تحولات صور الحب بين الأزمنة

ظاهرة العولمة فرضت نموذجاً يكاد يكون عابراً للقارات والثقافات

جين أوستن - «خمسون ظلا للرمادي»... صورة الحب في عصرنا
جين أوستن - «خمسون ظلا للرمادي»... صورة الحب في عصرنا
TT

تحولات صور الحب بين الأزمنة

جين أوستن - «خمسون ظلا للرمادي»... صورة الحب في عصرنا
جين أوستن - «خمسون ظلا للرمادي»... صورة الحب في عصرنا

الحُبّ أقدم بكثير من الرأسماليّة، لكن الأخيرة في موجة صعودها المتعاظم تبنت نسخة خاصة من حبٍ رومانسي موهوم يقوم على الرغائب اللحظيّة الفائرة فجعلت منها محور الثقافة المعاصرة، وتماهت معها حتى لم يعد من السهل تفريق أي منها عن الأخرى، لترهق بها أرواح البشر المسحوقين.
لم تك تلك صدفة مطلقاً، فنموذج الحبّ هذا بين البشر صنعته الرأسماليّة، فخَدَمَ أهدافها العميقة وأمطرها بالكثير من العوائد، دون أقل اعتناء بالقلوب الخائبة الملقاة على قارعة الاستهلاك.
الطريقة التي ينظّم بها المجتمع البشري نفسه تضمنت دائماً تأثيراً حاسما على إحساس الأفراد بذواتهم وعلاقاتهم بالآخرين وتصوراتهم عن خبرات الحياة المتدفقة، وعلى رأسها الحب. فبناء على تنشئتهم الاجتماعيّة يكبرون مع تصور محدد عن طبيعة العلاقة مع هذا الآخر وتوقعاتهم منها، وتكون دراميات عيشهم في المحصلة انتشاء بتحقق تلك التوقعات أو خيبات من عدمها.
النّموذج الحاكم لطبيعة تلك التنشئة اختلف بتنوع طرائق كسب العيش – أو وسائل الإنتاج إذا شئت. وهكذا فإن الحُبّ في أجواء قصور النبلاء بالعصور الوسطى مثلاً كان يقوم أساساً على الإخلاص المتبادل الذي لا تهدده الأيام أو المسافات بين الفارس النبيل والسيّدة الجميلة، وكان ذلك انعكاساً مباشرا لطبيعة العلاقة المفترضة بين اللّورد ورعاياه حيث هذا الإخلاص المتبادل هو سر استمرار الهيمنة: الفارس في خدمة سيّده، والسيّدة تجمّل نفسها لتكون جزءا من أجواء سعادة البلاط، بينما يتطلع الأقنان إلى تلك العلاقات بوصفها النموذج الذي يحتذى في الأحلام. وحتى عندما سمحت الأعراف بتوريث النساء تلك الملكيّات الشاسعة، ظهر نموذج المرأة القويّة التي تسمح لها صلاحياتها الموروثة بالاستمتاع بالعلاقات المتحررة من قيود الزواج التقليدي في إطار البلاط، وهو ما أنتج تسامحاً ملحوظاً بعدها مع علاقات الغرام الآثم خارج القيود البطريركيّة التقليديّة الأمر الذي تكرر في أجواء الرّعايا عموماً.
لاحقاً وفي عصر النهضة وبدايات تكوّن الرأسماليّة فإن مسألة «تحرر» النساء تلك لم تعد ذات قيمة اجتماعيّة، إذ أن نخبة المجتمع البرجوازي الصاعد في الغرب كانت مأخوذة بصناعة الأرباح التي تدرّها التجارة المعولمة واقتصاد الصناعات الجديدة ولم يكن لديها أوقات الفراغ الهائلة التي كان يوفرها الإقطاع للنخب النبيلة المَحْتَد. ولذا أعيد ترتيب العلاقات بين الرّجال والنساء لتشجيع العفّة والفضيلة الدينيّة، وغُيّبت النساء من الفضاء العام، تماماً على نسق العلاقات المجتمعيّة الهرميّة التي يحتاجها المجتمع الجديد بين الحاكم المطلق ورعاياه، الرجل وعائلته، ولاحقاً بين ربّ العمل والعامل. لقد كان الوقت مناسباً لاستعادة القيم البطريركيّة من جديد، حيث الحُبّ غايته الزّواج والإنجاب والعناية بالمنزل في غياب العامل ورب العمل كليهما خلال معظم النّهار، وأي تجاوز من النساء لحدود تلك المؤسسة كان يعني مصيراً قاسيا. ولعلّ النهاية الحزينة لآن بولين الزوجة الثانيّة للملك هنري الثاني مثال عملي على هذا التحول في منظومة القيم الحاكمة بين جيلين والذي دفعت السيّدة بولين ثمنه رأسها ذاته.
الحبّ في المجتمع البرجوازي الغربي اللاّحق - الذي اكتمل بالإصلاح الديني الأوروبي - قضى على فكرة الإخلاص والعشق المتبادل كما كانت نسخته في عصور النبلاء ليصبح أقرب إلى نوعٍ من تجربة نرجسيّة لاكتشاف المشاعر الدّاخليّة وتحقيق الذّات في ظل ضعف قيود الدّين القاسية. لقد استبدلت بالتجربة الروحيّة التي كان يقدّمها الإيمان للبشر رومانسية الحُب كدربٍ بديلٍ للخلاص. وربما ذلك يفسّر الشعبيّة الهائلة التي حصلت عليها روايات جين أوستن مثلاً. لقد كان البرجوازيون بحاجة إلى مصدر إلهام يملأ أكوانهم بمعنى ما ويمكنهم من تخيّل أنفسهم أبطالاً في حياتهم الأرضيّة القصيرة الفانية هذه.
الرأسماليّة الناضجة وبدءًا من القرن العشرين راحت تأخذ البشر في اتجاه آخر تماماً: البحث الذي لا يمل عن الجديد والعجائبي والمختلف، وهي شيّدت دعائم منظومة تعظيم أرباحها من خلال دفع البشر إلى المتع العابرة والاستهلاك المتصاعد. والحبّ بشكله الطّهراني الشفيف كما تنحته الروايات القديمة لم يكن ليساعد في ذلك، فالعلاقات المرتاحة المتوازنة طويلة المدى بين شريكين لم تعد تثير الخيال، فكان لا بدّ من إعادة تعليب الحبّ على نسق آخر عن طريق ابتداع دائرتين منفصلتين متناقضتين لحياة البشر: فضاء العمل الذي تسنده مؤسسة زوجيّة لضمان صحة الأفراد واستعادتهم النشاط بعد ساعات العمل الطويلة وكذلك لإعادة إنتاج عمّال المستقبل الخاضعين، الذين حلمهم الأكبر الحصول على وظيفة محترمة في خدمة أساطين الرأسماليّة، مقابل فضاء وقت الفراغ الذي يقوم على مطاردة الرّغبات الفائرة أكثر من أي شيء. هذا الانشطار الموهوم بين الدائرتين يقترح شكلاً من الحبّ يدفعنا لإعادة تقديم ذواتنا بشكل طازج كل يوم لنكون موضوع رغبة الآخر. وما كان يكفي بالأمس لم يعد ذا صلة اليوم، إذ أن الموضة تتسارع، والألوان تتشظى والتكنولوجيات تصاب بجنون التطور، ويصبح أساس نجاح العلاقة الزوجيّة القدرة على مجاراة تجدد معطيات الاستهلاك الرأسمالي: شقة أفخم، كهربائيّات أحدث، سفر إلى جزر بعيدة، تظاهر كاذب دون ودّ حقيقي متراكم بل وربما خيانات جانبيّة عابرة من الطرفين لملء الفراغ العاطفي الذي لا يرحم وإشباع الرغبات المنحرفة التي لا تشتعل إلا خارج المنزل المألوف. فالاستهلاك لا يحقق تصالحاً دائماً مع الذّات والآخر، كما أن حدود القدرة الإنسانيّة على الاستمرار في المنافسة غير العادلة والعبوديّة للعمل والسلوكيّات المضرّة بالصحة التي تتضمنها صيغة الحياة في ظل الرأسماليّة المعاصرة تضع الإنسان تحت ضغوط هائلة تجعله غير قادر على إقامة علاقة سويّة مستدامة مع هذا الآخر. وهكذا يكون البديل أشكالاً منحرفة من الحب الجسدي المحض القائم على إشعال متصاعد للرّغبات وقوده مزيدا من الاستهلاك. ولذا قد تكون رواية إي إل جيمس (خمسون ظلاً للرّمادي) صورة الحب كما هو في عصرنا تماماً: وهم الاكتمال المستحيل من خلال الاستسلام للرغائب. إنه متاهة الحبّ الذي لا حب فيه.
تحولات صور الحب بين الأزمنة كما في الغرب وإلى القرن التاسع عشر لم تكن بالطّبع النّموذج الأوحد لتطور علاقات الحبّ البشري، إذ أن المجتمعات المختلفة في الشرق والغرب عاشت تجارب متفاوتة بما خصّ تطور طرائق العيش فيها انعكست بالضرورة على طبيعة العلاقات الخاصة – والعامة - بين الأفراد. لكن ظهور الرأسماليّة وتمكنها من بسط هيمنتها بشكل متزايد على معظم أرجاء المسكونة منذ القرن التاسع عشر أفرز ظاهرة عولمة غير مسبوقة في التاريخ فرضت نموذجاً يكاد يكون عابراً للقارات والثقافات لما ينبغي أن يكون عليه العيش ومنه في الأساس الحبّ والأدوار الجندريّة وحتى شكل النموذج المادي للحلم الاستهلاكي – الذي صار بالضرورة أميركيّاً بعد الحرب العالميّة الثانية. لقد توحدت البشريّة في عبوديتها للرأسماليّة الحديثة، وخضع لها بدوره الحبّ منصاعاً، فجعلت منه مصدر ربح عالميا متصاعدا تحسده عليه كل صناعة أخرى ربما باستثناء صناعة أدوات القتل. لم يحتج الحبّ أبداً إلى يومِ عيدٍ عامّ يُقيم الأرض انتشاء به ولا يُقعدها قبل قيام إمبراطوريّة الاستهلاك العالميّة. لكن الأعياد زيت عجلة الرأسماليّة الحديثة، فليكن إذن للحب عيد يُدير تلك العجلة حتى يسلّمها إلى عيدٍ آخر في ثوبِ عاطفة موهومة أخرى.



مصر تُكرّم فنانيها الراحلين بالعام الماضي عبر «يوم الثقافة»

مصطفى فهمي في لقطة من أحد أعماله الدرامية
مصطفى فهمي في لقطة من أحد أعماله الدرامية
TT

مصر تُكرّم فنانيها الراحلين بالعام الماضي عبر «يوم الثقافة»

مصطفى فهمي في لقطة من أحد أعماله الدرامية
مصطفى فهمي في لقطة من أحد أعماله الدرامية

في سابقة جديدة، تسعى من خلالها وزارة الثقافة المصرية إلى تكريس «تقدير رموز مصر الإبداعية» ستُطلق النسخة الأولى من «يوم الثقافة»، التي من المقرر أن تشهد احتفاءً خاصاً بالفنانين المصريين الذي رحلوا عن عالمنا خلال العام الماضي.

ووفق وزارة الثقافة المصرية، فإن الاحتفالية ستُقام، مساء الأربعاء المقبل، على المسرح الكبير في دار الأوبرا، من إخراج الفنان خالد جلال، وتتضمّن تكريم أسماء عددٍ من الرموز الفنية والثقافية الراحلة خلال 2024، التي أثرت الساحة المصرية بأعمالها الخالدة، من بينهم الفنان حسن يوسف، والفنان مصطفى فهمي، والكاتب والمخرج بشير الديك، والفنان أحمد عدوية، والفنان نبيل الحلفاوي، والشاعر محمد إبراهيم أبو سنة، والفنان صلاح السعدني، والفنان التشكيلي حلمي التوني.

أحمد عدوية (حساب نجله محمد في فيسبوك)

وقال الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة المصري في تصريحات الأحد، إن الاحتفال بيوم الثقافة جاء ليكون مناسبة وطنية تكرم صُنّاع الهوية الثقافية المصرية، مشيراً إلى أن «هذا اليوم سيُعبِّر عن الثقافة بمعناها الأوسع والأشمل».

وأوضح الوزير أن «اختيار النقابات الفنية ولجان المجلس الأعلى للثقافة للمكرمين تم بناءً على مسيرتهم المميزة وإسهاماتهم في ترسيخ الهوية الفكرية والإبداعية لمصر». كما أشار إلى أن الدولة المصرية تهدف إلى أن يُصبح يوم الثقافة تقليداً سنوياً يُبرز إنجازات المتميزين من أبناء الوطن، ويحتفي بالرموز الفكرية والإبداعية التي تركت أثراً عظيماً في تاريخ الثقافة المصرية.

وفي شهر أبريل (نيسان) من العام الماضي، رحل الفنان المصري الكبير صلاح السعدني، الذي اشتهر بلقب «عمدة الدراما المصرية»، عن عمر ناهز 81 عاماً، وقدم الفنان الراحل المولود في محافظة المنوفية (دلتا مصر) عام 1943 أكثر من 200 عمل فني.

صلاح السعدني (أرشيفية)

كما ودّعت مصر في شهر سبتمبر (أيلول) من عام 2024 كذلك الفنان التشكيلي الكبير حلمي التوني عن عمر ناهز 90 عاماً، بعد رحلة طويلة مفعمة بالبهجة والحب، مُخلفاً حالة من الحزن في الوسط التشكيلي والثقافي المصري، فقد تميَّز التوني الحاصل على جوائز عربية وعالمية عدّة، بـ«اشتباكه» مع التراث المصري ومفرداته وقيمه ورموزه، واشتهر برسم عالم المرأة، الذي عدّه «عالماً لا ينفصل عن عالم الحب».

وفي وقت لاحق من العام نفسه، غيّب الموت الفنان المصري حسن يوسف الذي كان أحد أبرز الوجوه السينمائية في حقبتي الستينات والسبعينات عن عمر ناهز 90 عاماً. وبدأ يوسف المُلقب بـ«الولد الشقي» والمولود في القاهرة عام 1934، مشواره الفني من «المسرح القومي» ومنه إلى السينما التي قدم خلالها عدداً كبيراً من الأعمال من بينها «الخطايا»، و«الباب المفتوح»، و«للرجال فقط»، و«الشياطين الثلاثة»، و«مطلوب أرملة»، و«شاطئ المرح»، و«السيرك»، و«الزواج على الطريقة الحديثة»، و«فتاة الاستعراض»، و«7 أيام في الجنة»، و«كفاني يا قلب».

الفنان حسن يوسف وزوجته شمس البارودي (صفحة شمس على فيسبوك)

وعقب وفاة حسن يوسف بساعات رحل الفنان مصطفى فهمي، المشهور بلقب «برنس الشاشة»، عن عمر ناهز 82 عاماً بعد صراع مع المرض.

وجدّدت وفاة الفنان نبيل الحلفاوي في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، الحزن في الوسط الفني، فقد رحل بعد مسيرة فنية حافلة، قدّم خلالها كثيراً من الأدوار المميزة في الدراما التلفزيونية والسينما.

السيناريست المصري بشير الديك (وزارة الثقافة)

وطوى عام 2024 صفحته الأخيرة برحيل الكاتب والمخرج بشير الديك، إثر صراع مع المرض شهدته أيامه الأخيرة، بالإضافة إلى رحيل «أيقونة» الأغنية الشعبية المصرية أحمد عدوية، قبيل نهاية العام.