«البيت الأزرق»... نشيد طويل يحتفي باللغة

عبده وازن من ضفاف القصيدة إلى الرواية

«البيت الأزرق»... نشيد طويل يحتفي باللغة
TT

«البيت الأزرق»... نشيد طويل يحتفي باللغة

«البيت الأزرق»... نشيد طويل يحتفي باللغة

جاء عبده وازن إلى الرواية من ضفاف القصيدة، إذ نشر عددا من الكتب الشعرية كان آخرها «الأيام ليست لنودعها». أنجز، من خلالها، قصيدة متطورة، ابتكرت لنفسها طرائق مخصوصة في تصريف القول وتشكيل الصورة. هذه الضفاف الأولى هي التي تسوغ حسه المرهف باللغة، بإيقاعاتها، بظلالها الإيحائية وبطاقاتها التخييلية الكبيرة. فلغة عبده وازن تشدنا إليها، قبل أن تشدنا إلى شيء آخر خارج عنها، تمتعنا بحضورها قبل أن تمتعنا بما تقول.
ويتجلى هذا الاحتفاء باللغة أقوى ما يتجلى في روايته «البيت الأزرق» الصادرة حديثاً عن دار ضفاف - بيروت والاختلاف - الجزائر. فهي تنهض فيه بوظيفتين اثنتين متداخلتين، متشابكتين: تخبر، من جهة، عن نفسها وتخبر من جهة أخرى، عن العالم الذي صدرت عنه، تقول ذاتها، مرة، وتقول، مرة أخرى، الواقع الذي يحيط بها. وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا إن هذا العمل الجديد ليس إلا نشيداً طويلاً يزجيه الكاتب للغة، للكتابة، لقوى الإنسان المبدعة، نشيداً يحتفي بالرواية بوصفها «نص النصوص»، في فضائها الرحب تلتقي روافد فنية ومعرفية شتى. بسبب من هذا لم يكتفِ عبده وازن، في هذه الرواية، ببناء عالم متخيل يضج بالشخصيات والوقائع، بل جعل من الفعل السردي حدثاً من جملة أحداثه، ومن الخطاب الروائي فاعلاً من فواعله الكثيرة. وإذا استخدمنا عبارة أمبرتو إيكو قلنا إن هذا العمل جعل من الرواية «فرجة معرفية»، تتداخل في فضائها الممارسة النصية بالتفكير فيها تداخل التسوية والتعمية والتشابك.
- الدخول إلى محترف الكتابة
منذ الصفحات الأولى يأخذ الراوي بيد قارئه ويدخله، برفق، إلى مختبر الكتابة ليكشف له عما غمض من أسرارها ويجلي ما استغلق من معانيها. هذا المختبر لا يعرفه القارئ، ولا ينبغي له أن يعرفه، لأنه يفضح أسرار اللعبة، ويكشف عما خفي من قوانينها وقواعدها. على هذا أمعن الروائيون الكلاسيكيون في إغلاق أبوابه ونوافذه ليبقى مظلماً ساكناً لا يجرؤ أحد على التسلل إليه. إنه مكانهم السري الذي يمارسون فيه كيمياء الصناعة بعيداً عن عيون الفضوليين.
ورواية «البيت الأزرق» تنقض هذا العرف، فتفتح هذا المختبر وتستضيف القارئ، غير مبالية بالتقاليد الروائية التي تفرق بين الأجناس، وتجعل التأمل في فعل الحكي من وظيفة النقاد ومنظري الأدب، وليس من وظيفة المبدعين والكتاب.
هذه الرواية تسرد، في المقام الأول، قصة الرواية، تحملنا إلى عوالم التخييل، وتصور لنا، بحس درامي، مآزق الكتابة ومضايقها.
- بناء الرواية
تتكون الرواية من مجموعة قصص آخذ بعضها برقاب بعض. ثمة قصة إطارية أولى، هي قصة الراوي الذي يخاطبنا بضمير المتكلم (وهو الضمير الذي يستخدمه كُتاب المذكرات، واليوميات، والسير الذاتية) ليسرد الأحداث ويصور الشخصيات. هذه القصة الأولى، التي تستهل بها الرواية، سرعان ما تنفتح على مجموعة من القصص الصغرى هي قصص بول السجين السابق، وحبيبته سامية، وطارق الأحمر. وهذه القصص تنفتح، بدورها، على قصص أصغر هي قصص الأب ألبير وغادة داغر وإدموند. ومن أجمل هذه القصص الفرعية القصة التي تروي علاقة الراوي بنسرين، المرأة ذات الجسد الناقص، المرأة التي كان جسدها كاملاً ثم تناقص. تتضمن هذه القصة صفحات من الأدب الرفيع، تمتزج فيها كينونة الشعر بصيرورة السرد في وحدة لا تنفصم عراها. لقد صورت، برهافة شعرية لافتة، الإنسان في عنفوانه وضعفه، في زهوه وانكساره في تمرده وخضوعه.
هذا البناء المفتوح يتيح للقصص أن يتناسل بعضها من بعض وكأن فعل القص باب مشرع على المطلق واللانهائي. يذكرنا تناسل القصص بعضها من بعض بظاهرة «التضمين» في القص القديم. والتضمين حركة انفتاح على الداخل يتم بمقتضاه استدعاء قصة لأخرى بحيث تصبح القصة الأولى مشيمة تحتضن قصصاً شتى، غير أن هذه القصص تظل تحيا داخل القصة الإطارية في كنف العافية. هذا التناسل إن هو إلا زج بالمروي له في متاهة لا يُحد منتهاها، حيث تتشابك الدروب وتتداخل السبل ويصبح التلقي ضرباً من التيه، ضرباً من الاستغراق والذهول.
وكثيراً ما يعمد الراوي من أجل إذكاء ظمأ المروي له إلى تعليق أحداث قصة ليشرع في سرد قصة ثانية، سرعان ما يتنكب عنها ليسرد وقائع قصة ثالثة. ومن ثم يصبح المروي له مشدوداً إلى عدد من القصص منتظراً خواتم كثيرة.
- مأزق النهاية
هذه الرواية ليست رواية هذه الشخصيات التي ذكرْنا، بقدر ما هي رواية الكتابة التي تريد أن تصطاد العالم في شباك الكلمات، لكنها لا تظفر منه إلا ببعض الصور العابرة، إلا ببعض البقايا المتناثرة. لهذا أجنح إلى القول إن الرواية هي «بطلة» الرواية، الشخصية الرئيسية فيها، منها تتولد كل الأحداث وإليها تؤول. منذ الصفحات الأولى يخبرنا الراوي أنه بصدد كتابة رواية لكن خاتمتها قد استعصت عليه. عامان مرّا على انهماكه في تحريرها وما برح عاجزاً عن الظفر بنهايتها.
هذا الراوي الذي ظل اسمه مجهولاً يحترف مهنة الكتابة، يكتب كما قال عن الآخرين ولهم مقابل أجر مالي، فيوقع هؤلاء الكتب بأسمائهم وهم يعلمون أنه لا شأن لهم بها. ورغم تجربته الطويلة مع الكتابة لم يتمكن من إنهاء روايته فظلت دون خاتمة تضع حداً لأحداثها ووقائعها. في هذا السياق تنفتح الرواية على تأملات في «مأزق النهاية»، النهاية التي تلائم، من ناحية أولى، منطق الأحداث، فلا تخرج عليها، وتتفق وطبيعة الشخصيات، من ناحية ثانية، فلا تعدل عنها.
«مأزق النهاية» مثل «مأزق البداية» كان من المواضيع الأثيرة في النقد المعاصر. فالشاعر والكاتب الفرنسي أراغون اهتم كثيراً بالخاتمة بوصفها الصمت الذي يعقب الكتابة. أما رولان بارت فقد عدها «مرآة لبداية الرواية». فقراءة النص الروائي تتيح لنا أن نكتشف السبل وطبيعة التحولات التي تجعل الخاتمة موصولة بالمقدمة.
وأشار النقاد إلى أن الخاتمة هي التي تبقى موشومة في ذاكرة القارئ بعد أن ينتهي من القراءة. وأضافوا أن عدداً من المتلقين يعودون فيقرأون الرواية انطلاقاً منها. ومن ثمة تتحول الخاتمة إلى شكل من أشكال البدايات.
يوضح الراوي بعد تأملاته أن «الرواية التي يكتبها تحتمل نهايتين ممكنتين: فإما أن يدفع جولييت، الشخصية الرئيسية في رواية المتكلم، إلى الانتحار، وهذا كما يقول الراوي/ الكاتب، يتلاءم مع شخصيتها؛ فهي تعاني من اكتئاب مزمن، وإما أن يدعها تسقط في اكتئابها تاركاً مصيرها مجهولاً. يميل الراوي إلى فكرة انتحار البطلة حتى تنتهي من ألمها النفسي»، مردفاً: «سأبحث لها عن طريقة رحيمة في الانتحار. إنها امرأة رقيقة ولا تحتمل الموت القاسي».
يكتب الراوي نهايات ثلاثاً، تقدم ثلاث طرق مختلفة للانتحار، مستحضراً صور شخصيات روائية نسائية أقدمن على وضع حد لحياتهن، مثل مدام بوفاري وآنا كارينينا وسواهما.
هكذا يفتح لنا الكاتب الراوي محترف الكتابة، يسلط الضوء على طريقته في تشكيل الأحداث وبناء الشخصيات، موضحاً أن الخاتمة إمكانات مفتوحة، وأن كل رواية هي أفق من الروايات.
لكن الرواية لا تروي قصة مخطوط واحد فحسب، بل قصة مخطوط ثانٍ هو مخطوط بول، السجين السابق الذي اتُّهم بقتل امرأة هي سامية. هذا المخطوط سلمته ندى التي تعتني بأمور السجناء نفسيّاً واجتماعياً، إلى الراوي، والتمست منه تصحيحه. يهجر الراوي روايته وينكب على النص الذي تركه السجين يصحح ويحذف ويزيد وكأنه على حد عبارته يعيد كتابته. وهنا يثبت الراوي، بحروف بارزة، صفحات المخطوط داخل الرواية، فإذا بالقارئ أمام نصين متوازيين، متداخلين. هذان النصان ينفتحان على نص ثالث هو نص التحقيق الذي يريد الراوي أن يكتشف، من خلاله قاتل سامية، المرأة التي اتهم بول بقتلها. وهذا التحقيق يستدعي، بدوره، قصصاً أخرى كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.
لكن هذه الجوانب الميتا سردية لا تتجلى في الأحداث فحسب وإنما تتجلى أيضاً في تواتر كثير من المصطلحات التي تركت مظانها وانفصلت عن منابتها، وأصبحت جزءاً من الرواية تبده القارئ بمحمولاتها المفهومية التي هي بلغة النقد والمطارحات الفكرية أوثق صلة. فعبارات مثل الشخصية الرئيسية والبطل المضاد والشخصية الدوستويفسكية والأحداث والعنوان وخاتمة الرواية، وغيرها كثير مما جاء منجَّماً في تضاعيف الرواية، هي بمعاجم النقد الحديث أمست رحما.
لكن الراوي لم يكتف باستدعاء هذا المعجم النقدي بل أقحم، في فصول الرواية، ملاحظاته ومواقفه النقدية. فهو على سبيل المثل يعترض على استخدام عبارة «البطل» المتواترة في القراءات السردية ويستبدل بها عبارة الشخصية الرئيسية، لإيمانه بأن «ليس من أبطال في هذا العالم، عالمنا، ولا حتى في الروايات». كما أنه يعترض على ظاهرة الشخصية التي تتحول إلى قرين، كما هو الحال بالنسبة إلى الشاعر فرناندو بيسوا والكاتب بورخس، ويختار أن تتحول شخصية القرين إلى صديق مع كل ما تنطوي عليه هذه العبارة من معاني التعاطف والتوادد. كما أنه يدلي برأيه في القصص البوليسية التي لا يمكن، في نظره، أن تدخل عالم الأدب الرفيع أيّاً كان كاتبها: «أعترف أنني لم أقرأ في حياتي سوى بضع روايات من هذا النوع الذي ما برحت أصنفه اعتباطاً خارج الأدب، على خلاف الثقافة الغربية التي توليه كبير اهتمام وتدرجه في صميم الأدب الحديث». كل هذا يؤكد أن الخطاب الروائي قد أسقط الحدود بين الإبداع والتأمل في الإبداع، بين لغة النقد ولغة التخييل، ساعياً إلى ابتكار نص جديد يمتح من ذينك النوعين طاقاته الاستعارية والرمزية غير آبه بالفوارق الأجناسية التي تباعد بينهما.
في هذا المحترف الروائي الذي أخذنا إليه الروائي تبوح الكتابة بأسرارها وخفاياها وتبدد الأوهام الرومانسية التي كانت تعتبر الأدب ضرباً من البديهة والإلهام. إلى وقت قريب كان محترف الكتابة محترفاً مغلقاً، يلفه الظلام، ويكتنفه الغموض، كل الكتاب يتكتمون عن البوح بأسراره تمنعاً أو ترفعاً أو بحثاً عن سلامة موهومة.
لكن هذا الصنف من الرواية، وهو ينهض بوظيفة التأمل في أسئلة الكتابة، يعمد إلى قلب التقليد الذي يتوجه إلى الرواية بوصفها موضوعاً للتأمل لا أداة لإنتاج المعرفة، على حد عبارة الناقد رشيد يحياوي، فبات الخطاب الروائي، بسبب من ذلك، يمتلك صلاحية تأويل ما هو نظري يستنطقه، ويحتضن أسئلته. هكذا استضافت الرواية لغة المفاهيم والمصطلحات فأسهمت، بذلك، في نقل أسئلة السرد من خارج الرواية إلى داخلها، وأسهمت في استبدال الأسئلة الآيديولوجية التي كانت تستبد باهتمام الرواية بأسئلة الكتابة وقضايا السرد.
وهذا الخطاب الميتا سردي، على حد عبارة النقاد المعاصرين، يذكرنا بظاهرة التغريب في المسرح الحديث التي استخدمها برشت، على نحو واسع، في مسرحياته. فكلاهما يسعى إلى تبديد الوهم المرجعي وجعل المتقبل على وعي باللعبة الفنية متأملاً قواعدها، باحثاً عن مقاصدها. فالرواية الجديدة لا تكف عن التنقل بين نص العالم وعالم النص، ساعية، باستمرار، إلى لفت انتباهنا إلى «صناعتها الفنية» من ناحية، وإلى الواقع الضاج بالحركة من ناحية أخرى.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.