الصحافة النسوية في العالم العربي... 126 عاماً من حراك الحبر

قادتها «الفتاة» المصرية وتبعتها «ليلى» العراقية

غلاف «ليلى» العراقية من أرشيف  المكتبة الرقمية العالمية - مجلة الفتاة أول تجربة صحافية نسوية - من أهم المجلات النسوية المصرية التي صدرت  بعد ثورة 23 يوليو 1952
غلاف «ليلى» العراقية من أرشيف المكتبة الرقمية العالمية - مجلة الفتاة أول تجربة صحافية نسوية - من أهم المجلات النسوية المصرية التي صدرت بعد ثورة 23 يوليو 1952
TT

الصحافة النسوية في العالم العربي... 126 عاماً من حراك الحبر

غلاف «ليلى» العراقية من أرشيف  المكتبة الرقمية العالمية - مجلة الفتاة أول تجربة صحافية نسوية - من أهم المجلات النسوية المصرية التي صدرت  بعد ثورة 23 يوليو 1952
غلاف «ليلى» العراقية من أرشيف المكتبة الرقمية العالمية - مجلة الفتاة أول تجربة صحافية نسوية - من أهم المجلات النسوية المصرية التي صدرت بعد ثورة 23 يوليو 1952

يعود تاريخ إسهام النساء في مجال الصحافة والنشر إلى عام 1876 في جريدة «المقتطف» ببيروت. هناك، استطاعت كاتبات مثل مريانا مراش وسلمى طنوس وندى شاتيلا جذب اهتمام القراء بمقالاتهن عن الحداثة الأوروبية والفكر والثقافة والأدب. لكن الشرارة الأولى لانطلاق الصحافة النسوية كانت في عام 1892 حينما صدر أول عدد من مجلة «الفتاة» بمدينة الإسكندرية المصرية، التي كانت آنذاك عاصمة مصر الصحافية. ومنذ ذلك الوقت، لعبت الصحافة النسوية دوراً كبيراً في النهوض بالصحافة العربية، واستطاعت تحرير المرأة وتطوير المجتمعات وتحقيق نهضة في العالم العربي.
كانت «الفتاة» وفقاً لتوصيف مؤسستها الشامية هند نوفل: «جريدة علمية تاريخية أدبية فكاهية مختصة في جنسها، مبتكرة تحت سماء الشرق بموضوعاتها. لا غرض لها في الأمور السياسية، ولا منزع فيها إلى المشاحنات الدينية، ولا غاية لها من البحث في مواضيع لا فائدة منها للنساء، ولا مطمع لها في المناظرات إلا ما كان في أدب الهيفاء ومحاسن الحسناء». وقال عنها جورجي زيدان مؤسس مجلة «الهلال» (1892): «مجلة (الفتاة) جمعت لطف المرأة ونشاط الرجل، ووضعت حجر الأساس في زاوية البناء لهذا الفن، وجرأت غيرها على الإقدام عليه».
تقول د. نعمات عثمان، مؤلفة كتاب «تاريخ الصحافة السكندرية» في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «كانت مجلة (الفتاة) أول مجلة تخاطب النساء وتؤسسها امرأة هي هند نوفل، وكانت مصر وقتها تقدم مناخاً من الحرية وتشهد نهضة تنويرية في مجال الكتابة والنشر بشكل عام، فيما كانت الإسكندرية المدينة التي بدأت بها أول الصحف وأول مطبعة عربية».
وتضيف: «كانت المجلة تنادي بتعليم المرأة وتهذيبها، وتقدم تقارير عن أخبار النساء حول العالم، كالمعارض الفنية للفنانات الفرنسيات، والنجاحات التي تحققها النساء مثل ملكة إنجلترا، إلى جانب نماذج من الشعر العربي للنساء، واهتمت بالسيدات في الحضارات القديمة في مصر والعراق وغيرها». واستطردت: «ثم مزجت «الفتاة» بين الدعوة لتعليم المرأة والدعوة لعمل المرأة ودورها في نهضة المجتمع، كما أسهمت في ظهور أقلام نسوية في عدد من الصحف، وأفسحت المجال للصحافيات لإصدار مجلات نسوية أخرى والكتابة في الصحف العامة»، مشيرة إلى ظهور «كاتبات مثل سلمى قساطلي والياصبات كساب وعفيفة آظن وزينب فواز».
توقفت الفتاة عن الصدور عام 1894 بسبب زواج هند نوفل. وفي عام 1896 ظهرت في القاهرة مجلة نصف شهرية باسم مريم مزهر، وكان هذا الاسم المستعار للأديب اللبناني سليم سركيس، وفق عثمان.
وتضيف: «في عام 1898 ظهرت بالإسكندرية مجلة (أنيس الجليس) لصاحبتها اللبنانية ألكسندرا أفرينو، صاحبة أول صالون أدبي في منزلها بحي زيزينيا، ولعبت هذه المجلة دوراً تنويرياً كبيراً، وبدأت تطالب الحكومة بدعم الصحافة وتخفيض رسوم الورق والحبر، ولا شك أن كل ذلك مهّد لظهور كاتبات وأديبات، مثل مي زيادة وروز اليوسف، ووصل عدد المجلات والصحف النسوية بعدها إلى أكثر من 20 مجلة».
وتلفت «كما شهدت الإسكندرية أيضاً صدور أول جريدة نسوية يومية صحيفة (الجهاد) على يد زينب عبد الحميد في عام 1924».
ويكشف د. محمود عزت، مؤلف كتاب «دار الهلال مدرسة التنوير» لـ«الشرق الأوسط» أنه عقب صدور مجلة «الفتاة» بالإسكندرية، ظهرت دوريات نسوية أخرى بلغ مجموعها نحو 30 دورية، وقد ساعدت ثورة 1919 وما تبعها من أحداث سياسية في تثبيت أقدام الصحافة النسوية في مصر إلى قيام ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، حيث أصبحت المرأة من عناصر التطور وبناء المجتمع الجديد الرئيسية»، ويضيف: «مجلة (حواء الجديدة) التي أصدرتها دار الهلال عام 1955 كانت أهم المجلات النسوية الشهرية التي صدرت بعد ثورة 23 يوليو 1952، ورأست تحريرها السيدة أمينة السعيد لمدة 25 عاماً وجعلت منها مجلة رائدة موجهة ليس فقط لحواء بل ولآدم أيضاً».
وقد قام مشروع ذاكرة مصر المعاصرة بمكتبة الإسكندرية بتوثيق نشأة الصحافة المصرية، إلا أن مؤسسة المرأة والذاكرة ورئيسه مجلس أمنائها د. هدى الصدة قامت بجمع أعداد «الفتاة» كاملة في مجلد صدر 2007، بعد أن حصلت عليها من أرشيف جامعة «يال» الأميركية.
وإذا بحثنا عن نشأة الصحافة النسوية سنجد أن الصحف والمجلات النسوية في العالم العربي نشأت وازدهرت بالتزامن مع حركة الطباعة والنشر ما بين مصر ولبنان، وأتاحت «الفتاة» المساحة لأقلام عدد من الكاتبات أسسن بعد ذلك مجلاتهن.
في عام 1899 برز اسم استير أزهري حينما أسست مجلة «العائلة» بالقاهرة، وفي عام 1901 ظهرت مجلة «شجرة الدر» للأديبة سعدية سعد الدين، واتسمت بشمولية أكبر، وصدرت مجلة «المرأة» في العام نفسه التي أسستها أنيسة عطا الله، وعام 1902 صدرت مجلة «السعادة» التي أسستها روزة أنطوان.
في سوريا ظهرت مجلة «فتاة الشرق» على يد الشاعرة لبيبة ماضي هاشم عام 1906. وفي القاهرة أصدرت جميلة حافظ مجلة «الريحانة»، وكانت تلك أول مجلة نسوية أصدرتها سيدة مصرية. وتلتها مجلة «الجنس اللطيف» عام 1908 التي أسستها ملك سعد.
فيما ظهرت الصحافة النسوية في الجزائر عام 1907 على يد مؤسستها «ديريو» وهو اسم الشهرة الذي كانت توقع به مجلة «الأحياء» التي كانت «إسلامية أدبية إخبارية»، وفي عام 1910 تولت سليمة أبي راشد رئاسة تحرير جريدة «النصير السياسية»، وكانت أول صحافية تقتحم الصحافة السياسية، وبعد عامين أسست مجلة نسوية «فتاة لبنان» وكان السبب الرئيسي وراء عدم استمرار كثير من المجلات والصحف هو إما الأزمات المالية، أو التضييق على حرية الصحافة، أو الحروب خاصة فترة الحرب العالمية الأولى.
أما في العراق، فقد كان إسهام النساء في الصحافة قوياً منذ أن صدر العدد الأول من مجلة «ليلى» 1923 كمجلة شهرية ترأس تحريرها بولينا حسون، وحتى الآن حيث تقدم الصحافيات العراقيات نموذجاً يُحتذى به في تفانيهن بالعمل الصحافي الميداني، إذ برزت أسماء لامعة للصحافيات مثل ندى شوكت ومريم السناطي وسناء النقاش وابتسام عبد الله ومنى سعيد ورجاء خضير وإلهام عبد الكريم.
تقول الصحافية العراقية سناء نقاش، عضو مجلس نقابة الصحافيين العراقيين وعضو «الجندر العالمية للصحافيات النسائيات»، لـ«الشرق الأوسط»: «كانت المجلة النسوية الأولى في العراق مجلة (ليلى)، وهي مجلة نسوية صدرت في عهد ملك العراق فيصل الأول، ولعبت دوراً في تعزيز نهضة المرأة العراقية الأدبية. كانت تقدم مواد في العلم والفن والأدب والاجتماع، لا سيما تهذيب الفتاة وتربية الأولاد وصحة الأسرة وسائر ما يختص بتدبير المنزل».
يشير موقع المكتبة الرقمية العالمية التابع لمكتبة الكونغرس، الذي يضم أعداد مجلة «ليلى» إلى أنه قد صدر منها 20 عدداً فقط. وقد تضمنت في عددها الأخير، بتاريخ 15 أغسطس (آب) 1925، مقالة حزينة شرحت للقراء الوضع المالي الصعب للمجلة.
وبعد ذلك بوقت قصير، غادرت صاحبة المجلة بولينا حسون العراق وتوقفت المجلة.
وتضيف نقاش: «بعد مجلة (ليلى) كان هناك عدد آخر من الصحف التي اهتمت بشؤون المرأة والطفل. وفي سبعينات القرن الماضي صدرت مجلة (المرأة)، واستمرَّت بالصدور حتى 2003، حيث توقفت بسبب الاجتياح الأميركي، ولكن عمل الصحافيات لم يقتصر على هذه المجلة، بل كُنّ يشكلن العمود الرئيسي في كل الصحف من السبعينات وحتى 2003 في صحف (الجمهورية) و(الثورة) و(العراق) و(بابل) وكانت لهن مشاركة مميزة أيضاً في جريدة (القادسية)، على الرغم من كونها جريدة عسكرية تصدر عن وزارة الدفاع في حينها ومجلة (ألف باء) و(الإذاعة والتلفزيون) وصحف أسبوعية أخرى».
لم يتوقف دور الصحافة النسوية العراقية، تضيف نقاش: «نحن الآن 3500 صحافية وهناك 27 رئيسة تحرير و35 سكرتير تحرير وأكثر من 20 مديرة تحرير». وتقول: «كصحافيات عراقيات استطعنا إنجاز الكثير، وقدمنا صحافة تتمرد على غرفة التحرير وتنقل الأحداث من أرض المعركة، وسقطت 35 صحافية شهيدة وهن ينقلن الكلمة الصادقة ولا يزال في جعبتنا الكثير لنقدمه».


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.