اختصاصي في علم الوراثة من مركز جامعة ليدن الطبي في هولندا «كيف يمكن لجسم الإنسان أن يتذكّر البيئة التي تعرّض لها أثناء وجوده في الرحم، وبعد مضي عقود على مروره بها؟»
نشر هيجمنز ولومي وزملاؤهما إجابة محتملة، أو جزءاً من إجابة حديثاً في دورية «ساينس أدفانسز». فقد رجحت دراستهم أنّ شتاء الجوع الهولندي أسكت بعض الجينات لدى الأطفال الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد، وظلّت هذه الجينات صامتة منذ ذلك الحين.
صحيح أنّ جميع الخلايا في جسم الإنسان تشرك بالجينات نفسها في داخلها، إلا أن بعض هذه الجينات تكون ناشطة في خلايا معيّنة، وصامتة في أخرى. ويبدو أن هذا نظام الجينات هذا يحدّد قبل الولادة.
لكن العلماء توصّلوا إلى أنّ التجارب المتأخرة (مثلاً التعرّض لخطر فيروس ما) من شأنها أن تدفع الخلايا إلى إسكات جينة معيّنة أو تعزيز نشاطها، بشكل دائم أحياناً.
تّعرف دراسة السيطرة الجينية الطويلة الأمد هذه بـ«علم التخلّق المتوالي». ونجح الباحثون في تحديد الجزيئات التي تستخدمها الخلايا لبرمجة الحمض النووي، إلا أن طريقة عمل هذه الأدوات لم تتضح بعد، لكن أفضل الجزيئات التي تمّ تدارسها كانت كبسولة جزيئية تعرف بـ«مجموعة الميثيل».
تحمل الجينات مجموعة الميثيل في ملايين البقع الموجودة في حمض الإنسان النووي، والتي يبدو أنها مسؤولة عن إسكات الجينات؛ إذ وجد الباحثون أن مجموعة من فئة الميثيل كانت غالباً تختبئ بالقرب من الجينات الصامتة.
حين بدأ لومي في دراسة شتاء المجاعة الهولندي في التسعينات، أخذ عينات دم من آلاف الأشخاص في منتصف العمر، إلى جانب عينات من إخوتهم وأخواتهم الذين ولدوا قبل وبعد المجاعة.
وبعد مرور نحو العقد من بداية الدراسة، تمكّن لومي وزملاؤه من الاستفادة من تقنية فاعلة جديدة لرصد مجموعة الميثيل في خلايا الدم، فقد عثروا على الحمض النووي في العينات ووضعوه في جهاز قادر على تحديد مكان مجموعات الميثيل في نحو 350.000 بقعة موجودة على الجينوم. ونجحوا في التعرف على بصمات المجاعة.



المستقبل الغريب للحوم المستزرعة في المختبر

المستقبل الغريب للحوم المستزرعة في المختبر
TT

المستقبل الغريب للحوم المستزرعة في المختبر

المستقبل الغريب للحوم المستزرعة في المختبر

تلتمع «بارفيه» السمّان (وهي لحم مسحون لطير السمّان) على صحني، مقترنة بقرص من الذرة المقلية. وللوهلة الأول، يبدو هذا كنوع من طعام العشاء الفاخر الذي ستجده في العديد من المطاعم الراقية: عجينة غنية وردية مغطاة بالفلفل المخلل، وزهرة صالحة للأكل، ولمحة من الكوتيجا (الجبن المكسيكي المعتّق).

لحم طير مختبري

ولكن العرض التقليدي لهذا اللحم يحجب حقيقة أعمق، فهذه الوجبة غير تقليدية، بل وراديكالية. ومن بعض النواحي، تختلف عن أي شيء شهده العالم في أي وقت مضى.

لم تُصنع عجينة اللحم الموجودة على طبقي بالطريقة التقليدية مع كبد الإوزّ. لقد تمت زراعة اللحم من خلايا النسيج الضام لجنين السمان الياباني الذي تم حصاده منذ سنوات، وتم تحفيزه وراثياً على التكاثر إلى الأبد في المختبر. وقد قُدم لي هذا الطبق في فعالية «أسبوع المناخ» في نيويورك من قبل جو تيرنر، المدير المالي في شركة «فاو» الأسترالية الناشئة للتكنولوجيا الحيوية.

إن تسمية السمان «اللحم المستزرع في المختبرات» تعد تسمية خاطئة. فهذه النسخة الشبيهة بالهلام من السمان كانت تُزرع في مصنع حقيقي للحوم الخلوية، وهو الأول والأكبر من نوعه. وعلى وجه التحديد زرعت في خزان طوله 30 قدماً، وسعته 15 ألف لتر في مصنع «فاو» في سيدني، حيث، حتى كتابة هذه السطور، يمكن للشركة إنتاج 2000 رطل (الرطل 152 غراماً تقريباً) من السمان كل شهر.

وهذه كمية ضئيلة مقارنة بالكميات المتوفرة في مرافق اللحوم التقليدية، لكنها تمثل خطوة كبيرة إلى الأمام بالنسبة إلى التكنولوجيا التي - على مدى العقد الماضي - أسست سمعتها بالكامل تقريباً على تقديم قطع صغيرة شهية في جلسات التذوق الصحفية الفردية.

نجاحات وإخفاقات

وقد بدأت «فاو» للتو أعمالها هذه مع ما يقرب من 50 مليون دولار من تمويل شركات أخرى مثل «بلاكبيرد فينشرز»، و«بروسبيرتي 7»، و«تويوتا فينشرز» (التي رعت فاعلية أسبوع المناخ). وقامت الشركة حديثاً بتركيب مفاعل بيولوجي كبير آخر سعته 20 ألف لتر هذه المرة، أكبر بنسبة 33 في المائة من الأول. ومع تشغيل المفاعلين على الإنترنت، تُقدر الشركة أنها سوف تنتج قريباً 100 طن من السمان المستزرع كل عام.

قد يبدو كل ذلك متناقضاً مع التقارير السابقة، إذ وصف مقال استقصائي نشرته أخيرا صحيفة «نيويورك تايمز» كيف أن قطاع اللحوم المستزرعة الناشئ قد خرج عن مساره بسبب العقبات الاقتصادية والتقنية، رغم سنوات من الضجيج، وسلسلة من الموافقات التنظيمية البارزة، و3 مليارات دولار من الاستثمار.

جمعت شركة «أب سايد فودز»، ومقرها في بيركلي، بولاية كاليفورنيا، أكثر من 600 مليون دولار لتقييم نموذج لشريحة دجاج تبين أنها يمكنها أن تصنعه يدوياً فقط في أنابيب اختبار صغيرة، في حين أن محاولة شركة «إيت جاست»، ومقرها في كاليفورنيا لبناء مصنع للحوم أكبر 50 مرة من مصنع «فاو» انتهت بدعاوى قضائية ومشاكل مالية والقليل للغاية من الدجاج المستزرع.

وقد وعدت الجهات الداعمة لهذا القطاع بمحاكاة اللحوم التي نشأنا على تناولها، اللحم البقري والدجاج، من دون المعاناة التي تعرضت لها الحيوانات والطيور، ومن دون انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري. ولكن اليوم لم يعد هناك أي منتج متاح إلا بالكاد في هذه الصناعة. لقد حان الوقت، كما كتبتُ، للاعتراف بحقيقة أن هذا الحلم قد مات.

تطويرات غير مألوفة

كيف تستعد شركة «فاو» لشحن المنتجات بكميات كبيرة؟ بالتخلي عن المألوف واعتماد غير المألوف. إذ وبدلاً من محاولة إنتاج قطع الدجاج الصغيرة والبرغر، ركزت «فاو» على ما يمكن أن تقدمه الخزانات الفولاذية الكبيرة المليئة بالخلايا بشكل موثوق به في المدى القصير: منتجات غريبة ومميزة مخصصة لسوق السلع الفاخرة، وهي فئة جديدة من الأطعمة التي يسميها جورج بيبو الرئيس التنفيذي لشركة «فاو»: «اللحوم الغريبة».

اللحوم الغريبة هي انحراف عمّا وعدت به صناعة اللحوم الخلوية بالأساس. سيكون الأمر مكلفاً، في البداية. ابتداء من نوفمبر (تشرين الثاني)، كانت شركة «فاو» تبيع بارفيه السمان لأربعة مطاعم في سنغافورة مقابل 100 دولار للرطل. وسوف تتميز هذه اللحوم بمذاق وقوام غير موجودين في الطبيعة. وسوف تُصنع من الحيوانات التي لم يعتد الناس أكلها. فكروا في التمساح، والطاووس، وطائر الغنم، وغيرها. في العام الماضي، تصدرت «فاو» عناوين الأخبار العالمية بعد «كرات اللحم الضخمة» - وهي نموذج أولي ضخم وفريد مختلط مع خلايا الفيل والحمض النووي لحيوان الماموث الصوفي - مما أدى إلى ظهور مقطع ذائع الانتشار في برنامج «العرض الأخير» مع ستيفن كولبرت. في نهاية المطاف، تأمل «فاو» في أن يمنحها إنشاء سوق فاخرة قوية للحوم الغريبة الفرصة لخفض التكاليف تدريجياً من خلال مواصلة البحث والتطوير، رغم أنها سوف تحتاج أولاً إلى تطبيع فكرة تناول الأنواع غير التقليدية.

غرائب الأطباق

عندما أنظر إلى طبق بارفيه السمان خاصتي، يدهشني أنني لم أتناول السمان من قبل. أتناول قضمة، ويكون الطعم خفيفاً ومليئاً مثل الزبدة المخفوقة، مع ملاحظات بطعم معدني دقيق أقرنه بالكبد. إنها تمثل بداية عصر جديد غامض، عصر ستكون فيه اللحوم المستزرعة متوافرة أخيراً، ولكن ليس بالطريقة التي يتوقعها أي شخص.

* مجلة «فاست كومباني»

ـ خدمات «تريبيون ميديا»