آلان تيورينغ.. البحث عن كائنات أذكى

كان لفكرته دور مهم في الحرب العالمية الثانية

آلان تيورينغ
آلان تيورينغ
TT

آلان تيورينغ.. البحث عن كائنات أذكى

آلان تيورينغ
آلان تيورينغ

يبدو أن كرت غردل، عالم المنطق الذي تحدثنا عنه هنا سابقا، لم يكن لا منطقيا بالكامل حين قرر ألا يأكل إلا من يد زوجته، الوحيدة التي كان يثق فيها، فقد مات معاصره عالم المنطق الرياضي البريطاني آلان تيورينغ (Alan Turing) وإلى جانبه تفاحة مسمومة كان قد أكل جزءا منها.
الأسبوع الماضي أذاعت وكالة الأنباء البريطانية «BBC» برنامجا خاصا عن حياة تيورينغ الذي وضعه الرئيس الأميركي أوباما في خطبته في لندن ضمن هذه المجموعة «نيوتن، داروين، آينشتاين، ستيف جوبز» كقادة لعالم الإبداع. ولد تيورينغ في يناير (كانون الثاني) 1912 في لندن ليعاصر طفلا الحرب العالمية الأولى ويعاصر شابا يافعا وعالما بارعا الحرب العالمية الثانية التي سيكون له فيها دور لا يستهان به. أظهر تيورينغ في طفولته المبكرة اهتماما بارزا بالعلوم والرياضيات، واهتماما محدودا بغير ذلك من العلوم. وككثير من قصص غيره من البارزين لم يكن أداء تيورينغ في سنينه المبكرة في المدرسة مبشرا بأي تميز ما عدا في الرياضيات. لاحقا في جامعة كمبردج التي انضم لها سنة 1931 سيعلن تيورينغ انضمامه لنخبة الرياضيين على مستوى العالم.
كان الرياضي الألماني الأشهر في عصره ديفيد هلبرت (David Hilbert) قد أعاد التذكير سنة 1928 بالأسئلة الرياضية الأهم التي لم تتم الإجابة عنها حتى ذلك الوقت، والتي تم الإعلان عنها لأول مرة في اجتماع الكونغرس الرياضي في باريس سنة 1900. من أهم تلك الأسئلة، الثلاثة التالية: أولا: إثبات أن كل العبارات الرياضية الصحيحة يمكن إثباتها (أطروحة اكتمال الرياضيات). ثانيا: إثبات أن العبارات الصحيحة هي فقط ما يمكن إثباته (أطروحة اتساق الرياضيات). ثالثا: إثبات أنه يمكن الحصول على منهج أو إجراء يمكن من خلاله الحكم على عبارة رياضية بأنها صحيحة أو خاطئة (أطروحة التقرير أو الحكم).
قبل تيورينغ، كان كرت غردل قد أثبت أن المهمتين الأولى والثانية مستحيلتان. بين عامي 1935 و1936 كان تيورينغ يعمل على جوابه على المهمة الثالثة التي ستكون سلبية كما فعل غردل. أي أنها ستكون مهمة إثبات استحالة الأطروحة الثالثة. إثبات استحالة أمر ما في المنطق والرياضيات من أصعب المهام، لأن المطلوب ليس فقط إثبات عدم وجود الشيء بل استحالة وجوده. هذا يتم من خلال إثبات أن احتمال وجود هذا الشيء يؤدي مباشرة إلى استحالة وجوده. كانت فكرة تيورينغ كالتالي: وجود إجراء أو منهج ثابت يعني القيام بعمل تطبيقي روتيني متشابه يفترض أن يوصلنا للنتيجة المطلوبة. هذه المهمة آلية ويمكن بالتالي أن نتخيّل آلة مبرمجة تقوم بهذه المهمة (آلة ذكية - كومبيوتر). في عصر تيورينغ كانت هناك آلات تنفيذية كالآلة الكاتبة لكنها عاجزة عن التعامل مع مخرجاتها. الآلة الكاتبة لا تعلم شيئا عما تكتب. كان تيورينغ يبحث عن آلة أذكى تستطيع أن تقرأ وتتعامل مع مخرجاتها. كان هذا يعني أن تتعامل الآلة مع رموز وحركات محددة تمكنها من القيام بعملها آليا. آلة بلغة مكونة من الرقمين 1 و0 قادرة على هذه المهمة. مستعينا بعمل جورج كانتور (Georg Cantor) توصل تيورينغ إلى أن الآلة التي يفكر فيها والمطلوبة لإنجاز مهمة هلبرت تحتاج خطوات لا منتهية وبالتالي فهي عاجزة عن إنتاج أي جواب. وصول الآلة لجواب يعني أنها تتحرك في حلقة مغلقة السؤال بدايتها والجواب نهايتها، وهذا يعني عددا منتهيا من الخطوات. آلة تيورينغ متورطة في خطوات لا منتهية وبالتالي فلا أمل من وصولها إلى جواب. يقول ستيفن هوكنغ في كتابه الضخم «الله خلق الأعداد الصحيحة»: «في حدود ست سنوات كان غردل وتيورينغ قد مزقا حلم هلبرت».
كان لهذه الفكرة وهذا الآلة النظرية دور مهم في الحرب العالمية الثانية، حين طلبت السلطات البريطانية من تيورينغ أن يتعاون معها لفك الشفرات الألمانية وتحديدا ما كان يعرف بشفرة «إنيغما» الألمانية. إنجاز تيورينغ في هذه المهمة أهله للحصول على تقدير حكومي بقي سريا حتى وفاته بسبب السرية التي كانت مفروضة على طبيعة عمله أثناء الحرب. علاقة تيورينغ مع السلطات الأمنية المتحفزة أثناء الحرب لم تكن دائما إيجابية، وربما فتحت أصعب مشهد في حياته. تيورينغ كان مثليا جنسيا منذ طفولته في وقت كانت المثلية الجنسية فيه في بريطانيا تعد جريمة يعاقب عليها القانون. في 1952 كان تيورينغ على علاقة جنسية مع شخص آخر قام بسرقة بعض مقتنياته. ذهب تيورينغ ليبلغ عن السرقة ليدلي بسذاجة للشرطة عن طبيعة علاقته الجنسية مع ذلك الرجل. وصل تيورينغ والسلطات القضائية لخيارين: الأول السجن لمدة سنتين، والثاني تناول عقاقير أنثوية مهمتها إضعاف النشاط الجنسي الذكوري لديه.. فاختار العرض الثاني ليدخل بعدها في حالة حادة من الاكتئاب أدت إلى وفاته «منتحرا» بعدها بسنتين.
لم يكن تيورينغ كائنا اجتماعيا طوال عمره في مجتمع يضغط على أفراده أن يلتزموا بنسق عام قد لا يناسب جميع الأفراد. هذا مشهد خصب للعزلة والاكتئاب، وربما كان الدافع الأقوى للبحث عن آلات أذكى من الإنسان يمكن أن تتفهم تيورينغ وخياراته. سلوكه الجنسي دفع كذلك بالسلطات الأمنية للارتياب في مدى قدرته على الحفاظ على سرية المعلومات التي يمتلكها من خلال عمله معها أثناء الحرب. هذا الشك يدفع باتجاهات أخرى لتفسير وفاة تيورينغ. بحسب والدته فإن تيورينغ ليس من النوع الذي يقدم على الانتحار، فقد عرفت عنه قوة العزيمة. بالنسبة لها فإن فرضية كون الوفاة نتيجة لحادثة تلوث أقرب للواقعية. دائما كان تيورينغ يقوم بتجارب كيميائية في منزله، ومن الوارد حدوث خطأ ما أدى إلى تسمم التفاحة التي أكلها. بالنسبة لكرت غردل فإن هناك احتمالا آخر أشد خطورة لتفسير ما حدث لزميله تيورينغ جعله يمتنع عن الأكل إلا من يد الكائن الوحيد الذي يثق فيه.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.