إيران 30 عاما على الثورة ـ الحلقة (2) : الآباء الروحيون لـ «روح الله».. ومعركة الإرادات بين الشاه والحوزة

يقول الصحافي الفرنسي إيريك رولو الذي كان يعمل صحافيا في صحيفة «لوموند» الفرنسية إنه في إحدى المقابلات مع شاه إيران سأله عن البيان الذي أصدره آية الله الخميني لانتقاد البذخ في احتفالات مرور 2500 عام على حكم الشاهنشاهية، فرد الشاه غاضبا: من هو الخميني حتى أرد على السؤال. فقال له رولو: هذا مجرد سؤال صحافي.. وهناك بيان نشر من الخميني وأنا فقط أسألك رأيك. فقال له الشاه: أنا لن أرد على السؤال لأن الخميني ليس إيرانيا ولا فارسيا. هذا هنديا. وأنا لا أرد على الهنود. تلخص هذه الرواية الصراع الذي بدأ يطفو على السطح بين «كرسي الملك» في إيران و«كرسي المرجعية». تاريخيا كانت المرجعية الدينية في «قم» لها صوتها واستقلالها، إلا أن هذا الصوت وهذه الاستقلالية لم تقف يوما مهددة «كرسي الملك»، وبالتالي عندما شعر محمد رضا شاه بالخطر، لم يكن أمامه إلا محاولة التخلص من «كرسي المرجعية» بمحاولة نقله من قم إلى النجف. وكانت الظروف مواتية فقد كانت حوزة قم بلا مرجعية واضحة بعد وفاة آية الله البرجردي، وكانت قم منقسمة على نفسها فيما يتعلق بطريقة التعامل مع تصرفات الشاه، فيما اسم الخميني يصعد خصوصا وسط تيار من طلبة الحوزة يريد الانشغال بالسياسة، بل وحتى العمل المسلح. يقول المفكر هاني فحص، الذي كان همزة الوصل بين الثورة الفلسطينية والثورة الإيرانية وشاهد عيان على الكثير من تطورات تلك المرحلة في إيران، إن الخميني في انشغالاته السياسية لم يكن يشكل خروجا على المألوف وسط الحوزة، غير أن ما تميز به هو أنه وتدريجيا طور «مشروعا سياسيا» لحركته الاحتجاجية، موضحا لـ«الشرق الأوسط»: «لم يكن الإمام الخميني استثناء أو شاذا عن قاعدة رجال الدين في قم خاصة وفي إيران عامة من حيث انشغاله بالسياسة واشتغاله عليها. ونحن نتذكر أن الثورة الدستورية) أو ما سمى بالمشروطية) في العقد الأول من القرن الماضي كانت قيادتها في إيران من رجال الدين وخريجي حوزة النجف، وبعدها كانت حركة آية الله المدرس، وحركة آية كاشاني وشراكته في الانقلاب الأول على الشاه مع محمد مصدق ورفاقه. إلى ذلك فقد كانت الانطلاقة في الثورة الدستورية من النجف وبقيادة كبار المجتهدين الإيرانيين، كما كانت معارضتها منهم. ولا يمكن إنكار مشاركة علماء من أصول إيرانية في ثورة العشرين في العراق ضد الاحتلال الإنجليزي. ومن الطبيعي أن نأخذ في اعتبارنا اللحظة التاريخية بكل تفاصيلها، وشخصية الخميني ودور هذين الأمرين في إقدام الخميني على اتخاذ موقفه المعارض علنا ليكون بما ترتب عليه.. بداية في حركة انتهت بالثورة وإسقاط النظام. وفي محددات اللحظة كان هناك ما سمي بالثورة البيضاء أو الإصلاح الزراعي على طريقة الشاه، والتي أعادت أو جددت تمركز الملكيات الزراعية على حال من الجمع العشوائي بين الأسلوب الإقطاعي، وطموحات برجوازية مستجدة وطفيلية إلى الثروة والسلطة. وقد أدى هذا التركيب الهجين إلى مزيد من التردي في الإنتاج الزراعي ومستوى معيشة الفلاحين والهجرة الريفية في المدينة، مترافقا مع إطلاق يد الشركات الاستثمارية الأجنبية في السيطرة على دورة الإنتاج والسوق، وفي طليعتها الشركات الأميركية مع شراكة واسعة لإسرائيل، كادت أن تطال كل شيء، في مصادر الثروة الوطنية وحركتها لتصبح عملية النمو مرتهنة بالكامل. ما ذكر الإيرانيين بقضية شركات احتكار التبغ والتنباك الإنجليزية في أواخر القرن التاسع عشر بعد سلسلة من الأنشطة الاحتكارية بدءا من الهاتف والبريد. وذكرهم بأن رجال الدين وعلى رأسهم الميرزا محمد تقي الشيرازي هم الذين تصدوا لهذه المسألة وقادوا بالفتاوى حركة شعبية أدت إلى توقيف العملية». وقوف الخميني إذن معارضا علنيا للشاه كان استمرارا لتقاليد آيات الله في قم بدءا من الميرزا محمد تقي الشيرازي في القرن التاسع عشر وحتى آية الله الحائري وآية الله البرجردي في منتصف القرن العشرين. وفيما كان لكل منهم أسلوبا في المعارضة، إلا أن ما جمع بينهم هو أنهم أبقوا هذه المعارضة في قلب «قم»، فيما خرج بها الخميني إلى شوارع طهران ومشهد وأصفهان وشيراز. لكن ممارسات «اعتراض» الشاه كانت دائما موجودة في قم، ففي مطلع القرن العشرين كانت إيران خاضعة شكليا لحكم الأسرة القاغارية، إلا أنها فعليا كانت خاضعة للنفوذ الروسي في شمال إيران والبريطاني في جنوب إيران حيث حقول النفط. وكانت فترة صعبة اقتصاديا واجتماعيا. كانت الناس تذهب يوميا إلى مراجعها الدينية في المدن الإيرانية المختلفة تشتكي لها صعوبة الأحوال الاقتصادية، وتحالف الإقطاعيين مع النفوذين الروسي والبريطاني. فتبلورت حركة احتجاج من رجال الدين عام 1906 (عرفت باسم ثورة المشروطية) ضد الحكم القاغاري والنفوذ الروسي والبريطاني. واستطاع الشيخ فضل الله نوري، أحد كبار المرجعيات في قم في ذلك الوقت، تقييد سلطة الملك القاغاري مظفر الدين شاه وإلزامه بدستور مكتوب هو دستور عام 1906. وكان عدد من أساتذة الخميني في «المدرسة الفيضية» في حوزة «قم» من قادة «ثورة المشروطية» من أمثال آية الله التبريزي وآية الله أبادي وآية الله الخونساري، وكان لهذا تأثير على الخميني، الذي كان يغادر دروس الحوزة في «قم» ويتوجه إلى البرلمان الإيراني في طهران في العشرينات من القرن الماضي لسماع مداخلات آية الله حسن المدرس أحد أبرز وجوه المعارضة الدينية والسياسية في ذلك الوقت. (لما أُعلنت ثورة المشروطية في إيران، طلب علماء الدين من رضا خان من الأسرة القاغارية أن يحد من النفوذ الروسي والبريطاني وأن يقبل تقييد سلطاته. وكان من بينهم آية الله المدرس الذي عرف بلسانه اللاذع إذ قال مرة لرضا خان: «أنت إنسان همجي، ما شأنك وشأن السياسة، اذهب وفتش عن عمل يناسبك». وقد حاول رضا خان اغتيال آية الله المدرس في أصفهان، مسقط رأسه، لكن المحاولة باءت بالفشل، ثم تكررت محاولة الاغتيال في طهران حيث هاجمه نحو 10 مسلحين، إلا أنه لم تصبه إلا أربع رصاصات جاءت كلها في اليد). وبعد الحرب العالمية الأولى عينت بريطانيا التي اتسع نفوذها في إيران بعد انتصارها في الحرب حكومة جديدة عام 1919 برئاسة سياسي إيراني اسمه «وفوق الدولة» في ظل حكم الأسرة القاغارية، ووقع وفوق الدولة اتفاقية مع بريطانيا تقضي بإدارة الشؤون العسكرية والمالية تحت إشراف مستشارين بريطانيين. لكن وقف آية الله المدرس ضد هذه المعاهدة وضغط على الملك القاغاري لرفض الضغوط الانجليزية. فتصاعدت الخلافات وقام الإيرانيون بحركات احتجاجية في الشمال والجنوب. فاستقال وفوق الدولة، وعينت بريطانيا ضياء الدين الطباطبائي رئيسا للوزراء، فاتفق الطباطبائي مع الضابط في الجيش البريطاني ورضا شاه وزير الدفاع الإيراني آنذاك على احتلال طهران، وسجن المعارضين ومن بينهم آية الله المدرس، رئيس كتلة طهران في البرلمان الإيراني. وبعد 3 أشهر فقط استقال ضياء الدين وحل محله رضا شاه على رأس الحكومة ثم انقلب على الملك القاغاري أحمد شاه وأعلن نفسه ملكا على إيران 1926 لينتهي عصر الأسرة القاغارية ويبدأ عهد الأسرة البهلوية. خلال حكمه (1926- 1941) تأثر رضا شاه كثيرا بتجربة مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، فمنع مجالس العزاء الحسينية في إيران، وفي عام 1935 منع علماء الدين من ارتداء العمامة، وفي عام 1936 فرض نزع الحجاب، ثم ألغى العمل بالتقويم الهجري، وعطل مراسم العزاء في عاشوراء، كما عطل خطبة صلاة الجمعة، وفرض الخدمة العسكرية على طلبة العلوم الدينية. إلا أن رضا شاه وخلال الحرب العالمية الثانية دعم ألمانيا التي خسرت الحرب وتكبدت إيران خسائر فادحة. واجتاحت دول الحلفاء إيران من الشمال والجنوب، وسقطت طهران عام 1941 في أيدي الحلفاء واتخذت بريطانيا قرارا بعزل رضا شاه عن عرش إيران ونفيه لإيطاليا وتعيين ابنه محمد رضا شاه ملكا. ووسط كل هذه الأحداث كانت حوزة قم تحت زعامة آية الله الحائري في قلب الحدث السياسي، إلا أنها وبعدما فقدت الحائري عام 1947 اثر وفاته، وحلول آية الله البرجردي زعيما للحوزة مكانه، أصبحت الحوزة أقل انغماسا في الشأن السياسي. وبالتالي امتنع الخميني، الذي أصبح أحد الوجوه المعروفة في الحوزة، عن القيام بأي تحرك سياسي في قم مخافة تهديدها بالانقسام، وتجنب الدخول في القضايا السياسية إلا بتكليف من البرجردي نفسه. ويقول هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس الخبراء في إيران وأحد تلاميذ الخميني في حوزة قم، في مذكراته إن السبب في عدم انشغال البرجردي بالشأن السياسي هو أن البرجردي كان يرى ان الحوزة بلغت من الضعف منزلة ينبغي فيها أن تركز على إصلاحها من الداخل أولا، وذلك بعد ضربات الشاه المتكررة لآيات الله الكبار في الحوزة أملا في إضعاف صوتهم السياسي. كما أن الحوزة كانت في ذلك الوقت تعاني من الانقسام بين آيات الله بسبب الاختلافات فيما بينهم حول الإصلاحات التي يريدها الشاه. فالأولوية إذا كانت لإعادة الحوزة لقوتها وتماسكها الداخلي، ثم الانشغال بالسياسة ثانيا. وفي ظل مرجعية البرجردي، تم تعيين الخميني مستشارا له للشؤون السياسية وتنظيم شؤون الحوزة. وبالرغم من وجود اختلافات في وجهات النظر وتحفظات للخميني على الأداء السياسي لآية الله البرجردي إلا انه لم ينتقده علنا، وان نشط عمليا في دعم توجهات سياسية لم تنل تأييد البرجردي. ويقول هاني فحص أنه برغم التباينات بين البرجردي والخميني، إلا أن علاقتهما لم تكن مضطربة، موضحا لـ«الشرق الأوسط»: «في حدود علمي لم تكن العلاقة مضطربة بين الخميني والبروجردي. كانت ظروف البروجردي صعبة. كانت هناك مراكز نفوذ تحت ظل مرجعيته، أحاطت به وجعلت أداءه يبدو مضطربا، خاصة بعد فشل الثورة الدستورية وانقلاب بعض قياداتها عليها (مثل الشيخ فضل الله نوري الذي تراجع عن بعض مطالبه الإصلاحية)، وبعد الفصل بين كاشاني وحركة مصدق وعودة الشاه للحكم بدعم أميركي ورضاء سوفياتي». وعندما حاول محمد رضا شاه تغيير الدستور في مطلع الخمسينات لزيادة صلاحياته، عارضت الحوزة، وزاد من غضبها تلاعب في نتائج انتخابات البرلمان. فأرسل محمد رضا شاه رئيس وزرائه إقبال مبعوثا للحوزة، فانتدب آية الله البرجردي وآية الله كاشاني، رئيس كتلة نواب طهران في البرلمان، الخميني لمقابلته، وكان موقف الحوزة واضحا وموحدا وهو رفض توسيع صلاحيات الشاه على أساس أن هذا سيكون بداية يستغلها من أجل أن يلغى القوانين ويتصرف كما يشاء. وكانت الحوزة تتحرك مدفوعة بتحركات الشارع وباقي القوى الوطنية في إيران، فاضطر الشاه للتراجع عن رغبته في تغيير الدستور. ما شجع الخميني على أن يظهر بشكل علني أكثر معارضته للشاه.
لكن بالرغم من انشغال الحوزة بمعارضة سياسات الشاه، إلا أن إطاحة الشاه لم تكن في الواقع هدفا لرجال الدين في قم آنذاك. ويقول المفكر الإيراني محسن كديور لـ«الشرق الأوسط»: إن رجال الدين في حوزة قم بالرغم من اعتراضاتهم على سياسات الشاه، إلا أن مبتغاهم كان إجباره على تغيير سياساته، موضحا: «في ذلك الوقت لم يكن قد تبلور التيار الأكثر ثورية في قم الذي رأى أنه لا أمل في إصلاح الشاه.. هذا التيار تبلور تدريجيا داخل قم، والحقيقة أنه تأثر بالشارع الإيراني الذي كانت تتحرك فيه تيارات ثورية عديدة من يمين إلى يسار.. أي أن الشارع الإيراني سارع إلى تثوير الحوزة». جاءت اللحظة الفاصلة في الانشغال السياسي للخميني بعد وفاة آية الله البرجردي عام 1961، ما أتاح للخميني التحرك بسلاسة أكبر في الحوزة، إلا أن الشاه كان يريد شيئا آخر، كان يريد إضعاف حوزة قم لصالح حوزة النجف للتخلص من ضغوطات رجال الدين في إيران. فقد جاء الشاه إلى الحوزة العلمية في قم بعد وفاة البرجردي مباشرة وقام بإلقاء خطبة في مقام السيدة المعصومة، وقال إنه كان هناك سد منعه من تحقيق نوايا والده في إيران (مشيرا إلى وقوف الحوزة ضد خطوات العلمنة التي حاولها والده). واستطرد الشاه مؤكدا انه منذ اليوم ستنفذ نوايا والده في إيران. بعد ذلك أرسل الشاه رسالة إلى آية الله الحكيم في حوزة النجف، عبر له فيها عن احترامه وتقديره. ولم يكن الحكيم يتدخل في الشأن الإيراني لكن الشاه أراد إرسال رسالة مفادها أن المرجعية بالنسبة له انتقلت إلى النجف بعد وفاة البرجردي، بهدف تهميش المرجعية في قم وآيات الله فيها مثل الخميني، والقلبيقاني والمرعشي نجفي، وشريعتمداري. كانت هذه المرحلة مهمة في «صراع الإرادات» بين الحوزة وبين الشاه، فبعد عام على وفاة البرجردي، رأى الشاه أن الوقت بات مناسبا لإجراء التعديلات الدستورية التي يريدها، فأجرى تعديلات على قوانين الانتخابات البلدية تقضي بحذف شرط الإسلام للناخب والمرشح، وحذف شرط القسم بالقرآن، والسماح للنساء بالترشح في الانتخابات. فدعا الخميني إلى اجتماع عاجل في بيت آية الله الحائري اليزدي، وعارض آيات الله البند الأول لأنه يسمح في رأيهم بإدخال الطائفة البهائية في مؤسسات الدولة. فإرسال الشاه رسالة إلى آيات الله الكبار في قم داعيا إياهم «حجة الإسلام» وحثهم على الاهتمام بشؤون الفقه وهداية العامة فقط لا الدخول في السياسة وطرح رأيهم في التعديلات الدستورية التي أجراها الشاه. . لكن الحوزة كانت في مزاج آخر بعد وفاة البرجردي، كان مزاجها أكثر ثورية. فأمر الخميني تلاميذه بتنظيم مظاهرات، وامتلأت شوارع مدن إيران لمدة 6 أشهر بالمظاهرات. فاضطر الشاه إلى إرسال رسائل إلى آيات الله، باستثناء الخميني، يعلن فيها التراجع عن التعديلات الدستورية، غير أن الخميني أصر على أن يكون خطاب التنازل عن التعديلات علنيا وليس في رسالة للعلماء فنشر القرار في الصحيفة الرسمية. ويلاحظ هاني فحص أن الشاه لم يستطع أن يلحظ مبكرا تزايد المد ضده في حوزة قم، إذ كان الشاه يعتقد ان الخطر الأساسي يأتي من الحركتين اليسارية والوطنية الليبرالية في إيران اللتين دفعتا ثمنا باهظا بسبب هذا الاعتقاد. فعندما أعلن الشاه عن إحباط محاولة لاغتياله، اعتقل عشرات المعارضين من حزب «توده» اليساري، كما أعتقل آية الله كاشاني زعيم كتلة طهران في البرلمان الذي كان قريبا من الحركة الوطنية بقيادة زعيم الجبهة الوطنية محمد مصدق. فيما كانت حركة «فدائيان إسلام» المسلحة والتي خرجت من قلب قم إلى يد أحد طلبة العلوم الدينية وهو نواب صفوي تعمل من دون تضييقات كثيرة ما جعل تأثيرها يمتد بسرعة وسط طلبة الحوزة في قم، ثم خارج قم، ما ساهم في انتشار سمعة الخميني كمعارض قوى للشاه وسط الحوزة، إذ أنه كان مؤيدا لحركة نواب صفوي. وفي عام 1963 ووسط أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية صعبة، أعلن الشاه الثورة البيضاء وتتضمن الإصلاح الزراعي ومحو الأمية وبيع نسبة معينة من أسهم الشركات الحكومية للشعب وتعديل قانون، إلا أن الخميني انتقد مسالب في الثورة البيضاء ومن بينها أنها تجعل إيران تعتمد على الاستيراد من الخارج، وقال الخميني إن الإصلاحات انتهاك للدستور لأنها تمنح الشاه كل هذه الصلاحيات، وقال لأنصاره إن الهدف الآن «لم يعد الحكومة» بل «الشاه شخصيا». فخرجت المظاهرات في كل المدن الإيرانية، وبدأت الإضرابات وتعطلت الأعمال، فأعلن الشاه إجراء استفتاء على إصلاحاته وتعديلات للقوانين وقرر زيارة قم، إلا أن الخميني اصدر فتوى بتحريم استقبال الشاه. فقاطع أهالي قم ورجال الدين زيارة الشاه، إلا أن الاستفتاء مر شعبيا. لكن الخميني دعا إلى مواصلة رجال الدين الإضراب، فقرر الشاه الرد وأعطى أوامر باقتحام «المدرسة الفيضية»، أكبر المدارس الدينية في قم في مارس (آذار) عام 1963. وفي مطلع عام 1963 قرر الشاه فتح سفارة لإسرائيل في طهران فاجتمع الخميني مع آيات الله في قم وقرروا إرسال رسالة اعتراض للشاه في ذكرى عاشوراء احتجاجا، ما أدى إلى اعتقاله في 4 يونيو (حزيران) عام 1963 من منزله في قم حيث أخذ إلى طهران، ولاحقا أطلقه الشاه ووضعه قيد الإقامة الجبرية في منطقة الداودية التي تبعد 12 كيلو مترا عن طهران، فأعلن البازار الإضراب حتى إطلاق الخميني. وبعد 9 أشهر أطلقه الشاه في أبريل (نيسان) 1964. لكن خلال سجن الخميني صعد تيار داخل الحوزة بقيادة آية الله شريعتمداري يتساءل حول جدوى الثورة ضد الشاه وفرص نجاحها وكانت هذه فرصة ملائمة للشاه لتعزيز الانشقاق داخل الحوزة. وإذا كانت «تقاليد الاعتراض» داخل الحوزة أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في دفع الثورة ضد الشاه للأمام، فإن «جذور الاختلافات» بين التيار الديني من ناحية، والتيار الليبرالي الوطني واليساري من ناحية أخرى أحد العوامل الأساسية التي أثرت على مسار الثورة والدولة الإيرانية اليوم. ويلاحظ محمد علي مهتدي الصحافي الإيراني في صحيفة «اطلاعات» اليومية الرسمية أن الحركة الوطنية الإيرانية خلال تلك الفترة في الخمسينات والستينات شهدت تعاونا وتنسيقا وتبادلا للأدوار بين التيارين الليبرالي واليساري من ناحية، والتيار الديني من ناحية أخرى، موضحا لـ«الشرق الأوسط» أن هذا التنسيق والتواصل كان أيضا كاشفا وبشكل مبكر للاختلافات بين التيارين. فمنذ البداية وبالرغم من عداء التيار الوطني الليبرالي واليساري والتيار الديني للشاه، إلا أن كليهما كان يعتقد أنه هو «التيار الأساسي المحرك» للاحتجاجات ضد الشاه، وان التيار الآخر ما هو إلا «لاعب إضافي ثانوي» يدعم اللاعب الأساسي. وكان لسان حال الحركة الوطنية الليبرالية يقول: نحن دفعنا الثمن أكثر من رجال الدين، نحن من دخل السجن وتعذب. فيما رجال الدين في قم يقولون: نحن أيضا دخلنا السجون، وإن لم يكن بنفس الدرجة، لكننا حركنا الشارع بفتاوى آيات الله في الحوزة. وهناك حادثة تاريخية توضح الجذور الأولى لسوء التفاهم هذا. ففي الخمسينات شكل رجال الدين والحركة الوطنية العلمانية ائتلافا في البرلمان. وقدم زعيم الجبهة الوطنية محمد مصدق بدعم من آية الله كاشاني مشروع قانون لتأميم النفط الإيراني، فرفضت الحكومة على أساس أن إيران عاجزة عن إدارة شؤونها النفطية. فرد مصدق وكاشاني باللجوء إلى الشارع وأعلنا الإضراب العام، ثم أفتى كاشاني بالإضراب ودعا بالذات القلب الاقتصادي لطهران وهو بالبازار بالإضراب.. وهو ما كان. تواصلت المظاهرات والإضرابات وأعمال العنف، فاضطر الشاه للسماح بوصول مصدق لرئاسة الوزراء بعد فوزه في الانتخابات. لكن الاختلافات الفكرية سرعان ما بدأت تظهر بين مصدق أو الحركة الوطنية من ناحية، وبين كاشاني أو رجال الدين من ناحية أخرى. فبعد وصول مصدق لرئاسة الوزراء بدأ رجال الدين يوجهون انتقادات إلى مصدق على أساس أنه في قرارة نفسه ليس مؤمنا بدور رجال الدين أو بكاشاني. (كان مصدق يريد من كاشاني ورجال الدين أن يتراجعوا ويتركوا التكنوقراط يديرون الحكومة لأنه كان يؤمن بانفصال الدين عن السياسة، غير أن هذا لم يرض رجال الدين في قم الذين لم يشعروا بالراحة لترك السلطة في يد الحركة الوطنية التي لم تكن لتنجح لولا وجودهم معها، بحسب ما يقول هاشمي رفسنجاني في مذكراته). ثم انتقد مصدق بسبب إهانات تعرض لها كاشاني، فقد صوره البعض في الحركة الوطنية بأنه لا يفهم في السياسة أو أمور الدولة، كما أن أحدهم ألبس كلبا قطعة قماش مكتوبا عليها كاشاني، ما أثار استياء بالغا لدى رجال الدين، أما الأمر الثاني الذي أزعج رجال الدين فهو حبس نواب صفوي زعيم «فدئيان إسلام» لمدة 20 شهرا عندما كان مصدق رئيسا للوزراء. وفيما كانت أميركا تحضر لانقلاب ضد مصدق، وبحسب روايات عديدة فقد اتصل كاشاني بمصدق لإخباره بما تخطط له أميركا، وقال له إن رجال الدين يمكن أن يساعدوه أمام الشاه ومحاولات واشنطن الانقلاب عليه. لكن مصدق لم يأخذ التحذيرات على محمل الجد على اعتبار انه مدعوم من الشعب لكن أميركا نفذت الانقلاب بنجاح أغسطس (آب) 1953 واعتقل مصدق ثم أطيح به وعينت حكومة جديدة. كانت إطاحة مصدق وإضعاف كاشاني، ثم إعدام نواب صفوي.. بداية جديدة لحركة رجال الدين في إيران. فقد رأى الخميني أن السبب الأساسي في نجاح الانقلاب ضد مصدق وفشل حركة مصدق -كاشاني وإعدام صفوي هو غياب «الدفاع الشعبي الذي يحمي الثورة». فبدأ الخميني في نقل الثورة من الحوزة والجامعة إلى الشارع والمصانع والبازار وحتى رجال الجيش. الخميني بين الموسوي والهندي

* وفقا للدوائر الرسمية الإيرانية فإن جذور آية الله الخميني تعود إلى الإمام موسى بن جعفر الحفيد الخامس للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والإمام السابع في أئمة الشيعة الجعفرية الاثني عشرية. وقد استقرت عائلة الإمام موسي بن جعفر في العراق وعرفت باسم عائلة «الموسوي»، ثم هاجر جزء من العائلة إلى نيشابور، وهى إحدى المدن الإيرانية اليوم. بقوا في نيشابور فترة ومنها توجهوا إلى كشمير بالهند، إذ تولت عائلة الموسوى نشر الإسلام في كشمير، فتحول لقب العائلة إلى «الهندي». استمر نسل العائلة إلى مير حامد حسين الموسوى الهندي الذي يعتبر الجد الثالث لروح الله الخميني، أي قبل ولادة الخميني بـ 250 عاماً. سافر جد الخميني أحمد الهندي إلى النجف في العراق لإكمال علومه الدينية، ومنها عاد إلى «خمين» وهى قرية صغيرة وسط إيران حيث عمل قاضياً لخمين بناء على طلب من آية الله ميزرا شيرازي زعيم حوزة قم آنذاك، وهناك أنجب أحمد الهندي، مصطفي والد روح الله الخميني عام 1864، حيث أصبح «الخميني» لقب العائلة. ويوم ولادة روح الله االخميني في 24 سبتمبر (أيلول) عام 1902، قتل والده مصطفى على يد جماعات إقطاعية، فظلت شقيقة مصطفى وعمة روح الله الخميني صاحبة خانم في طهران 6 أشهر تلح على الملك لتعقب القاتل وتسليمه إلى أن تم ذلك وأُخذ وأُعدم في خمين.