من أم «الفحم» إلى أم «النور»..!

مسيرة طويلة من العمل والكفاح تقابلها إسرائيل بمخطط ترحيل

من أم «الفحم» إلى أم «النور»..!
TT

من أم «الفحم» إلى أم «النور»..!

من أم «الفحم» إلى أم «النور»..!

تقدم قائد الجيش الإسرائيلي نحو مختار الإغبارية عام 1948، وطلب منه أن يجتمع معه في بيته مع وجهاء بلدة أم الفحم، بشمال غربي فلسطين، ثم وقف وقال: «لقد حكمتْ إسرائيل هذه البلاد قبل 2.000 سنة، وها هي قد عادت وحكمتها، وما لكم إلا التعاون معنا، فلكم ما لنا، وعليكم ما علينا، لكم حقٌ وعليكم واجب. شالوم». وهكذا أصبحت «أم الفحم» تحت السيطرة الإسرائيلية، جزءاً مما يعرف بـ«فلسطينيي 48». إلا أن القيادة الإسرائيلية غيرت اليوم رأيها، وهي تريد التخلص منهم.
لا توجد بلدة في إسرائيل «تحظى» بالعناوين المثيرة مثل مدينة أم الفحم. ساسة اليمين الحاكم يذكرونها باستمرار وكأنها «لعنة»... ووسائل الإعلام تنجرف وراءهم.
يستخدمونها «غذاءً» لمشاريعهم السياسية وسلماً للشهرة والكسب السياسي.
بدأ ذلك الحاخام اليميني الفاشي مئير كهانا، الذي أسس حزباً جديداً له عام 1984 يدعو إلى طرد الفلسطينيين مواطني إسرائيل إلى الخارج، حتى يخفف من الخطر العربي الديمغرافي، فقرر زيارتها، لكي يقترح على سكانها «الرحيل السلمي» مقابل المال.
يومها قال كهانا: «أريد أن ألتقي بهم وأقترح عليهم أن يغادروا من خاطرهم، ونحن نوفر لهم الأموال الكافية لإقامة موطن لهم في أي دولة يختارونها». وحضر فعلاً يوم 29 أغسطس (آب) 1984، ولكن تصدى له الألوف من المواطنين من البلدة وغيرها، ومنعوا دخوله. ووقعت مواجهات عنيفة بين المتظاهرين والشرطة الإسرائيلية، التي حضرت لحمايته بوصفه عضواً في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، نتج عنها العديد من الإصابات في صفوف الطرفين.
ومضت السنون وقتل كهانا خلال اجتماع سياسي له في الولايات المتحدة عام 1990. واحتل مكانه زعيم آخر في اليمين المتطرف، اسمه باروخ مارزل، فسار على طريق سلفه. واختار مارزل استفزاز أم الفحم من جديد لكسب الشهرة، فقرر هو الآخر زيارتها. ويوم 24 مارس (آذار) من عام 2009، جاء مارزل إلى أم الفحم برفقة العشرات من مؤيديه، تحت العنوان نفسه «إقناع أهاليها بالرحيل مقابل المال». وأضاف نصيحة لهم مضمونها تهديدي هو «إن لم ترحلوا بخاطركم فسنضطر إلى ترحيلكم آجلاً أم عاجلاً». وبالمقابل خرج المئات من سكان أم الفحم والمنطقة لمواجهتهم. وكالعادة تولت الشرطة الإسرائيلية حماية التظاهرة الاستفزازية، وألقت القنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع على أهالي أم الفحم، ورشت عليهم المياه العادمة لتفريقهم.
وراقت هذه الفكرة لأوساط أخرى في اليمين الإسرائيلي، فقام أفيغدور ليبرمان، وزير الدفاع في الحكومة الحالية بتطويرها. وليبرمان هو ابن حزب الليكود، وشغل ذات مرة منصب الأمين العام فيه، ثم صار مديراً عاماً لديوان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عام 1996، ثم أسس حزباً جديداً عام 1999 سماه «إسرائيل بيتنا»، وأصبح لاحقاً وزير خارجية في حكومة بنيامين نتنياهو الثانية عام 2009. وفكر ليبرمان ببساطة تتلخص في التخلص ليس من أم الفحم وحدها، بل من كل بلدات منطقة المثلث، عبر ما يسميه «تبادل السكان». ووفق هذه الخطة تضم إسرائيل غالبية المستوطنات اليهودية في القدس والضفة الغربية إلى تخومها، وبالمقابل يجري تعديل الحدود لتصبح هذه المنطقة، من أم الفحم شمالاً وحتى كفر قاسم جنوباً، جزءاً من الدولة الفلسطينية العتيدة.
واللافت أن حتى رئيس الوزراء نتنياهو أعرب عن تبنيه هذه الخطة في الشهور الأخيرة. ونتنياهو فنان في استخدام قضية العداء للعرب لكسب الأصوات اليمينية. فما هو مرد هذا العداء لأم الفحم؟
ولماذا يجعلها اليمين عنواناً لسياسته العدائية للعرب؟
ما هي هذه المدينة؟ وما الذي يميزها؟

نبذة تاريخية
تعتبر أم الفحم واحدة من أقدم البلدات في فلسطين. فحسب المكتشفات الأثرية التي عثر عليها في تخوم البلدة وضواحيها؛ يتضح أنها قائمة منذ آلاف السنين. منذ العصر الكنعاني مروراً بالعصور اليونانية والرومانية والبيزنطية إلى العصر العربي الإسلامي. إذ اكتشفت مقابر تعود إلى العصر الكنعاني في منطقتي خربة الغطسة وعين الشعرة (أو الشعرا). ويدل هذا على أن تاريخها يعود إلى ما يقارب 5.000 سنة. كما اكتشفت آثار لخانٍ قديم ونقود عربية يعود تاريخهما إلى العصر الأموي. ووفقاً لهذه المكتشفات، فإن الاستيطان البشري الكنعاني في أم الفحم وضواحيها بدأ حوالي العام 3000 ق.م، وورد اسمها لأول مرة عام 1265م أثناء حكم المماليك بوثيقة توزيع الممتلكات التي أجراها السلطان الظاهر بيبرس بين جنوده، وكانت أم الفحم من نصيب الأمير جمال الدين آقوش النجيبي نائب السلطنة.
أما في العهد العثماني، فكانت أم الفحم واللجون وجنين ضمن نفوذ الأمير أحمد بن علي الحارثي، وقد عرفت بـ«البلاد الحارثية» التي امتدت من صفد في أعالي الجليل عبر منطقتي اللجون وجنين وحتى أبواب يافا.
وبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى؛ احتلت القوات البريطانية بلاد الشام عام 1917م، فَارِضَة عليها الحكم العسكري. ويوم 9 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه دخلت مدينة القدس بقيادة الجنرال إدموند أللنبي. وبقيت فلسطين تحت الحكم العسكري حتى نهاية شهر يونيو (حزيران) عام 1920م، ثم حولتها بعد ذلك إلى الحكم المدني، وعينت السير هربرت صمويل مندوباً سامياً لها على فلسطين حتى عام 1925م، ولقد تبعه ستة مندوبين آخرين، حتى العام 1948م.

فترة الانتداب
وفقاً للتقسيم الإداري لفلسطين بين عامي 1920م و1948م، تبعت أم الفحم قضاء جنين، وكانت تعد من أكبر قراه. وشارك أهالي أم الفحم في الثورات التي حدثت إبان فترة الانتداب، وأبرز هؤلاء الثوار يوسف الحمدان وأحمد الفارس وعلي الفارس الذين قاتلوا مع قائد المنطقة يوسف أبو درة. وقدم أهالي أم الفحم الكثير من أبنائهم، الذين استشهدوا عند مقاومتهم للاحتلال البريطاني. وشاركوا في الاحتجاجات والاضطرابات في أواخر 1922م. وفي العام 1935م فوجئ أهالي أم الفحم بمقتل الشيخ عز الدين القسام على مقربة من بلدهم في جبال يعبد، ورأوا لأول مرة طائرة تحلق فوق أم الفحم، فخرج شيوخها وشبابها وأطفالها ليشاهدوها، ولم يعلموا أنها كانت تحلق لإعطاء الإشارة للجنود للتقدم نحو مكان الشيخ عز الدين القسام بهدف اغتياله.
وفي أبريل (نيسان) 1936م أُعلن الإضراب العام في فلسطين، فعاد قسمٌ كبيرٌ من أهالي أم الفحم من حيفا التي كانوا يعملون فيها. وشارك أهالي البلدة بنشاط في الإضراب والمظاهرات التي تخللته، وفي العمليات المسلحة التي أعقبتها. وأصبحوا يطلبون السلاح، فكان الفلاح في أم الفحم يبيع فرسه أو بقرته ليشتري بندقية، وكانت أكثر البنادق المتوافرة إذ ذاك قديمة الطراز، إما كانت ألمانية أو «عصملية» (عثمانية)، والقليلٌ من البنادق «الإنجليزية».
وفي أوائل شهر أغسطس (آب) 1936م وقعت إحدى أكبر المعارك في جبال أم الفحم الممتدة من عرعرة، ثم خلة الحمارة فالعرائش إلى عراق الشباب. واستحكم آخرون في جبال الروحة من البيار حتى عَين إبراهيم، واستنجد الجيش بالطائرات فأخذت تقصف أطراف أم الفحم، وتحديداً عند حي عين خالد، واستشهد في هذه المعركة العشرات من أهالي عرعرة واليامون وسيلة الحارثية ورمانة.
وعندما تأجج لهيب الثورة قدم إلى أم الفحم القائد فوزي القاوقجي، ليقوم بدوره بمساعدة الثوار الفلسطينيين في جبال نابلس. وعرض عليهم القاوقجي الوحدة تحت قيادة واحدة، فعينوا اجتماعاً لذلك وكان في منطقة أم الفحم، وتحديداً في المعلقة، بما أنها قريبة من الشارع العام المار بوادي عارة ليتسنى لهم مراقبة الجيش عن كثب.
ووقعت معارك عديدة بعدها بين ثوار أم الفحم ومنطقتها وبين القوات البريطانية. واضطر الجيش البريطاني إلى بناء معسكر له على قمة جبل إسكندر، أعلى نقطة في البلدة. واشتهرت في تلك الفترة من عام 1938 حادثة، حيث أقدم الثوار على قتل جنديين. فانتقم البريطانيون بإطلاق النار عشوائياً على بيوت البلدة فقتلوا وجرحوا بعض الأهالي، ثم جمعوا رجال أم الفحم في ساحة الميدان، وقدم قائد المعسكر وأمر جنوده بإهانة الرجال. كما أخذوا 40 رجلاً منهم إلى مكان حادثة القتل قرب عين النبي، وأمروهم بالدوس على ألواح الصبر الشائكة، وهم حفاة، فسالت دماؤهم في الشارع، وبعد ذلك قصفت القوات البريطانية بعض بيوت البلدة، وباشرت جولات من الاعتقالات. ولم تتوقف أعمال الانتقام هذه إلا بانتهاء فترة الانتداب البريطاني في أواسط مارس (آذار) عام 1948م، عندما غادر مركز شرطة اللجون آخر شرطي بريطاني.

نهاية الانتداب البريطاني
بعد رحيل الانتداب البريطاني عن فلسطين تُركت البلاد في فوضى؛ إذ لا قانون ولا سلطة، فأصبحت العائلية و«الحارتية» (نسبة إلى الحارة) هي البديل المؤقت. وبهذا اجتمع زعماء أم الفحم وقراها لانتخاب لجنة قومية، فطالبوا الهيئات المشرفة على القيادة في فلسطين بإقامة لجنة قومية خاصة بأم الفحم ومنطقتها معترفٌ بها وبكل ما يصدر عنها فلبي الطلب، وقد أصدرت بطاقات هويات شخصية لأهالي أم الفحم ومنطقتها؛ فأصبح الفحماويون يستطيعون السفر بها إلى شرقي الأردن، سوريا ولبنان.
واستمر عمل هذه اللجنة حتى وقوع النكبة الفلسطينية. يومها داهمت القوات الإسرائيلية المنطقة ودمرت عدداً من القرى المجاورة لأم الفحم، مثل اللجون وقرى الروحة ولد العرب، والمنسي، والغبيات (الفوقي والتحتي)، والكفرين، والبطيمات، وخبيزة، وقنير، وأم الشوف، والسنديانة، وصبارين، أم الزينات وغيرها، وجرى تهجير أهلها منها ودمرت تماماً. وبالتالي، لجأ أهلها إلى أم الفحم في ضوء صلات القرابة والعلاقات التجارية، واستقبلهم أهالي أم الفحم، وأمنوا لهم المأوى.

الاحتلال الإسرائيلي
وبقيت أم الفحم وبقية قرى المثلث ضمن السيادة الأردنية. ولكن في منتصف مايو (أيار) عام 1948م دخل الجيش العراقي البلدة، وبدأ بتجنيد متطوعين لفوجٍ فلسطيني، فأقبل العديد من شبان أم الفحم ووادي عارة بالتطوع في هذا الجيش، وأخذ المدربون العراقيون يدربونهم على الوسائل القتالية المختلفة. لكنهم لم يفلحوا في صد الاحتلال الجديد. ويوم 20 مايو (أيار) 1949م، دخلت القوات الإسرائيلية أم الفحم، حيث تقدمت دبابة وما إن وصلت على مقربة من حي البير، نادى أحد الجنود: «يا أهالي أم الفحم، لقد قدم جيش إسرائيل لتسلم أم الفحم، فنرجو أن تلزموا بيوتكم، إلى حين إشعارٍ آخر، وننذر كل من تسول له نفسه بالتصدي للجيش أو بعملٍ ما يخل بالنظام». فلزم الأهالي بيوتهم. ثم دعا الجنود مخاتير أم الفحم أن يحضروا إلى الميدان حيث أمروا بتسليم السلاح. وتقدم قائد الجيش الإسرائيلي نحو مختار الإغبارية، وطلب منه أن يجتمع معه في بيته مع وجهاء القرية، ثم وقف وقال: «لقد حكمتْ إسرائيل هذه البلاد قبل 2.000 سنة، وها هي قد عادت وحكمتها، وما لكم إلا التعاون معنا، فلكم ما لنا، وعليكم ما علينا، لكم حقٌ وعليكم واجب. شالوم». وبهذا أصبحت أم الفحم تحت السيطرة الإسرائيلية، جزءاً مما يعرف بـ«فلسطينيي 48».
وكما فعلت مع بقية البلدات العربية، فرضت إسرائيل الحكم العسكري. ومنعت أهلها من مغادرة قراهم إلا بتصاريح من الحاكم العسكري. واستمر هذا الحكم لغاية عام 1966. وكان عدد سكان أم الفحم في عام 1949 نحو 5500 نسمة، وهو يبلغ وفقاً لمكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي 52.314 نسمة، حسب إحصائيات 2015. وبذلك تكون أم الفحم ثالث أكبر مدينة عربية في إسرائيل، بعد الناصرة (90 ألفاً) ورهط (65 ألفاً).
وبالنسبة للأراضي، كان بحوزة أهالي البلدة 77 ألف دونم من الأراضي، غير أن السلطات الإسرائيلية صادرت معظمها، ولم يبقَ لهم سوى 24 ألف دونم. كذلك مُورست عليهم سياسة تمييز عنصري انعكست في جميع مناحي الحياة. فعلى سبيل المثال، تعد أم الفحم في العشر قبل الأخير في السلم الاقتصادي الاجتماعي، بسبب نسبة الفقر العالية بين السكان (تضاهي 55 في المائة). ونسبة النجاح في امتحان التوجيهي الثانوي لا تزيد عن 54 في المائة. ومعدل الأجور في المدينة 5078 شيكلاً (الدولار يساوي 3.5 شيكل)، مع العلم أن معدل الأجور في إسرائيل يصل إلى نحو 8700 شيكل. هذه السياسة كانت سبباً في تذمر دائم للسكان، تنامى إلى غضب شعبي ونضال سياسي وطني طيلة 70 سنة. فأم الفحم، كانت طليعية في النضال ضد التمييز ومن أجل المساواة. في «يوم الأرض» عام 1976، وهو الإضراب الشامل الذي أعلنه فلسطينيو 48 احتجاجاً على سياسة نهب الأرض والتمييز العنصري، لعبت أم الفحم دوراً طليعياً. وكانت مساهمتها عالية في تشكيل «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» عام 1977، التي جاءت لتبلور إطاراً وحدوياً للقوى الوطنية في صفوف المواطنين العرب سوية مع قوى ديمقراطية يهودية تؤمن بالسلام والمساواة في إسرائيل.

«انتفاضة الأقصى»
وفي عام 2000، عندما هبت الجماهير العربية ضد الزيارة الاستفزازية للمسجد الأقصى، التي قام بها أريئيل شارون - زعيم المعارضة في حينه - وأدت إلى نشوب «انتفاضة الأقصى»، كانت أم الفحم في المقدمة. وفقدت ثلاثة من شبانها، الذين سقطوا شهداء برصاص الشرطة الإسرائيلية (يومذاك قتل 13 شاباً عربياً من فلسطينيي 48 برصاص الشرطة) وأصيب المئات بجروح.
ومع اشتداد القمع الإسرائيلي، كان يرتفع باستمرار المزاج السياسي الوطني، وتزداد حدة التوتر، وفيما بعد تزداد حدة التشدد أيضاً. في البداية كان يقود القرية شخصيات سياسية مقربة من الحكومة. وفي أواسط السبعينات، انتخب محمد مصطفى محاميد، وهو من الشخصيات الوطنية، التي قادت نضالات يوم الأرض. وانتخب بعده هاشم محاميد، رئيساً للبلدية، وهو عضو كنيست عن «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» (يسار) وأصبح رئيساً للجبهة. ثم منذ 1989 انتخب لرئاستها الشيخ رائد صلاح، الذي انشق عن الحركة الإسلامية برئاسة الشيخ عبد الله نمر درويش، وأسس ما يعرف باسم «الحركة الإسلامية – الشق الشمالي». وتميز صلاح بالنشاط الجماهيري الواسع والمثابر لمواجهة الخطط الإسرائيلية، الفردية أو الحكومية، للمساس بالحرم القدسي الشريف. وراح ينظم في كل سنة مهرجاناً تحت عنوان «الأقصى في خطر»، ليضم عشرات ألوف المناصرين.
وللانشقاق عدة أسباب سياسية وشخصية، لكن من أهمها أن حركة رائد صلاح لا تعترف بالدولة العبرية، ولا تشارك في انتخاباتها البرلمانية (بعكس الحركة الإسلامية الأصلية الممثلة بأربعة نواب في الكنيست). وأقام صلاح علاقات علنية مع تنظيم حركة الإخوان المسلمين في العالم. وهكذا، استغلت حكومات إسرائيل الخطاب السياسي لحركة رائد صلاح، ذريعة للبطش بالعرب، وسن المزيد من القوانين العنصرية. وأصدر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أمراً بحظر هذه الحركة وإخراجها عن القانون هي وجميع مؤسساتها، وأغلق صحيفتها، كما تم اعتقال الشيخ صلاح وعدد آخر من قادة الحركة، بينهم رئيس بلدية آخر سابق هو الدكتور سليمان إغبارية. ولم يعد يمر شهر من دون تحريض على هذه المدينة. وأخيراً، بعدما نفذ ثلاثة شبان من أم الفحم عملية مسلحة على باب الأسباط بالقدس، قتلوا خلالها ثلاثة عناصر من الشرطة الإسرائيلية (اثنان منهم عرب)، وهربوا إلى المسجد الأقصى (قتلتهم الشرطة لاحقاً)، دارت عملية تحريض دموية ضد الحركة الإسلامية وضد أم الفحم. وعندما اكتشف ثلاثة شبان آخرون منها كأعضاء في خلية داعشية خططوا لتنفيذ عملية أخرى في الحرم القدسي، عاد ليبرمان وأمثاله إلى مشروع الترحيل من جديد. وحتى عندما ازدهرت في أم الفحم أعمال وجرائم عنف داخلي بين السكان أنفسهم، على خلفيات الشجارات الشخصية والعائلية وغيرها من أسباب التخلف عن الحضارة، كانوا يحولون أم الفحم إلى «كيس خبطات». وبدلاً من معالجة القضايا العينية - إذ العنف منتشر في معظم البلدات الإسرائيلية، العربية منها واليهودية، والشرطة ليست بريئة من هذه الأعمال إذ إنها تبدي إهمالاً فظيعاً لهذه الظواهر - تجدهم يضعون علامة على أم الفحم بالذات، وكأنها رمز للعنف.

بين المطرقة والسندان
بالطبع، أهالي أم الفحم من جهتهم يشعرون أنهم بين المطرقة والسندان. فهم يرفضون التطرف والعنف مثلما يرفضون السياسة العنصرية للحكومة. ورغم سياسة التمييز العنصري، يتمكنون من تحقيق نجاحات باهرة على كل الأصعدة. ففي البلدة واحدة من أنجح المدارس الثانوية، وهي مدرسة خاصة بإدارة الحركة الإسلامية. والحزب الشيوعي تمكن من إرسال نحو 350 شاباً، تعلموا في الدول الاشتراكية سابقاً، وتحولوا إلى أهم وأنجح الأطباء والعلماء والمهندسين في إسرائيل. كذلك فيها عدد من أبرز الشخصيات الوطنية، الذين أصبحوا في طليعة القيادات السياسية الوطنية، مثل المناضلين محمود إغبارية ومحمد شريدي، والنواب البرلمانيين هاشم محاميد والدكتور عفو إغبارية والدكتور يوسف جبارين والشيخ هاشم عبد الرحمن، رئيس البلدية الأسبق، والشيخ خالد حمدان، رئيس البلدية الحالي. وأيضا مثل رجا إغبارية، رئيس «حركة أبناء البلد» التي تمثل التيار القومي، الذي رغم محدوديته الجماهيرية ظل مثابراً على مواقفه منذ تأسيس حركة الأرض في الخمسينات من القرن الماضي وحتى اليوم، والفنان سعيد أبو شقرا، صاحب أول غاليري فنون عربي في إسرائيل، ويجري فيها راهناً بناء مستشفى.
أخيراً ـ في الخطاب المحلي لأم الفحم هناك مسعى لتغيير اسمها من أم الفحم (الذي أطلق عليها بسبب كثرة المفاحم التي عمل فيها الأهالي) إلى «أم النور»، في إشارة إلى دورها الطليعي في العلم وفي الكفاح.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.