مقطع من رواية «نذير» للسوداني إياد الجلاد

يصدر قريباً

بحيرة فكتوريا بعد التقاء النيل الأبيض والنيل الأزرق
بحيرة فكتوريا بعد التقاء النيل الأبيض والنيل الأزرق
TT

مقطع من رواية «نذير» للسوداني إياد الجلاد

بحيرة فكتوريا بعد التقاء النيل الأبيض والنيل الأزرق
بحيرة فكتوريا بعد التقاء النيل الأبيض والنيل الأزرق

تصدر قريباً عن دار «هاشيت أنطوان» رواية «نذير» للكاتب السوداني إياد الجلاد. هنا مقطع منها:
الوقت قد تجاوز منتصف الليل، وهو لا يزال واقفاً في صالة القُدوم يترقَّب بضَجَر وصول المسافرين السبعة الذين سيقلّهم من المطار.
تأمَّل بمقْت الحشود الهائلة المتدافعة من أبناء وطنه، كأسْراب من الطيور تهاجر فرارا إلى رزقها من ضراوة الحياة في بلد يحمل سلّة غذاء فارغة، في مقدورها إنْ غَدَت ممتلئة إطعام أفواه البشر قاطبة.
لكنَّ الرّغبة لم تداعبْه قطّ في تأبُّط حقيبته هربا من وطْأة البحث عمّا يسدّ الرّمق.
يكره أن يرسم لنفسه لوحة يحيا فيها شريدا يجوس خارج دياره، يمتهن أعمالا وضيعة تجلب عليه نقمة الأصدقاء وشماتة الغرباء، فتكتمل صورة قاسية من الأسى، مبعثَرة المعالم، في إطار مشتعل بنيران الغربة التي لا تُطْفِئها دموعُ الحنين.
هبط القوم، ثمَّ ساروا صفاً خلف نذير، يقودهم نحو السيّارة الجيب المرْكونة في موقف المطار.
الطقس قارس البرودة، يلفح الصقيع وجوههم، في ليلة طويلة من ليالي العاصمة الخُرطوم، بَيْدَ أنَّ السّماء لا تزال صافية، يُطِلّ منها وجه القمر مشرقا كالعهد به.
تسلَّلت أشعّته الفضّية إلى داخل العربة الكبيرة فأضاءت جانبا من وجوههم المنْهَكة من طول الرّحلة وفَرْط النّعاس.
ألحّوا على التوجُّه من فوْرهم صوْب مدينتهم، رغم محاولات أحدهم ثنْيهم عن عزم المضيّ، وإقناعهم بالمبيت الليلة في منزل أقاربه، الكائن في مدينة الخُرطوم بَحْرِي.
في نهاية المطاف، كانت الغَلَبة لأصوات مَن اختاروا متابعة السَّير، يحْدوهم شوق عارم لملاقاة ذَويهم بعد طُول غياب.
رَضَخ السّائق لأمرهم بالتوجُّه نحو المدينة المنشودة، وساد الهدوء بعد دقائق مضت في اللغط والجدال.
جابَت السيارة عدّة طرق حتى ارتمَت في أحضان جسر المكْ نمر الفاتن، تتهادى فوقه بدَلال، بينما يَسْرِي تحته نهر النيل الأزرق بهدوء وعظَمة، تتلألأ فيه أشعّة القمر ممتزجة بانعكاسات إضاءات الطرق وإنارات الفنادق والمباني الأخرى التي ألقت بظلالها على شاطئه.
ألقى أحدهم نظرة استطلاع عبر زجاج نافذته، فابتسم طربا لرؤية المشهد البانورامي المهيب بالقرب من منطقة يتلاقى فيها النيلان الأبيض والأزرق فيرسمان لوحة تشكيليّة وهميّة لخرطوم فيل، اكتسبت منه العاصمة اسمها، هي التي تبدو في ضخامتها وهدوئها الليلي كفيلٍ بريء ووديع.
ثمّة قارب فارغ، يعلو ويهبط في النهر متأرجِحًا، وبضعة متنزّهين يسيرون على مَهل على الأرصفة المقامة بمحاذاة النيل، مثْنى مثْنى، كعشّاق يهمسون بأسرارهم في جُنْح الليل.
عبَرت السيّارة الجسر منطلقة بسرعة، تنْهب الأرض من تحتها، مندفعة نحو الطريق السّريع المؤدّي إلى ولاية نهر النيل.
بات الطريق سابحا في ظلمة كئيبة، بعد أنْ خلَّفوا العاصمة وراء ظهورهم بأبراجها الحديثة الشاهقة ومبانيها الضّخمة العتيقة، مازجة في بقعة واحدة بين حداثة عصرٍ حاضر، ومستقبل مُبْهم، وعَبَق تاريخ عريق مضى.
ظلّ نذير صامتا يقود بسرعة متوسّطة نزولاً عند رغبة زبائنه بعدما أصَمّوا أذنيه بطلب التريُّث ولزوم التقيُّد بإرشادات التأنّي.
أشعل الراكب الأمامي سيجارة، مسترخيًا على مقعده الجلديّ، وأخذ يفكّر بهدوء وهو يرمُق السّماء بعينين حالمتين عبر زجاج فتحة السّقف من فوقه.
غطَّ الراكب القابع خلفه في النوم، وظلَّ آخر خلف نذير يتابع بشغَف ما أمكنه رؤيته من مشاهد الطريق المبعثرة من وراء نافذته، ولم ينفكّ الراكبان في الوسط يُحمْلقان من بداية الطريق في شاشتَي هاتفيهما الخلويين للدردشة عبر برامج التواصل الاجتماعي، فيما اضطجع اثنان في مؤخَّرة السيّارة غارقيْن في نوم عميق.
صَمْت مخيّم يلُفّ الرجال الثمانية، كصمت المقابر.
لا يزال نذير متنبّهًا لما يدور داخل المرْكبة، ويراقب الطريقَ في ذات الوقت بصمت مطْبق، غير أنَّ ثمّة ما يَحوك في صدره على نحو مبْهم وغريب!
يُساوره قلق من دون مبرّر واضح، بحدس أعرابي أمضى قسْطًا كبيرًا من حياته متنقّلاً يجوب الصحراء ويستشعر الخطر وهو يقترب منه كلّ لحظة.
أمسى أكثر تيقُّظًا، وعيناه الصغيرتان المتسائلتان تضيقان أكثر في مرآة السيّارة الأماميّة، وهو يُنَقّل عبرها بصره بين الرجال.
بات الظلام دامسا مع تواري القمر خلف أسْراب السَّحاب.
ما من أضواء يبصرها القوم سوى تلك الصّادرة من المصابيح الأماميّة لمرْكبتهم، والوميض المنبعث من مصابيح مركبات تبرُز من خلفهم، ثمّ تتجاوزهم منطلقة بأقصى سرعتها، والأنوار السّاطعة من شاشات هواتفهم المتنقّلة.
بيْد أنَّ أضواء السيارات ما لبثَت أن خَبَت ثمّ تلاشَت نهائياً مع اتّخاذ نذير درْباً آخر، حين ألقى نظرة نحو ساعته، وألْفى الوقت متأخّراً جداً فاستطال الطريق المعبَّد، وقرَّر أن يسلك درْبا ترابياً مختصَراً.
انعطف بالسيّارة إلى جانب الطريق الأيمن.
انتبه أحدهم ووجهه يحمل علامة استفهام، متسائلاً: «نذير، هل ضللتَ الطريق؟!».
تململ الأخير في مقعده، متمْتماً بعبارات حانقة.
قطَّب حاجبيه، وأحدَّ النظر عبر المرآة إلى محدّثه الذي اعتاد مخاطبته باستعلاء، لكنَّ سَوْرة غضبه تبدَّدت حين ردَّ أحدهم: «دعْه وشأنه، نذير يحفظ الطرق عن ظهر قلب... هو قادر حتَّى على سلوك دروب خاصّة به عبر تتبُّع النُّجوم».
حثَّ ذلك نذيرا على التحدُّث قائلاً بصوت عميق تخالطه بحّة جرّاء شراهته في تدخين السّجائر: «أنشُدُ طريقاً مختصَراً يوصلنا إلى الهدف في وقت قياسيّ. لا داعي للقلق أيّها السّادة».
لكنَّ التوتّر كان يدُبّ بالفعل في نفس نذير، والشعور الغامض بخطر مُحدق يتصاعد في قلبه وهو يتوغّل أكثر وسط براري موحشة وشاسعة.
بسرعة البرق انطلقت ثلاث رصاصات متتالية، استقرَّت في أجساد الغُزاة، أعقبتها ثلاث صيحات مكْبوتة، خرَّ أصحابها إثْرها على الأرض.
اندفع نذير نحوهم متوخّياً الحذر، قابضاً على المسدَّس بكلتا يديه، شاعرًا بالغبطة من حيازته السّلاح وامتلاء خزانته بالذَّخيرة.
هرول باتّجاههم حتى وقف أمامهم يحدجُهم بنظرات غضب بالغ.
بَصَق في وجوههم بحنق شديد. ركَل الأوّل فالثّاني في رأسيهما. ورفع قدمه ليركل الثالث فأمسك بها الأخير محاولا إسقاطه والانقضاض عليه رغم جرحه العميق.
كاد نذير يسقُط أرضاً، لولا أنَّه استعاد توازنه سريعاً وأطلق رصاصة وداعيّة قاتلة فجَّرت رأس الرجل، وأبرزَت مُقْلَتيْه جاحظتيْن على نحو مرعب.
انتهى الأمر.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر
TT

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

وأوضح رئيس النادي، الشاعر حسن الزهراني، أن محاور الملتقى تتناول «الأدب الساخر: المفهوم، والدلالات، والمصادر»، و«الاتجاهات الموضوعية للأدب الساخر، والخصائص الفنية للأدب الساخر في المملكة»، وكذلك «مستويات التأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظيراتها العربية»، و«حضور الأدب الساخر في الصحافة المحلية قديماً وحديثاً»، و«أثر القوالب التقنية الحديثة ومواقع التواصل في نشوء أشكال جديدة من الأدب الساخر محلياً»، و«سيميائية الصورة الصامتة في الكاريكاتير الساخر محلياً».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وشارك في صياغة محاور الملتقى لجنة استشارية تضم: الدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور ماهر الرحيلي، والقاص محمد الراشدي، ورسام الكاريكاتير أيمن يعن الله الغامدي.

وكشف الزهراني أن النادي تلقى ما يزيد على 40 موضوعاً للمشاركة في الملتقى، وأقرت اللجنة 27 بحثاً تشمل؛ ورقة للدكتورة دلال بندر، بعنوان «حمزة شحاتة... الأديب الجاد ساخراً»، والدكتور محمد الخضير، بعنوان «الخصائص الفنية في الأدب الساخر عند حسن السبع في ديوانه ركلات ترجيح - دراسة بلاغية نقدية»، والدكتور صالح الحربي، بعنوان «المجنون ناقداً... النقد الأدبي في عصفورية القصيبي»، والدكتور عادل خميس الزهراني، بعنوان «الصياد في كمينه: صورة الحكيم في النكت الشعبية بمواقع التواصل الاجتماعي»، والدكتور حسن مشهور، بعنوان «الكتابة الساخرة وامتداداتها الأدبية... انتقال الأثر من عمومية الثقافة لخصوصيتها السعودية»، والدكتورة بسمة القثامي، بعنوان «السخرية في السيرة الذاتية السعودية»، والدكتورة كوثر القاضي، بعنوان «الشعر الحلمنتيشي: النشأة الحجازية وتطور المفهوم عند ابن البلد: أحمد قنديل»، والدكتور يوسف العارف، بعنوان «الأدب الساخر في المقالة الصحفية السعودية... الكاتبة ريهام زامكة أنموذجاً»، والدكتور سعد الرفاعي، بعنوان «المقالة الساخرة في الصحافة السعودية... الحربي الرطيان والسحيمي نموذجاً»، والدكتور عمر المحمود، بعنوان «الأدب الساخر: بين التباس المصطلح وخصوصية التوظيف»، والدكتور ماجد الزهراني، بعنوان «المبدع ساخراً من النقاد... المسكوت عنه في السرد السعودي»، والمسرحي محمد ربيع الغامدي، بعنوان «تقييد أوابد السخرية كتاب: حدثتني سعدى عن رفعة مثالاً»، والدكتورة سميرة الزهراني، بعنوان «الأدب الساخر بين النقد والكتابة الإبداعية... محمد الراشدي أنموذجاً». والدكتور سلطان الخرعان، بعنوان «ملخص خطاب السخرية عند غازي القصيبي: رؤية سردية»، والدكتور محمد علي الزهراني، بعنوان «انفتاح الدلالة السيميائية للصورة الساخرة... الرسم الكاريكاتوري المصاحب لكوفيد-19 نموذجاً»، والكاتب نايف كريري، بعنوان «حضور الأدب الساخر في كتابات علي العمير الصحافية»، والدكتور عبد الله إبراهيم الزهراني، بعنوان «توظيف المثل في مقالات مشعل السديري الساخرة»، والكاتب مشعل الحارثي، بعنوان «الوجه الساخر لغازي القصيبي»، والكاتبة أمل المنتشري، بعنوان «موضوعات المقالة الساخرة وتقنياتها عند غازي القصيبي»، والدكتور معجب الزهراني، بعنوان «الجنون حجاباً وخطاباً: قراءة في رواية العصفورية لغازي القصيبي»، والدكتور محمد سالم الغامدي، بعنوان «مستويات الأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظرياتها العربية»، والدكتورة هند المطيري، بعنوان «السخرية في إخوانيات الأدباء والوزراء السعوديين: نماذج مختارة»، والدكتور صالح معيض الغامدي، بعنوان «السخرية وسيلة للنقد الاجتماعي في مقامات محمد علي قرامي»، والدكتور فهد الشريف بعنوان «أحمد العرفج... ساخر زمانه»، والدكتور عبد الله الحيدري، بعنوان «حسين سرحان (1332-1413هـ) ساخراً»، ويقدم الرسام أيمن الغامدي ورقة بعنوان «فن الكاريكاتير»، والدكتور يحيى عبد الهادي العبد اللطيف، بعنوان «مفهوم السخرية وتمثلها في الأجناس الأدبية».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وخصص نادي الباحة الأدبي جلسة شهادات للمبدعين في هذا المجال، وهما الكاتبان محمد الراشدي، وعلي الرباعي، وأعدّ فيلماً مرئياً عن رسوم الكاريكاتير الساخرة.

ولفت إلى تدشين النادي 4 كتب تمت طباعتها بشكل خاص للملتقى، وهي: «معجم الأدباء السعوديين»، للدكتورين عبد الله الحيدري وماهر الرحيلي، وكتاب «سامحونا... مقالات سعد الثوعي الساخرة»، للشاعرة خديجة السيد، وكتاب «السخرية في أدب علي العمير» للدكتور مرعي الوادعي، و«السخرية في روايات غازي القصيبي» للباحثة أسماء محمد صالح.