«إعلان ترمب»... يدفع الفلسطينيين إلى الحائط

تداعيات عالمية لاعتراف أميركا بالقدس عاصمة لإسرائيل

«إعلان ترمب»... يدفع الفلسطينيين إلى الحائط
TT

«إعلان ترمب»... يدفع الفلسطينيين إلى الحائط

«إعلان ترمب»... يدفع الفلسطينيين إلى الحائط

الذي يعرفه الفلسطينيون جيداً، أنه لا يمكن توقيع اتفاق سلام وإنهاء الصراع مع إسرائيل، من دون أن تكون القدس عاصمةً للدولة الفلسطينية، وذلك لأنها باختصار «القدس»... المدينة التي تضم أقدس المقدسات الإسلامية والمسيحية، و«درة تاج المدن الفلسطينية»، والوحيدة المرتبطة بشكل عميق بالرواية والتاريخ والدين.
ولا يفهم الفلسطينيون وحدهم هذه الحقيقة. بل يفهمها العالم كله، ولذا امتنع عن تأييد ضم إسرائيل للمدينة بشقيها الشرقي والغربي، حتى جاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وأعلن الأربعاء الماضي، اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل... في «إعلان» وضع الجميع، العالم والفلسطينيين والعرب، في اختبار صعب ومعقد، وفتح الأبواب على احتمالات لا حصر لها.
في مرحلة ما، صعبة ومتقدمة في مفاوضات كامب ديفيد في الولايات المتحدة قبل 17 سنة، التي حضرها كل من الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، ضغط الأميركيون والإسرائيليون على عرفات من أجل «حل وسط» في القدس. ذلك «الحل» يشمل سيادة فلسطينية مع ترتيبات سيادية لإسرائيل في أمتار محددة في المسجد الأقصى، إلا أن عرفات أمام ذهول كلينتون وطاقمه، رفض ذلك بشدة، قبل أن يحتدّ النقاش ويتهمه كلينتون بأنه جاء هنا ليقول «لا» فقط. ثم ضغط عليه أكثر واستعان بطاقمه من أجل قبول أو تأجيل الاتفاق على القدس، فناداه عرفات لحضور جنازته إذا وافق على التنازل عن أمتار من القدس أو تركها بلا حل.
كان عرفات الزعيم الفلسطيني الأقدر على إنجاز اتفاق بهذا الشكل، لأنه كان يملك آنذاك كل شيء؛ كاريزما كبيرة، وشعبية جارفة، وتاريخاً طويلاً يحترمه الفلسطينيون كثيراً، و«قبضة حديدية» على السلطة، ودعماً عربياً وغربياً شبه مطلق، لكنه لم يفعل. وفق هذا الفهم «العرفاتي» يعمل القادة الفلسطينيون الآخرون، إذ في فلسطين ثمة مقولة معروفة «لا أحد يمكن له أن يقدم تنازلاً لم يقدمه عرفات». واليوم بعد نحو 3 عقود من المفاوضات، التي لم تحسم ملفاً واحداً، حتى الملفات الأسهل من القدس، يعترف الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب بالقدس «عاصمة كاملة لإسرائيل»، منحازاً إلى الرواية الإسرائيلية، ومتجاهلاً الروايتين الفلسطينية والعربية التاريخية والدينية... وهذا بجانب تدميره، كما يقول منتقدو الرئيس الأميركي، عملية السلام المترنحة، ووضعه الشرق الأوسط كله على مرجل يغلي، ودفعه الفلسطينيين إلى الحائط... مجبراً إياهم على مواقف وقرارات ما كانوا يرغبون بها في يوم من الأيام.

هدوء ما قبل العاصفة
في الحقيقة، لم يتوقع المسؤولون الفلسطينيون إقدام ترمب على هذه الخطة، ربما لأنهم اعتقدوا، على الأقل، أن الصفقة التي يحضّر لها الرجل ستمنعه من خطوات تدميرية، ولأنه أيضاً يحظى بعلاقات جيدة مع دول عربية ترفض المسّ بالمدينة، لكن ترمب اعتبر أن خطوته هذه تمثل «نهجاً جديداً» تجاه النزاع العربي الإسرائيلي. وهو مبرر لم يفهمه الفلسطينيون الذين وضعهم الرئيس الأميركي في «الزاوية» ودفعهم من أجل مواجهةٍ ربما لا قِبلَ لهم بها.
الآن يدرس الفلسطينيون خياراتهم الصعبة. وبصراحة قال مصدر فلسطيني كبير لـ«الشرق الأوسط» إن «الخيارات صعبة لكن لا يمكن أن يمر القرار مرور الكرام». وأضاف «ندرك الحاجة إلى الأميركيين. لسنا دولة يمكن أن تحارب الولايات المتحدة، لكن سنقول لهم (لا) كبيرة مهما كلف الأمر». وأردف المصدر أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي بدأ مشاورات مكثفة مع زعماء دول غربية وعربية، سيعقد سلسلة اجتماعات للهيئات القيادية؛ مركزية فتح، وتنفيذية منظمة التحرير، واجتماع استثنائي للمجلس المركزي لمنظمة التحرير. وتابع: «سيتم التشاور والنظر في عدة اقتراحات. سنبحث سبل الرد».
على الطاولة اقتراحات مختلفة، بعضها ستقدمه فصائل مثل حركة «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، ستحضران اجتماع المجلس المركزي. ومنها قطع العلاقات مع واشنطن، ورفض أي دور لها في العملية السلمية، وتقديم شكوى في مجلس الأمن. وهذا مع إمكانية الدعوة إلى الانسحاب من العملية السلمية وسحب الاعتراف بإسرائيل، واستئناف الانضمام إلى المؤسسات الدولية، وتصعيد مبرمج على الأرض يشمل احتجاجات في القدس نفسها، وتقارباً أكبر مع «حماس» يتضمن تشكيل «حكومة وحدة» وطنية تشارك فيها الحركة الإسلامية، إضافةً إلى تحديد العلاقة مع إسرائيل.
ومن ثمّ، سيكون على المجلس المركزي -وهو أعلى هيئة فلسطينية تشريعية- في حالة انعقاده، البت في هذه القرارات التي يبدو بعضها صعب التطبيق بالنسبة إلى الفلسطينيين المحكومين باتفاقيات دولية ومحلية، ويتلقون مساعدات من الأميركيين كذلك.
محمد اشتية، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، قال إن القيادة الفلسطينية «ستقوم بمراجعة تامة لاتفاق أوسلو»، معلناً أن المفاوضات بشكلها السابق «ذهبت إلى غير رجعة». وتحدث اشتية عن تجسيد الدولة الفلسطينية كأحد الخيارات، وطالب كذلك الأمم المتحدة بإرسال فريق متخصص لترسيم حدود دولة فلسطين، على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967.
وتابع اشتية موضحاً: «لقد تم تخطي كل الخطوط الحمراء، وإذا كان يريد (الرئيس الأميركي) الضغط علينا ويعتقد أن ذلك جزء من تحضير لمسار سياسي فإنه مسار فاشل سلفاً. الولايات المتحدة لم تعد ذات صلة». ثم أعلن عن «نهاية حقبة تاريخية بدأت في 1993»، قائلاً: «سنراجع (أوسلو)، وأعتقد أن المفاوضات بشكلها السابق ذهبت بلا رجعة... سنسرع المصالحة ولا رجعة في ذلك... سنرتب البيت الداخلي من أجل إعادة وظيفة السلطة». كما أوضح أن القيادة تدرس إبطال مشروع القرار الخاص بالقدس في المحاكم والمحافل الدولية. وبهذا يكون الفلسطينيون حدّدوا، كخيارات أولية، إخراج واشنطن من عملية السلام، والتوجه إلى مؤسسات دولية، وتقديم شكوى في مجلس الأمن ضد الولايات المتحدة، وإعادة تعريف وظيفة السلطة، ووضع «أوسلو» على طاولة التشريح.

الشكوى للأمم المتحدة
من جهة أخرى، كان المراقب الدائم لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة السفير رياض منصور، قد أعلن أن دولة فلسطين قدمت شكوى حول القدس ضد الولايات المتحدة، حيث بعثت القائمة بالأعمال بالإنابة السفيرة فداء عبد الهادي ناصر، برسائل متطابقة إلى مندوب اليابان (رئيس مجلس الأمن هذا الشهر)، وإلى الأمين العام للأمم المتحدة، ورئيس الجمعية العامة.
ودعت السلطة في الرسالة، وفي ضوء «القرار المؤسف للغاية» الذي أعلنه الرئيس الأميركي، «في مخالفة لقرارات مجلس الأمن والإجماع الدولي الطويل الأمد، مجلس الأمن إلى معالجة هذه المسألة الحرجة دون تأخير، والعمل بسرعة على الوفاء بمسؤولياته». وطالبت المجتمع الدولي «بضرورة إعادة تأكيد موقفه الواضح والقانوني بشأن القدس، ورفضه جميع الانتهاكات التي تمس بهذا المركز القانوني من أي كان ومتى كان، وحثته على المطالبة بإلغاء القرار الأميركي».
وإضافة إلى ذلك، يفكر الفلسطينيون في التوجه إلى محاكم دولية. وهم يأملون في النهاية أن يسفر كل هذا الضغط عن تراجع الولايات المتحدة عن القرار. وفي هذا السياق قال مسؤول فلسطيني (طلب التكتم على اسمه) لـ«الشرق الأوسط»: «التراجع ممكن، ولمَ لا. لكننا نعرف أن التراجع السريع صعب». وأضاف: «الموقف الفلسطيني والعربي والدولي بشكل ما قد يهدد مصالح وعلاقات الولايات المتحدة، والضغط الشعبي قد يغيّر المعادلة».
ولكن، بينما تفضل القيادة الفلسطينية التروّي، لم ينتظر الشارع الفلسطيني كثيراً. فلقد خرج الفلسطينيون في مظاهرات غضب شعبية واشتبكوا مع الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية -بما فيها القدس وقطاع غزة- وهتفوا ضد الخطوة الأميركية في خصوص القدس. وتظاهر الفلسطينيون خصوصاً عند نقاط التماسّ في الضفة وعند الحدود في قطاع غزة، وأحرقوا صوراً وأعلاماً أميركية، ورشقوا قوات إسرائيلية بالحجارة والزجاجات الفارغة، ورد الجنود بالرصاص الحي والمطاط وقنابل الغاز والصوت. وتفجّرت هذه المواجهات في ظل دعوات الفصائل الفلسطينية للتعبير عن الغضب الشعبي. في المقابل، ثمة مَن يدفع إلى أكثر من ذلك، إذ تريد حركة «حماس»، ومعها «الجهاد الإسلامي»، تفجير «انتفاضة» جديدة. وكان إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة، واضحاً حين دعا إلى إطلاق «انتفاضة جديدة». وهذه الدعوات لم تكن مفاجئة في إسرائيل التي تحضّرت تماماً لردود فعل مع قلق متنامٍ.

قلق إسرائيلي يوازي الابتهاج
أما داخل إسرائيل، صحيح أن ثمة قلقاً من تصعيد محتمل، لكن لا بد من القول إن إسرائيل لم تتلقَّ عبر عقود طويلة هدية مثل هذه. حتى إن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قارن بين اعتراف ترمب بالقدس عاصمةً لإسرائيل وبين «إعلان بلفور»، واصفاً اعتراف ترمب بأنه «لحظة كبيرة في تاريخ القدس والصهيونية». أما بالنسبة إلى عامل القلق، فإنه موجود ويكاد يوازي الابتهاج.
ولقد أوصت قيادة الجيش الإسرائيلي مختلف الوحدات العسكرية المنخرطة في تدريبات، بأن تكون متأهبة لنقلها في أي لحظة إلى الأراضي الفلسطينية، وذلك تحسباً من توسّع المواجهات مع الفلسطينيين. واتُّخذت التوصية في ختام مناقشات أجرتها هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي جرى خلالها بحث فرص تدهور الأوضاع الأمنية خلال الأيام المقبلة على ضوء قرار ترمب. وأكدت قيادة الأركان الإسرائيلية «جاهزية الجيش للتصدي لأي مواجهات قد تندلع ميدانياً»، استجابةً للتصريحات والدعوات الصادرة عن الفصائل الفلسطينية والداعية إلى تصعيد الحراك من خلال فعاليات الغضب والمظاهرات. وشملت إجراءات الحيطة في المنطقة، الأميركيين أنفسهم. إذ طلبت وزارة الخارجية الأميركية من دبلوماسييها الامتناع عن السفر إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية حتى يوم 20 من ديسمبر (كانون الأول) الحالي. وأصدرت كذلك بياناً موجهاً إلى المواطنين الأميركيين يحذّر من زيارة «البلدة القديمة» في القدس والضفة الغربية.

ردود فعل عربية ودولية
وكما هو معروف ومتوقع، رفْض القرار الأميركي لم يقتصر على الفلسطينيين، بل رفضته غالبية الدول في العالم والعربية والإسلامية، إذ عدت جامعة الدول العربية القرار بأنه سابقة تتناقض مع سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عام 1995، وتنتهك أيضاً الاتفاقيات التعاقدية بما فيها اتفاقية أوسلو.
وعلى الصعيد الدولي، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إن القرار «سيهدد السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإن القدس مرتبطة بالحل النهائي بينهما، ولا بديل عن حل الدولتين واعتبار القدس عاصمة لكل من إسرائيل وفلسطين». وأعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه البالغ بشأن القرار وتداعياته المحتملة على آفاق السلام. وقالت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي إنها ضد القرار قبل التوصل لاتفاق بشأن الوضع النهائي. واتخذت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل موقفاً مشابهاً، وقالت إنها لا تدعم قرار ترمب حول القدس «لكونه يخالف القانون الدولي». وكان هذا ما ركز عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي شدد على أن «وضع القدس يحدده الإسرائيليون والفلسطينيون من خلال المفاوضات». وبينما قال وزير الخارجية الإيطالي أنجيلينو ألفانو، إن بلاده «تشعر بالفزع» من تداعيات القرار، وصف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان القرار بأنه «يبعث قلقاً بالغاً حيال السلام والاستقرار... وهو غير مسؤول وغير قانوني»، قال متحدث باسم الكرملين الروسي إن «القرار الأميركي لا يساعد على التسوية بالشرق الأوسط».

أميركا: ترحيب وانتقادات
وفي الولايات المتحدة، على الرغم من أن كثيراً من المشرعين الجمهوريين والديمقراطيين رحبوا بقرار ترمب حول القدس، انتقد آخرون هذه الخطوة. إذ قال توماس فريدمان، الكاتب الأميركي بصحيفة «نيويورك تايمز»، إن الرئيس الأميركي «قدّم جوهرة تاج السياسة الخارجية للولايات المتحدة دون مقابل بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل». وأضاف فريدمان في مقابلة مع شبكة «سي إن إن»، أن «مسألة موقع السفارة الأميركية ونقلها من تل أبيب إلى القدس، كانت أكثر القضايا حساسية في السياسة الخارجية الأميركية على مدى 70 سنة، والآن تقديمنا لها هكذا، ونقل السفارة والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، بشكل شخصي، فأنا لست ضد ذلك لو كان جاء في الإطار الصحيح، ولست ضد ذلك الآن إن كان هناك مقابل لذلك».
ثم تابع قائلاً: «تخيل ما كان يمكننا الحصول عليه في المقابل؟ نتنياهو أراد ذلك بشدة وهو يمر بأزمة سياسية. كان بإمكان ترمب أن يقول له أنت تريد هذا الاعتراف بشدة، ولكن في المقابل أريد أن تصدر حظراً على بناء أي مستوطنات في الضفة الغربية، لسببين: الأول، للحفاظ على احتمال التوصل لحل الدولتين. والثاني، للحفاظ على الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولكن عوضاً عن ذلك قدم ترمب (لنتنياهو) مجاناً واحدة من جواهر تاج السياسة الخارجية الأميركية».
كذلك حذر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من «هشاشة الديمقراطية... ومخاطر صعود النازية»، مستشهداً بتجربة ألمانيا في عهد أدولف هتلر. وقال أوباما خلال مشاركته في اجتماع لنادي شيكاغو الاقتصادي، أول من أمس (الخميس): «الخطر ينمو... ويجب أن نعتني بحديقة الديمقراطية هذه، وإلا فقد تنهار الأوضاع بسرعة». ومع أن أوباما لم يذكر أحداً بالاسم، أو سبب تصريحاته، لكن تصريحاته تشير بشكل ضمني إلى الرئيس الحالي وقراراته.

الخطوة مؤجلة والموقع ينتظر
على صعيد آخر، قال وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إنه من غير المرجح نقل السفارة الأميركية إلى القدس هذا العام أو حتى الذي يليه. لكن نظرياً، ثمة قطعة أرض في القدس مخصصة لبناء السفارة الأميركية الجديدة منذ عام 1989. ففي عهد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، وتحديداً في آخر يوم من فترته الرئاسية عام 1989. وقّع السفير الأميركي لدى إسرائيل وقتها ويليام براون، عقد استئجار قطعة أرض في القدس الغربية، قيمته دولار واحد في العام، لمدة 99 سنة. واليوم فإن قطعة الأرض تلك الواقعة في منطقة مرغوب بها جداً من القدس، على أطراف حي «تل بيوت»، ما زالت مهملة غير مسكونة، لكن ليس أكيداً أن تُعتمد.
ويقول مسؤولون أميركيون إنه بعد تفجير تنظيم القاعدة السفارتين الأميركيتين في كل من تنزانيا وكينيا عام 1998، فإن معايير أمنية جديدة فُرضت على جميع السفارات الأميركية، أهمها أن تفصل بين مبانيها والشوارع المحاذية مسافة 100 قدم (30 متراً)؛ تحسباً لأي انفجار سيارة ملغمة أو اعتداء آخر، وفي ضوء القوانين الجديدة، فإن تلك الأرض ليست كبيرة بما فيه الكفاية.
ثمة خيار محتمل آخر، هو أن تستخدم الولايات المتحدة مبنى آخر من مبانيها في القدس، فالخارجية الأميركية تدير عدة مبانٍ قنصلية لها في القدس، تقدم خدمات للمدينة إضافة إلى الأراضي الفلسطينية، ونظرياً يمكن لأي منها أن يُحوَّل إلى سفارة؛ أقدم تلك المباني هو مبنى القنصلية الأميركية العامة الذي أنشئ عام 1912 والكائن في 18 شارع أغرون على مقربة من القدس القديمة.
ثمة مبنى قنصلي أميركي آخر أحدث في حي «أرنونا» بالقدس، لا يبعد كثيراً عن الأرض المستأجرة في «تل بيوت»، لكن عكس مبنى شارع أغرون وعكس قطعة أرض «تل بيوت» الواقعَين ضمن «الخط الأخضر» الذي يحدد أجزاء القدس التي كانت تحت سيطرة إسرائيل قبل حرب 1967، فإن مبنى «أرنونا» القنصلي يقع على حدود عام 1967 بين مناطق السيطرة الإسرائيلية ومنطقة كانت آنذاك منزوعة السلاح بعد اتفاق هدنة 1949. وكانت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية قد ذكرت العام الماضي، أن مسؤولين في القدس قالوا إن المبنى مصمم خصيصاً لكي يغدو سفارة ذات يوم. وعلى الرغم من أن متحدثة باسم الخارجية الأميركية رفضت ذكر عدد الموظفين في مجمع «أرنونا»، فإن تقارير من مكتب المفتش العام بالخارجية الأميركية قالت إن 582 موظفاً قنصلياً أميركياً يعملون متوزعين في أنحاء القدس، مقارنةً بـ960 موظفاً بالسفارة الأميركية في تل أبيب.
في نهاية المطاف ثمة قدس واحدة يعرفها الفلسطينيون والعرب والمسلمون والمسيحيون. قدس تضم أقدس المقدسات وتاريخاً طويلاً وبيوتاً عتيقة وشوارع سار عليها الأنبياء، جذورها ضاربة في التاريخ، وكل طبقة أرض فيها تشهد على معركة دامية سابقة. إنها كما وصفها الشاعر الراحل محمود درويش «امرأة من حليب البلابل».



ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
TT

ملاهي سوريا وحاناتها تعيد فتح أبوابها بحذر بعد انتصار فصائل المعارضة

سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)
سوري يصب شراباً محلياً في سوق باب توما بدمشق (رويترز)

احتفل سكان دمشق بسقوط نظام بشار الأسد بعد حرب وحشية استمرت 13 عاماً، لكن أصحاب أماكن السهر في المدينة اعتراهم القلق وهم يعيدون فتح أبواب حاناتهم وملاهيهم.

فقد قادت «هيئة تحرير الشام» فصائل المعارضة التي أطاحت بنظام الأسد، وكانت هناك خشية لدى بعض الناس من أن تمنع الهيئة شرب الكحول.

ظلت حانات دمشق ومحلات بيع الخمور فيها مغلقة لأربعة أيام بعد دخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» المدينة، دون فرضهم أي إجراءات صارمة، والآن أعيد فتح هذه الأماكن مؤقتاً.

ما يريده صافي، صاحب «بابا بار» في أزقة المدينة القديمة، من الجميع أن يهدأوا ويستمتعوا بموسم عيد الميلاد الذي يشهد إقبالاً عادة.

مخاوف بسبب وسائل التواصل

وفي حديث مع «وكالة الصحافة الفرنسية» في حانته، اشتكى صافي، الذي لم يذكر اسم عائلته حتى لا يكشف عن انتمائه الطائفي، من حالة الذعر التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي.

فبعدما انتشرت شائعات أن المسلحين المسيطرين على الحي يعتزمون شن حملة على الحانات، توجه إلى مركز الشرطة الذي بات في أيدي الفصائل في ساحة باب توما.

وقال صافي بينما كان يقف وخلفه زجاجات الخمور: «أخبرتهم أنني أملك حانة وأود أن أقيم حفلاً أقدم فيه مشروبات كحولية».

وأضاف أنهم أجابوه: «افتحوا المكان، لا مشكلة. لديكم الحق أن تعملوا وتعيشوا حياتكم الطبيعية كما كانت من قبل»، فيما كانت الموسيقى تصدح في المكان.

ولم تصدر الحكومة، التي تقودها «هيئة تحرير الشام» أي بيان رسمي بشأن الكحول، وقد أغلق العديد من الأشخاص حاناتهم ومطاعمهم بعد سقوط العاصمة.

لكن الحكومة الجديدة أكدت أيضاً أنها إدارة مؤقتة وستكون متسامحة مع كل الفئات الاجتماعية والدينية في سوريا.

وقال مصدر في «هيئة تحرير الشام»، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، طلب عدم كشف هويته، إن «الحديث عن منع الكحول غير صحيح». وبعد الإلحاح عليه بالسؤال شعر بالغضب، مشدداً على أن الحكومة لديها «قضايا أكبر للتعامل معها».

وأعيد فتح «بابا بار» وعدد قليل من الحانات القريبة، لكن العمل محدود ويأمل صافي من الحكومة أن تطمئنهم ببيان يكون أكثر وضوحاً وقوة إلى أنهم آمنون.

في ليلة إعادة الافتتاح، أقام حفلة حتى وقت متأخر حضرها نحو 20 شخصاً، ولكن في الليلة الثانية كانت الأمور أكثر هدوءاً.

وقال إن «الأشخاص الذين حضروا كانوا في حالة من الخوف، كانوا يسهرون لكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا سعداء».

وأضاف: «ولكن إذا كانت هناك تطمينات (...) ستجد الجميع قد فتحوا ويقيمون حفلات والناس مسرورون، لأننا الآن في شهر عيد الميلاد، شهر الاحتفالات».

وفي سوريا أقلية مسيحية كبيرة تحتفل بعيد الميلاد، مع تعليق الزينات في دمشق.

في مطعم العلية القريب، كان أحد المغنين يقدم عرضاً بينما يستمتع الحاضرون بأطباق من المقبلات والعرق والبيرة.

لم تكن القاعة ممتلئة، لكن الدكتور محسن أحمد، صاحب الشخصية المرحة والأنيقة، كان مصمماً على قضاء وقت ممتع.

وقال لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «كنا نتوقع فوضى عارمة في الموقف»، فيما كانت الأضواء تنعكس على ديكورات المطعم، مضيفاً: «لكننا عدنا سريعاً إلى حياتنا، حياتنا الليلية، وحقوقنا».

حفلة مع مغنٍ

وقال مدير المطعم يزن شلش إن مقاتلي «هيئة تحرير الشام» حضروا في ليلة إعادة الافتتاح ولم يغلقوا المكان.

وأضاف: «بدأنا العمل أمس. كانت الأمور جيدة جداً. كانت هناك حفلة مع مغنٍ. بدأ الناس بالتوافد، وفي وسط الحفلة حضر عناصر من (هيئة تحرير الشام)»، وأشار إلى أنهم «دخلوا بكل أدب واحترام وتركوا أسلحتهم في الخارج».

وبدلاً من مداهمة المكان، كانت عناصر الهيئة حريصين على طمأنة الجميع أن العمل يمكن أن يستمر.

وتابع: «قالوا للناس: لم نأتِ إلى هنا لنخيف أو نرهب أحداً. جئنا إلى هنا للعيش معاً في سوريا بسلام وحرية كنا ننتظرهما منذ فترة طويلة».

وتابع شلش: «عاملونا بشكل حسن البارحة، نحن حالياً مرتاحون مبدئياً لكنني أخشى أن يكون هذا الأمر آنياً ولا يستمر».

ستمارس الحكومة الانتقالية الجديدة في سوريا بقيادة «هيئة تحرير الشام» عملها حتى الأول من مارس (آذار). بعد ذلك، لا يعرف أصحاب الحانات ماذا يتوقعون.