محكمة الحريري (الحلقة 2) : ورطة القضاء اللبناني

«بعد بضع ساعات من وقوع الانفجار، وفي حوالي الساعة 23.00، أُخذ من مسرح الجريمة دليل رئيسي. فقد نُقلت سيارات موكب المرحوم رئيس الوزراء السابق إلى ثكنة الحلو، بذريعة المحافظة عليها بالرغم من أن ما تبقى من السيارات لا يبرر المحافظة عليها إلا من زاوية قيمتها كدليل جنائي باعتبارها كانت الهدف من الانفجار. وهذه ليست الحالة الوحيدة التي تمثل برهاناً على التلاعب بمسرح الجريمة. إذ إن هناك سيارة من طراز (BMW) لم تكن في جملة الموكب أُخذت من مسرح الجريمة في حين أنه كان ينبغي التركيز على عدم أخذ أية سيارة وإبقائها على النحو الذي استقرت عليه بعد الانفجار من أجل تحديد الكيفية التي اقتُرفت بها الجريمة... أدخلت جرافة إلى مسرح الجريمة في مساء يوم الانفجار، 14 فبراير (شباط) 2005، دونما أي مبرر... جرى البحث عن المفقودين بصورة غير مسؤولة وغير مهنية وغير مبالية، وقد عثر على البعض في وقت لاحق عن طريق الصدفة أو بواسطة أسرهم». هذه مقتطفات من التقرير الذي أعده رئيس قوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي الذي تسلم مهامه في مارس (آذار) 2005 بعد استقالة اللواء علي الحاج المسجون اليوم على خلفية اغتيال الحريري، عن التدابير الأولية التي اتخذتها السلطات اللبنانية المختصة في مسرح الجريمة. واستنتج ريفي في تقريره الذي قدم نسخة منه للجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، «أن التدابير المتخذة (للحفاظ على موقع الجريمة)، كانت دون المستوى المطلوب وتتعارض مع القاعدة الأساسية الواضحة التي يجري بمقتضاها التحقيق بجريمة جسيمة من هذا النوع بل بجريمة أقل جسامة منها، والتي يتعين بصددها، أياً كانت درجة جسامتها، اتخاذ تدابير صارمة تحول دون إفساد مسرح الجريمة أو التلاعب بأي خيط يمكن استخدامه كدليل جنائي ويساعد في عملية التحقيق والكشف عن الحقيقة. وكان بالإمكان الاضطلاع بهذا الأمر دون إغفال الجوانب الإنسانية للمهام الواجب القيام بها». ما حصل بعد ساعات من اغتيال الحريري، شكل دافعاً أساسياً لعائلة الحريري ولتيار المستقبل الذي أسسه الحريري، ولحلفائه اللبنانيين، للمطالبة بمساعدة دولية في التحقيق بالجريمة. وسلط الضوء أيضاً على السلك القضائي في لبنان.. وعلى الورطة الواقع فيها. ظلت لما ورنا غلاييني تبحثان عن والدهما محمد الذي اختفى ظهر يوم 14 فبراير (شباط) في العام 2005 عندما كان يركض على الكورنيش بالقرب من فندق السان جورج في بيروت، لأكثر من أسبوعين.. إلى أن وجدتاه مدفوناً تحت عشرة سنتيمترات من التراب والحجر في موقع الانفجار الذي استهدف رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. اخترقت الفتاتان جهاز الأمن الذي يطوق مسرح الجريمة ودخلتا تفتشان على والدهما بنفسيهما على مرأى من عيون رجال الأمن والأجهزة الرسمية المختلفة. اكتشاف جثة غلاييني من قبل بنتيه، شكل فضيحة حينها وسلط الضوء على الإهمال والفوضى اللذين سادا مكاناً اغتيل فيه الحريري. ولم تكن قصة العثور على غلاييني إلا واحدة من قصص كثيرة رويت حول عدم المهنية المقصودة أو غير المقصودة في التعاطي مع مسرح الجريمة. الارتباك وغياب التنسيق بين الوحدات الأمنية المختلفة التي توجهت إلى مكان الانفجار تلك الليلة، إضافة إلى التلاعب بمسرح الجريمة ونقل أدلة ومحاولة ردم الحفرة الناتجة عن التفجير وإعادة فتح الطريق في الليلة ذاتها، كلها كانت مؤشرات إلى ما كان يمكن أن يتوصل إليه التحقيق في قضية اغتيال الحريري، لو أنه بقي لبنانياً فقط. وقد دفع تحقيق السلطات اللبنانية المشوب «بأوجه قصور خطيرة»، كما وصفته لجنة تقصي الحقائق الدولية التي أوفدها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في 19 فبراير (شباط)، بمجلس الأمن إلى إنشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة لمساعدة السلطات اللبنانية في التحقيق، بناء على توصية لجنة تقصي الحقائق التي كانت برئاسة الضابط الأيرلندي بيتر فيتزجيرالد. يجادل البعض أن هذا القصور الخطير في التحقيق اللبناني، قد يكون ناتجاً عن «قلة العادة». فبعد انتهاء الحرب الأهلية في بداية التسعينات، حصلت جرائم سياسية كثيرة في لبنان لم يكشف إلا عن القليل فيها، على الرغم من إحالتها إلى المجلس العدلي وتعيين محققين عدليين فيها. يقول رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق أنطوان خير لـ«الشرق الأوسط»، «إن هذه الجرائم تمت بشكل عام وسط جو معين معروف، وفي معظمها لم يكن أحد يشدد على إجراء تحقيق فيها، بل كان من المفضل أن يتم نسيانها». قد يكون هذا السلوك، الذي فرض على المحققين القضائيين في لبنان طوال سنوات الوجود السوري، الجو المعروف الذي ذكره الرئيس خير، قد جعل من الإهمال وعدم الاكتراث بالحفاظ على ساحة الجريمة، أمراً نمطياً. ولكن مشكلة المحققين في لبنان، والجسم القضائي عموماً، أكثر تعقيداً من ذلك. لبنان رغم صغر حجمه، وعدد سكانه الذي لا يتجاوز الأربعة ملايين شخص، تعيش فيه 18 طائفة دينية مختلفة.. تتحكم بكل أوجه الحياة العامة فيه تقريباً. كل مناصب الدولة، بدءًا من الرئاسة إلى أصغر موظف، مدروسة بحسب كوتة طائفية معينة. لا يملأ فرد منصباً، إلا إذا كان ينتمي للطائفة الصحيحة، من البرلمان إلى مجلس الوزراء وصولا إلى المناصب القضائية. وزير العدل السابق سمير الجسر يقول لـ«الشرق الأوسط» إن مراعاة التوزيع الطائفي في التشكيلات القضائية «هي مشكلة كبيرة، لأنه أحياناً نأتي بأشخاص أقل كفاءة عند تعيين القضاة لمراعاة التوزيع الطائفي». وعلى الرغم من أن الجسر يرفض الحديث عن ضغوط سياسية تمارس على السلك القضائي في لبنان، فهو يفضل الحديث عن استقلالية القضاة كأفراد، ويقول: «لا يمكن لأحد أن يضغط على أي قاضٍ، إذا كان هو يريد أن يكون مستقلا». ولكنه عندما يتحدث عن أسباب اللجوء إلى تحقيق دولي ومحكمة دولية في قضية اغتيال الحريري، يقول الجسر إن السبب كان «الضغوط السياسية» التي كانت محيطة بالبلد، ويعقب على ذلك بالتذكير بأن اغتيال الحريري تم في ظل عهد الوصاية في لبنان. ويقول: «السوريون كانوا يهيمنون على الحياة السياسية كلها، وتأثيرهم كان يصل حتى إلى الجسم القضائي». بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان في 26 أبريل (نيسان) 2005، يقول الجسر إن الانقسام السياسي في البلاد، هو الذي حتم استمرار اللجوء إلى التحقيق الدولي ومن ثم المحكمة الدولية. ويضيف إلى ذلك، أن جريمة اغتيال الحريري «لم تكن شخصية، فالرئيس الحريري لم يستشهد بسبب خلاف شخصي مع أحد حول نزاع مالي، المسألة كبيرة وتتعلق بالاستقرار السياسي بالمنطقة ومحاولة بسط نفوذ». ولكن خير الذي قضى نحو خمس سنوات في رئاسة مجلس القضاء الأعلى، وترك منصبه العام الماضي، يرسم صورة أكثر قتامة لواقع الجسم القضائي في لبنان. يقول خير إن نضاله الأساسي خلال السنوات التي قضاها في مجلس القضاء الأعلى – الذي يفترض بحسب المهام المنوطة به أن يسهر على حسن سير القضاء وكرامته واستقلاليته – كان في سبيل تحقيق استقلال القضاء. ولكنه لاحظ أن «المناخ لا يشجع كثيراً» على ذلك. ويضيف: «من جهة، هناك رجال السياسة الذين لا يستسيغون كثيراً استقلال القضاء، ومن جهة ثانية، هناك بعض القضاة هم أنفسهم لا يعرفون أن يكونوا مستقلين».
الكفاءة والخبرة، لم يكونا يوماً سبب المشكلة، يؤكد خير، بل الأجواء السياسية. «بعض القضاة ليس لديهم شعور بأن عليهم أن يكونوا مستقلين، يفضلون أن يكونوا تابعين لجهة سياسية معينة لأنهم بذلك ربما يؤمّنون تقدمهم الوظيفي أكثر». يتفهم رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق طموح القضاة بالتقدم، خصوصاً وأن أساليب مختلفة تتبع ضد القضاة «المشاغبين» أو الذين يرفضون الخضوع، ولكنه يقول: «الطموح معقول ومسموح للجميع، ولكن لا يجب أن يكون طموح القاضي على حساب استقلاليته»، ويشير إلى أنه هو نفسه حُرم من منصب معين كان يفترض أن يعين به، لأنه ليس «مطواعاً كثيراً». المحاصصة الطائفية التي تحكم التشكيلات القضائية في لبنان، يقول خير إنها لا تضر باختيار قضاة أكفاء بل بباقي التعيينات القضائية أيضاً، «لأنه عندما يصبح المعيار فقط تعيين شخص من طائفة معينة، فإن هذا الأمر يحول أحياناً دون الإتيان بالشخص المناسب». ولكنه يضيف أن الجسم القضائي كان يوفق في أكثر الأحيان في العثور على قضاة يملأون المراكز في كل الطوائف، ويشير إلى أن «القضاة لا يتمتعون عموما بحسّ طائفي». وما دام التوزيع الطائفي عنصراً أساسياً يتحكم باختيار القضاة والتعيينات القضائية، فهذا يعني أن كل طائفة بمرجعيتها الدينية أو السياسية تختار مرشحها. يرى الخبير القانوني سليمان تقي الدين، كاتب دراسة حول القضاء في لبنان في العام 1996، أن جميع القوى السياسية في لبنان تتدخل بالقضاء. ويقول: «عملياً أكثرية المراكز القضائية الحساسة تابعة لقوى سياسية معينة، وخاصة في القضاء الجزائي، وفي حقلي النيابات العامة وقضاة التحقيق الذين يشكَّلون، وفقاً لتوازن سياسي معين وتبعاً للمحسوبيات». ويربط تقي الدين معيار المحاصصة الطائفية بالنفوذ السياسي، ويقول إن هذا المعيار «كارثي، لأنه أصبح هناك نوع من تكريس لحقوق معترف بها لبعض الجهات... وعندما يكون القضاء محكوماً بهذه المعايير الطائفية، مستحيل الحديث عن استقلالية القضاء». ويشير تقي الدين إلى أن هذه التدخلات والمعايير، هي التي جعلت من التشكيلات القضائية متوقفة منذ ثلاث سنوات. فقبل ثلاث سنوات، فاز أكثر من مائة طالب حقوق بامتحانات الانضمام للسلك القضائي، ولغاية اليوم لا يزال مرسوم تشكيلهم غير موقع. وتقول مصادر قضائية مطلعة لـ«الشرق الأوسط» إن هؤلاء «القضاة» يداومون الذهاب إلى مكاتب في قصر العدل ويدرسون قضايا ويكتبون فيها الأحكام، ولكن من دون توقيع أسمائهم عليها، إذ تصدر الأحكام باسم القاضي الذي يعملون معه. إلا أن وزير العدل السابق سمير الجسر الذي ينتمي إلى «تيار المستقبل»، يرفض الحديث عن تحكم السياسة المطلق بالقضاء. ويقول: «لا شك أنه أثناء التشكيلات القضائية، يسعى السياسيون إلى ما يسمونه «خدمة البعض»، ولكن ليس صحيحاً أن السياسة تتحكم بالقضاء بشكل كامل». ويضيف: «عندما كنت وزيراً للعدل، أعطينا حق التشكيلات القضائية لمجلس القضاء الأعلى، لذا فمجلس القضاء الأعلى إذا أراد أن يقوم بتشكيلات من دون أن يستمع لأحد يمكنه ذلك، ثم يحيلها إلى وزير العدل الذي يبدي عليها ملاحظاته، ثم يعيدها لمجلس القضاء الأعلى الذي يصوت عليها ويحيلها إلى الحكومة لتصدرها بمرسوم». ولكن خير الذي أصدر بنفسه قرار تشكيل القضاة، يقول عن الأمر: «حاولت أن أقوم بالتشكيلات، ولكن اصطدمت بالعقبات التي يعرفها الجميع، وهي عقبات سياسية من قبل السلطة الإجرائية. عندما تم تشكيل حكومة جديدة، حاولنا أن نقوم بتشكيلات جديدة، فحصلت عليها مشكلات يختلط فيها السياسي بالقضائي... رفعنا التشكيلات القضائية في أكتوبر (تشرين الأول) العام 2006، ولكن المرسوم بقي في الجوارير عند السلطة التنفيذية حتى نهاية عهد الرئيس السابق». وتعيد قضية التشكيلات القضائية هذه، التركيز بقوة على علاقة السياسة بالقضاء في لبنان الذي من المفترض بحسب الدستور، أن يكون سلطة مستقلة، وأن يراقب السلطتين التنفيذية والتشريعية، أي مجلسي الوزراء والنواب. ولكن الذي يحصل يبدو أنه العكس. تدفع هذه الوقائع بتقي الدين إلى اعتبار أن القضاء اللبناني «مستتبع بشكل عام». يقول إنه خلال الحرب وبعدها حصلت تغييرات كبيرة في الجسم القضائي، وخاصة في القضاء الجزائي، إذ صدرت عدة قرارات فضائحية من الناحية القانونية». ويعطي مثالا على ذلك بالقرار الصادر عن القضاء العدلي بإغلاق تلفزيون الـ«إم تي في» من دون محاكمة، على خلفية معركة انتخابية وتأييده ودفاعه عن الجنرال ميشال عون عندما كان لا يزال معارضاً لسورية. يعتبر تقي الدين أن «القضاء هو ابن بيئته»، مشدداً على أن المشكلة ليست في كفاءة القضاة. ويقول إنه من الضروري «أن يكون القانون قادراً على حماية القاضي الضعيف، وحتى القوي لأنه سيضعف إذا لم يكن هناك قانون يحصنه. فنحن نعرف كيف يتم التعامل مع القضاة الأقوياء... عبر تهميشهم وإقصائهم إلى أماكن بعيدة وإبعادهم عن الملفات المهمة».

ويرى البعض أن انخفاض المعاشات المقدمة للقضاة قد يكون سبباً إضافياً لعدم استقلالية بعض قضاة، إلا أن خير يقول إن القضاة يحصلون على تقديمات كثيرة، خصوصاً بعد تحسين أداء صندوق تعاضد القضاة. ويضيف: «أصبح بإمكان القاضي أن يعيش بكرامته، بين التقديمات المقدمة إليه ومعاشه الذي رفع... ليست هناك وظيفة تقدم ثروة، ووظيفة القاضي واحدة من هذه الوظائف. الذي يقرر أن يصبح قاضياً لا يكون يجري خلف الثروة». ولكن رغم ذلك، يقول خير «إن تعزيز السلك القضائي اقتصادياً، أمر يعزز من استقلاليته». وإذا كانت التدخلات في النظام القضائي في لبنان في ظل الوجود السوري محصورة بهذه الجهة فقط، فهي تبدو أكثر تفرعاً وشُعباً. يقول خير تعليقاً على ذلك: «الحاكم من الطبيعي أن يكون لديه سبل تدخل أقوى من المعارض، ولكن اليوم من يحكم ومن يعارض أصبحت حزورة». وزير العدل يلعب دوراً في هذا الإطار أيضاً من دون شك، ولكنه ليس هو الأساس، يقول تقي الدين. «التشكيلات القضائية تتم بقرار من مجلس الوزراء، القرار ليس لوزير العدل وحده. في مجلس الوزراء هناك أكثر من مركز نفوذ». وزير العدل السابق سمير الجسر يقول إن الجسم القضائي، مثل أي جسم آخر، فيه ضعف. ويضيف: «قد تحدث بعض التدخلات السياسية في القضاء اللبناني، ولكن معظم القضاة من الأكفاء مهنياً وأخلاقياً». ويفضل خير أن يصف القضاة بأنهم «بشر» ويعقب على نزاهة القضاة بالقول إن «هذه الأمور تطرأ أحياناً».

ولكن رغم التدخلات السياسية، لا يخلو الجسم القضائي اللبناني بالطبع من قضاة أكفاء وذوي أخلاقية مهنية عالية، وهم بإمكانهم إذا سنحت لهم الفرصة أن يعملوا بدرجة عالية من المهنية. يقول خير الذي كلف ومجلس القضاء الأعلى، بناءً على اتفاق بين لبنان والأمم المتحدة، بترشيح قضاة لبنانيين للعمل في المحكمة الدولية الخاصة بالحريري، إنه قدم أسماء 12 قاضياً اختارت منهم الأمم المتحدة 4 قضاة لمعاونة القضاة الدوليين. ويقول إن هؤلاء القضاة الذين رشحهم هم من أصحاب الكفاءة العالية. يقرّ خير أن نضاله لتحقيق استقلال القضاء لم يأت بثمار، ولكن يأمل بأن استمرار إثارة الموضوع قد يوصل يوماً ما إلى تحقيقه. والمشكلة الأكبر في السلك القضائي في لبنان، ليس عدم إيصال قضاة أكفاء، يقول تقي الدين، ولكن دخول هؤلاء القضاة إلى جهاز خاضع لضغوط، عليه أن يراعي مجتمع الطوائف في لبنان. ولكن بالرغم من أن المشكلة الكبرى التي يعاني منها القضاء اللبناني تتمثل في عدم استقلاليته، فإن الضغوط الأمنية التي يعمل القضاة في ظلها، هي التي تشكل الحاجز الأكبر أحياناً. فلم ينس الجسم القضائي في لبنان بعد ما حلّ بالقضاة الأربعة الذين قُتلوا رمياً بالرصاص منذ عشر سنوات، في وسط النهار، وأثناء انعقاد إحدى الجلسات. ففي الثامن من يونيو (حزيران) 1999، فتح مسلحان اثنان النيران من رشاشات حربية عبر نافذة قاعة محكمة صيدا، على القضاة الجالسين على قوس المحكمة، وهم رئيس المحكمة حسن عثمان والقضاة عاصم بو ضاهر ومحمد شهاب ووليد هرموش، فقتلاهم جميعاً. كما أصابا عدداً من الأشخاص الذين كانوا موجودين داخل قاعة المحكمة، ومن بينهم المحامي سالم سليم الذي أصيب بعيارات نارية في وجهه وصدره ومعدته، وتمكن من النجاة. لم يوقف أحد المسلحيْن اللذين فرّا من دون مواجهة أي عوائق أمنية، تماماً كما دخلا إلى مبنى المحكمة الملاصق لموقف سيارات وباصات عمومية، ولم يكن يتمتع بحراسة أمنية تذكر. قيل حينها إن المسلحيْن هربا إلى مخيم عين الحلوة القريب، وهو أقرب المخيمات الفلسطينية في لبنان، ويضم أكبر عدد من التنظيمات المسلحة. واتهم أفراد في «عصبة الأنصار»، أحد تلك التنظيمات، بقتل القضاة، وأحيلت القضية على المجلس العدلي باعتبارها قضية اعتداء على أمن الدولة الداخلي... ومع ذلك لم يلقَ القبض على أحد، ولم يكشف شيء من القضية التي اعتبرت تهديداً مباشراً للجسم القضائي في لبنان. وكان القضاة قبل فترة قد تسلموا ملفاً للحكم في قضية خلاف بين أفراد من «عصبة الأنصار» داخل مخيم عين الحلوة. كذلك نجا ناظم الخوري، قاضٍ لبناني كان يتابع ملف بنك المدينة، من محاولة اغتيال بعد أن فشل شخص في تفخيخ سيارته عندما تنبه له الجيران وهرعوا إلى المكان، فهرب وترك عدته تحت سيارة القاضي. وعثر فيما بعد على قنبلة بالقرب من سيارته أيضاً، كما اعتُدي عليه مرة بالضرب بعصا خلال ممارسته رياضة الركض بالقرب من منزله أفقدته الوعي. وكان الخوري يعمل على ملف بنك المدينة في ذلك الحين. هذه التهديدات الأمنية هي نفسها اليوم التي تمنع إعلان أسماء القضاة الأربعة الذين سيشاركون في المحكمة الخاصة بالحريري في لاهاي. ويقال إن هؤلاء القضاة اضطروا حتى إلى تغيير منازلهم وإحاطة أنفسهم وعائلاتهم بإجراءات أمنية عالية جداً، خوفاً من أي اعتداء أمني بسبب عملهم على ملف الحريري. وكان القاضيان رالف رياشي وشكري صادر اللذان كلفهما رئيس الحكومة فؤاد السنيورة متابعة المشاورات مع الأمم المتحدة لوضع مسودة اتفاقية المحكمة، قد أُخضعا لحماية أمنية مكثفة منذ ذلك الوقت وجرى تركيب كاميرات مراقبة في محيط منزليهما لحمايتهما. وإلى أن يتغير مجتمع الطوائف في لبنان وإلى أن تنتهي ممارسة الترهيب والتهديد بالتصفية الجسدية ضد القضاة، قد لا يكون لدى لبنان بديل فيما يخص الجرائم السياسية: إما ترك اللغز من دون حل، أو اللجوء إلى القضاء الدولي.