لم يمضِ عام على وجود إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه الذي وصل إليه في شهر مايو (أيار) الماضي في انتخابات رئاسية فريدة من نوعها في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة. رئيس تحت سن الأربعين. لا حزب وراءه ولا خبرات سياسية متراكمة يتمتع بها. فقط، حركة سياسية «إلى الأمام» رأت النور قبل أقل من عام. لا من اليمين ولا من اليسار. ورغم ذلك كله وبعد أن اتهمته الأطراف الأخرى المتحالفة ضده بأنه «فقاعة إعلامية»، كذّب ماكرون كافة التوقعات والتنبؤات ليتأهب للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وليطرح منافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان أرضاً وليصبح ثامن رئيس للجمهورية. وإذا استمر ماكرون على انطلاقته الحالية وفي وضع سياسي مرتبك، فإن الرهان على إعادة انتخابه لولاية ثانية في عام 2022 سيكون رابحاً.
في أكثر من مناسبة، شرح ماكرون رؤيته للرئاسة ودور الرئيس غارفا من الميثولوجيا الرومانية ليستعيد صورة الإله جوبيتير «إله الآلهة والمتحكم بكل شيء على الأرض وفي السماء». والترجمة السياسية لهذه الرؤية، أن رئيس الجمهورية هو الآمر الناهي، وصاحب الكلمة الفصل في سياسات الدولة في الداخل والخارج. وبالفعل، فإن ماكرون فرض نفسه مرجعاً لكل شيء. وفي حين رفع الرئيس السابق فرنسوا هولاند شعار «الرئيس العادي» الذي لا يختلف عن أي مواطن بشيء، فإن ماكرون اعتمد خطاً مغايراً تماماً. وما ساعده على ذلك أنه أحدث ثورة «جوبيتيرية» في المشهد السياسي الفرنسي. انتخابه قلب الموازين وشكّل بداية لعصر «جديد». الأحزاب التقليدية من اليمين واليسار أقرب إلى الموت السريري. اليسار الاشتراكي تشظى بعد أن فشل مرشحه الرئاسي الرسمي بونوا هامون في اجتياز اختبار الجولة الرئاسية الأولى. كذلك حال مرشح اليمين الكلاسيكي فرنسوا فيون. وجاءت الهزيمة المزدوجة للحزبين اللذين تعاقبا على رئاسة فرنسا منذ نحو ستين عاماً لتوجد واقعاً سياسياً جديداً. الحزب الاشتراكي المنطوي على ذاته اضطر إلى بيع مقره الرئيسي في الدائرة السابعة من باريس. أما الحزب اليمين، فهو غير قادر حتى الآن على النهوض من كبوته رغم انتخاب رئيس جديد له هو لوران فوكييز الذي يمثل الجناح اليميني للحزب الأمر الذي لا ينال رضا عدد من باروناته ومحازبيه. كانت «ضربة المعلم» التي لعبها ماكرون أنه عيّن رئيس حكومة من اليمين «إدوارد فيليب» كما عيّن وزيري الاقتصاد والمال من اليمين أيضاً. وهذا «الابتكار» أدى إلى انقسام داخل صفوفه فكيف له أن يعارض رئيس حكومة خارج من صفوفه ويطبق خططاً إصلاحية اقتصادية واجتماعية عجز اليمين نفسه عن وضعها موضوع التنفيذ عندما كان ممسكاً بمفاتيح السلطة كلها وقت كان الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في قصر الإليزيه. وما زاد من انقسامات اليمين بعد الزلزال الانتخابي الذي ضربه الربيع الماضي غياب الرؤية السياسية الموحدة و«الزعيم» الذي يجسدها كما كان الأمر سابقاً مع نيكولا ساركوزي أو قبله الرئيس جاك شيراك. فبين تيار «وسطي» متمسك بالقيم الإنسانية وراغب في العمل مع الرئيس الجديد، وآخر يميل إلى اليمين المتشدد، بل يقترب في طروحاته من اليمين المتطرف الممثل بالجبهة الوطنية، ثمة حرب مفتوحة تمنعه من أن يكون معارضاً جدياً يتحلى بالصدقية. وعلى المقلب الثاني من الخريطة السياسية، يحاكي الحزب الاشتراكي صورة الديناصورات المنقرضة: لا صوت يسمع له ولا قدرة له على مقاومة «البولدوزر» ماكرون. ومأساة الاشتراكيين أنها بعد أن سيطروا على مقدرات البلاد بكاملها مع فرنسوا هولاند، هم اليوم تائهون. فلا أمين عاماً للحزب الاشتراكي صلب العود ومسموع الصوت. ولا طروحات سياسية مختلفة عما فعلوه في السلطة طيلة خمسة أعوام. والمفارقة أن التدابير والإجراءات الاقتصادية التي قاموا بها أخذت اليوم تعطي ثمارها، لكن لا أحد يريد أن يتبناها أو حتى الدفاع عنها. وبين وقت وآخر، يذكر فرنسوا هولاند بأنه ما زال حياً يرزق من خلال انتقادات خافتة لعمل ماكرون على الصعيد الاجتماعي. لكن هذه الظهور المتقطع لا يشكل سياسة ولا يحمل أي وعود للمستقبل.
ما أصاب اليمين واليسار الكلاسيكيين لم «يوفر» اليمين المتطرف الذي يعيش أزمة وجودية بعد هزيمة مارين لوبان الرئاسية. وجاءت استقالة نائب رئيسة الحزب ومنظّره الآيديولوجي فلوريان فيليبو لتبين كم أن الأزمة عميقة. كذلك، تركت الباخرة التي تغرق النائبة السابقة ماريون لوبان ــ مارشال، حفيدة المؤسس وابنة أخت مارين. والمأساة أن هذه الأخيرة التي فقدت السيطرة المطلقة على حزبها كانت تعتبر أن الوقت قد حان لتتبوأ المنصب الرئاسي بعد فشلها الأول قبل خمس سنوات وفشل والدها قبل 15 عاماً. ولذا؛ فإنها تجهد منذ مايو الماضي، لإعادة الُلحمة إلى تنظيمها السياسي؛ ما يعني أنها أصبحت «مؤقتاً» خارج الجدل السياسي. أما اليسار المتطرف ممثلاً بالمرشح الرئاسي جان لوك ميلونشون الذي يطرح نفسه وتنظيمه «فرنسا المتمردة» على أنهما «المعارض الأول» لماكرون، فإنه لم يعد يلقى آذاناً صاغية بسبب التطرف في طروحاته ورغبة الفرنسيين في إعطاء فرصة للرئيس الشاب للسير ببرنامجه الاقتصادي والسياسي بعد فشل من سبقه إلى المنصب.
يمكن القول إن ماكرون قد أوجد حالة من «انعدام الوزن» السياسي حوله، ليس فقط بسبب وضع المعارضة، بل أيضاً لأنه جاء بـ«مجهولين» إلى الحكومة باستثناء وزيرين أو ثلاثة لهم حيثية سياسية كوزير الخارجية جان إيف لودريان، الذي شغل لخمس سنوات سابقة منصب وزير الدفاع في حكومات هولاند المتعاقبة أو وزير البيئة نيكولا هولو المعروف بدفاعه المستميت عنها، أو أيضاً وزير الاقتصاد اليمين برونو لومير. وباستثناء هؤلاء، فإن وزراء ماكرون أقرب إلى كونهم موظفين يستمدون شرعيتهم منه. أما الأكثرية النيابية التي تدعمه في مجلس النواب، فهي مكونة في غالبيتها من المجتمع المدني. والأغلبية الساحقة منهم لم تحتك سابقاً بالسياسة ولم تخض أي انتخابات. ولذا؛ فإنها أصواتها تصب كما يريد الإليزيه الذي وضع على رأسها رجل يثق به هو ريشار فران، كما وضع على رأس حزبه «الجمهورية إلى الأمام» أحد أقرب الوزراء إليه، وهو الناطق السابق باسم الحكومة كريستوف كاستانير.
بفضل هذا الوضع، وجد ماكرون الساحة مفتوحة أمامه للقيام بالإصلاحات التي وعد بها. وفي أكثر من مناسبة أعلن الرئيس الفرنسي أن ما يميزه عن سابقيه في الرئاسة أنه «ينفذ ما وعد به» ولا يهمه في ذلك أن يتهم بأنه «رئيس الأغنياء» بسبب التدابير المالية والضريبية التي فرضها، ولعل أبرزها وضع حد للضريبة على الثروة واستبدالها بنظام يراعي مصالح أصحاب الثروات. وبالمقابل، فإنه عمد إلى تخفيض التقديمات الاجتماعية الخاصة بالمساعدة للسكن مقتطعاً منها 5 يوروات في الشهر، وهو مبلغ مضحك بالنظر للوفر الضئيل الذي يفضي إليه مقارنة مع ما تخسره خزينة الدولة من التخلي عن الضريبة على الثروة. ولا تتوقف الأمور عند الإصلاحات الضريبية والمالية والوصول إلى ميزانية تراعي ما تفرضه معايير الاتحاد الأوروبي. ذلك أن الإصلاح الرئيسي الذي كان الجميع يتخوف منه، ومن أنه سيصيب البلاد بحالة من الشلل مقرونة بالغليان الاجتماعي، وينزل مئات الآلاف من الموظفين والعمال والطلاب إلى الشوارع يتمثل بتعديل قانون العمل بمراسيم. والحال أن ماكرون نجح في تمريره والتسويق له بحد أدنى من التململ الاجتماعي. إضافة إلى ذلك، عمل ماكرون على ملف الأمن من خلال إقرار قانون جديد بالغ التشدد مكن الحكومة من وضع حدٍ لحالة الطوارئ المعمول بها منذ خريف عام 2015. وقبل ذلك كله، نجحت حكومته في فرض قانون حول «الشفافية السياسية» وإصلاح الممارسات النيابية. ولم يبق قطاع من التربية والثقافة وحتى الإعلام والأمن والدفاع من غير أن تطاله الإصلاحات الماكرونية.
أما على الصعيد الخارجي، فقد أعاد ماكرون فرنسا إلى واسطة العقد، إن من خلال مبادراته بخصوص إعادة إطلاق الاتحاد الأوروبي، أو تواصله مع الرئيسين الأميركي والروسي، فضلاً عن «مبادراته» بخصوص أزمات الشرق الأوسط، أكان ذلك في ليبيا أو لبنان وسوريا والملف الكردي العراقي، ناهيك عن أفريقيا، وتحديداً منطقة الساحل.
وبعد، فإن ماكرون الذي يصح عليه القول عن الشاعر المتنبي «مالئ الدنيا وشاغل الناس» موجود في كل مكان وحول الملفات كافة. ففي الخارج، أعاد للدبلوماسية الفرنسية حضورها الدولي. وهو طامح لأن يكون «الزعيم» الأوروبي، مستفيداً من «ضعف» المستشارة الألمانية ميركل ومن صعوبات رئيس الوزراء البريطانية تيريزا ماي. ومع ملف المناخ الذي نظم له قمة في باريس في ديسمبر (كانون الأول)، يريد أن يتحول إلى المدافع عن الأرض وعن الإنسانية. وبين ماكرون الداخل والخارج، تتكامل صورة رجل طموح ليس من المستبعد أن يكون «رجل العام» 2017 بعد أن رشحت مجلة « إيكونوميست» البريطانية فرنسا، في عددها الصادر بتاريخ 21 ديسمبر لأن تكون «بلد العام» بسبب الإصلاحات التي أقرها ماكرون وصورتها النمطية التي نجح في تغييرها.
إيمانويل ماكرون: الثورة الناعمة
إيمانويل ماكرون: الثورة الناعمة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة