في العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس، من المعتاد تناول وجبة خفيفة بعد الانتهاء من العمل، تحديدا قبل تناول وجبة العشاء الرئيسية التي عادة ما تكون بعد التاسعة مساءً. وغالبا ما يختار الأرجنتينيون القهوة وإلى جوارها «الفاغور» Alfajor اللذيذة، وهو عبارة عن رقائق من البسكويت المستدير صغير الحجم. وحلوى الفاغور تتكون من كعكتين بقطر أربعة سنتيمترات تقريبا، وبينهما كريمة الكراميل بالحليب. غالبا ما تكون «الفاغور» مغموسة في الشوكولاته، وأحيانا مغطاة بالسكر الأبيض الناعم أو جوز الهند. وعلى الرغم من تقليد تناول تلك الحلوى في فترة ما بعد الظهيرة، يقول الأرجنتينيون إنه ليست هناك ساعة أو وقت محدد من ساعات النهار لتناولها. وقد انتشرت حلوى «الفاغور» ذائعة الصيت والأكثر انتشارا بين جميع أكلات الأرجنتينيين، وشقت طريقها للنصف الجنوبي من أميركا الجنوبية من خلال دول الشرق الأوسط. فتاريخ وتطور حلوى «الفاغور» يرتبط ارتباطا وثيقا بالمذاق المميز واللذيذ للأطعمة الشرقية.
في مقابلة مع صحيفة «الشرق الأوسط»، قال الكاتب جورج دجوستيني، مؤلف كتاب «الفاغور الأرجنتينية... قصة أيقونة»، إن «اسم تلك الحلوى يعود للأصل الإسباني العربي (الحشو)، والتي تعني ملء الفراغ، والتي تعود إلى زمن الأندلس خلال الفترة بين عامي 711 و1492 ميلادية، والتي ازدهرت فيها الثقافة العربية فيما يعرف اليوم بإسبانيا. كان لتلك الثقافة تأثيرها في النظام الغذائي المحلي، وفي مسميات الحلوى المتوارثة جيلا بعد جيل، وكذلك الحبوب والبقوليات في جميع أنحاء أوروبا. وعلينا أن نتذكر جيدا أن العرب هم من جلبوا قصب السكر من خلال جنوب إسبانيا وإيطاليا».
فقد بدأت رحلة الفاغور للأرجنتين عام 1600 ميلادية عن طريق السفن التي سافرت من الأندلس، إسبانيا اليوم، إلى بوينس أيرس. وتحتفظ الأندلس اليوم بأسلوبها الخاص في عمل حلوى «الفاغور»، لكن بعض التعديلات طرأت عليها لتناسب الذوق المحلي بعد وصولها إلى دول أميركا. ويشرح دجوستيني قائلا: «مرت تلك الحلوى بمراحل كثيرة بسبب صعوبة الحصول على بعض المقادير والبهارات. ففي الكثير من الحالات، كانت الكعكتان تصنعان من دقيق الذرة أو البطاطا وكان الحشو في الوسط يتكون من كريمة (دولسي دي ليتشه). بعد ذلك بدأ الناس في استخدام دقيق القمح، وفي عام 1870 استخدموا الزبدة». فالمقادير بسيطة، لكن هناك الكثير من الإضافات المتنوعة الأخرى، لكن الأهم هو الدقيق والعسل ودولسي دي ليتشه، مع الحرص على أن تكون الكعكتان هشتين وناعمتين في الوقت نفسه.
تعتبر «الفاغور» الحلوى التقليدية الشائعة لارتباطها بالثقافة الأرجنتينية للدرجة التي بات مذاقها يختلف بين منطقة وأخرى في البلاد، مما جعل السائحين يبحثون عنها بمجرد وصولهم البلاد. فتلك الحلوى تمثل التقليد السائد في المكاتب الأرجنتينية؛ ولذا يحرص المسافرون الأرجنتينيون على اصطحابها هدايا لأصدقائهم عند مغادرة البلاد ليقدموا علبة «الفاغور» المصنوعة في منطقة معينة من البلاد.
«تعتبر الفاغور المنتجة في مقاطعة سانتا تقليدية لارتباطها بدستور البلاد، حيث يقال: إن من كتبوا الدستور الأرجنتيني عام 1853 اصطحبوا الحلوى إلى بيوتهم بعد الانتهاء من صياغته. وكانت تلك الحلوى عبارة عن ثلاث كعكات وبينها حشو من الكراميل ومغطى بالشوكولاته. وفي مدينة قرطبة، الواقعة وسط البلاد، يتميز البسكويت بنعومته وبحشو المربى المصنوعة من الفاكهة التي تشتهر بروعة إنتاجها منها. وتتميز بوينس أيرس وساحل الأطلسي بنوع أحدث من الفاغور. فبدءا من عام 1950، ظهر الفاغور الذي يتكون من البسكويت المصنوع من الزبد ودقيق القمح، وحشو «دولسي دي ليتشه» ويغطى من الخارج بالشوكولاته»، وتعتبر تلك الوصفة الأكثر انتشارا هناك.
في الحقيقة، ما من متجر في الأرجنتين إلا ويعرض تلك الحلوى. وبدأت حلوى «الفاغور» في الانتشار بعد عام 1930 عندما خرجت من مطابخ البيوت إلى المصانع لتباع في محال السوبر ماركت. ويعود تاريخ أول ماكينة إنتاج إلى القرن التاسع عشر. واليوم هناك ما يزيد على مائة نوع من «الفاغور» تنتجها مصانع تعود ملكيتها لعائلات بعينها. فصناعة الفاغور في الأرجنتين لا تخلو من إبداع فائق للدرجة التي يستطيع فيها المشتري الحصول على أنواع مصنوعة من الأرز لمن يرغب في اتباع نظام غذائي لتقليل الوزن.
ويشير دجوستيني إلى أنه على عكس إسبانيا، حيث لا تُستهلك تلك الحلوى سوى في احتفالات الكريسماس، فإن تلك الحلوى تستهلك في الأرجنتين بصفة يومية، وأحيانا أكثر من مرة يوميا. ويضيف مؤلف الكتاب، أن «تعداد سكان الأرجنتين يبلغ نحو 40 مليون نسمة يستهلكون ستة ملايين كعكة الفاغور من إنتاج المصانع المنتشرة في أرجاء البلاد يوميا، ناهيك عن تلك التي يجرى إنتاجها في المقاهي ومحال الحلوى. وتقريبا نصف الشوكولاته المستهلكة في الأرجنتين يتم استهلاكها في صناعة الفاغور».
ونتيجة لذلك؛ نستطيع القول إن علاقة عاطفية وارتباطا وثيقا نشأ بين الأرجنتينيين وبعضهم بعضا بفضل الفاغور، إضافة إلى كونها أهم هدية يستطيع السائح العودة بها من هناك؛ ولذلك فهي مرتبطة بمشاعرنا لارتباطها مثلا برحلة ما أو بفترة الطفولة؛ لأن أطفال المدارس كثيرا ما يتناولونها في فترات الراحلة بالمدرسة.
أصل تلك الحلوى الأرجنتينية غير معلوم، غير أنه بعد التحري لثلاث سنوات نشر جورج دجوستيني كتابه الذي أورد فيه تفاصيل تاريخها الذي عرض لاحقا بمتحف بوينس أيرس. ويشمل العرض المتحفي جولة تاريخية، وعرضا لعدد من الوصفات، وعرضا عمليا، وبالطبع تذوقا لعينات من المنتج.
وتعتبر الفاغور الرفيق الأمثل للقهوة والشاي المصنوع من الأعشاب المرة والتي لن يكفيك تناول كوب واحد منها.
الفاغور... رفيقة القهوة والشاي
حلوى أرجنتينية بمذاق وأصل عربيين
الفاغور... رفيقة القهوة والشاي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة