في كلامه عن الرسل والأنبياء، لم يغفل القرآن الكريم الحديث عن كثيرات من زوجاتهم. تنوع الحديث بين مدح وثناء وبشرى بالنعيم الدائم في جانب، وقدح وذم وتهديد ووعيد بالعذاب في جانب آخر، تبعا للدور الذي أدته كل منهن تجاه زوجها النبي ورسالته.
الكثيرات كنّ وفيات لأزواجهن، مؤمنات برسالاتهم، متمسكات بعبادة الله تعالى وحده، مخلصات في إعانتهم، لمواجهة ظلم الكافرين وعنادهم ومكائدهم.
وهناك من انحازت للشيطان ضد زوجها ورسالته، وانضمت لأعدائه، وساعدتهم على وضع العراقيل وإثارة العقبات أمام دعوته، وشاركت في الإساءة إليه، والسخرية منه.
نماذج مهمة تستأهل منا دراستها، لاستخلاص العبر منها، والاستفادة بها في بناء حاضرنا ومستقبلنا.
ذهب كثير من المفسرين والمؤرخين إلى أن نبي الله يوسف بن يعقوب، عليهما السلام، تزوج من السيدة «زليخا» التي كانت زوجة لعزيز مصر «إطفير» بعد وفاته وتمكين الله تعالى ليوسف (عليه السلام). من هؤلاء المفسرين والمؤرخين ابن كثير، والبيهقي، وابن رشد، والثعلبي، والطبري، والسيوطي، وغيرهم.
ويجزم كثيرون بأن ملك مصر الرّيان بن الوليد هو الذي زوج يوسف عليه السلام من «زليخا» بعد أن جعل يوسف على خزائن الأرض عزيزا لمصر. وقيل إن «زليخا» ولدت ليوسف (عليه السلام) ابنيه «أفراييم» و«منشا».
وعلى الرغم من أن القرآن الكريم لم يثبت أو ينف زواج نبي الله يوسف (عليه السلام) من «زليخا» فإنه أفرد سورة كاملة من سوره حملت اسم «يوسف» للحديث عن حياة نبي الله (عليه السلام)، ومحنته مع إخوته، ومع امرأة العزيز، ونسوة مصر، وإدخاله السجن، ثم الإفراج عنه، ليتولى أعلى المناصب في حكم مصر، ويتزوج «زليخا» بعد أن تقدم بها العمر، وكف بصرها، وخرجت تتكفف الناس.
جاء في «معجم أعلام النساء في القرآن الكريم» لمؤلفه عماد الهلالي: «هي (زليخا) بنت ملك المغرب هيموس، وأمها أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر.. زوجة (قطفير) وزير ملك مصر، وكان يلقب بالعزيز، وهي امرأة العزيز. كانت آية في الحسن والجمال، وكان زوجها عنينا لا يستطيع التقرب إلى النساء. وقيل اسمها (زلخا) وقيل (راعيل)، وقيل (فكة) بنت ملك المغرب هيموس، وقيل (رعاييل) وقيل: (بوش) وقيل راعيل بنت رعائيل».
ويضيف المعجم قائلا: «لما جيء بيوسف الصديق إلى مصر اشتراه زوجها، ليتخذه ولدا له، فلما رأته (زليخا) بهرت بجماله وحسن هندامه، فشغفت به حبا، وأخذت تغريه بنفسها، وتعرض عليه مفاتنها ومحاسنها، ثم أدخلته إحدى غرف قصرها، وأوصدت أبوابها، وقالت له: هيأت نفسي لك فأقبل عليّ».
ويحكي القرآن الكريم وقائع تلك المحنة التي ألمت بنبي الله يوسف (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نفسهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَاي إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ* وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ* وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالَ هِي رَاوَدَتْنِي عَنْ نفسي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ».. (سورة يوسف: 23 - 29).
إن هذه الآيات تقرر بجلاء عدة حقائق مهمة ليست مجالا لأي شك، منها:
- أن يوسف (عليه السلام) رفض الاستسلام لرغبات امرأة العزيز، واجتهد في إثنائها عن ذلك.
- أن يوسف (عليه السلام) أعلن رفضه طلبها مستعينا بالله تعالى، مؤكدا وفاءه الكامل وإخلاصه لزوجها الذي أحسن إليه منذ اشتراه طفلا، محذرا إياها بقوله: «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».
- أن الله سبحانه وتعالى رعاه وحفظه من الوقوع في السوء.
- أن يوسف عليه السلام حين رأى برهان ربه انطلق تجاه الباب فارا منها.
- أن يوسف عليه السلام سبقها إلى الباب، وأن إصرارها على غوايته جعلها تجذبه من الخلف، الأمر الذي أدى إلى تمزق قميصه في يدها.
- أنهما تفاجآ بزوجها عند الباب.
- أن «زليخا» بدأت الشكوى بتساؤل من شأنه إثارة زوجها ضد المشكو في حقه الذي لم تذكر اسمه.
- أن «زليخا» حددت عقوبتين شديدتين للمشكو في حقه، هما: «أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».
- أن يوسف (عليه السلام) أكد براءته من ادعاء «زليخا» ضده بقولها مخاطبة زوجها «أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا».
- أن الله تعالى أراد إظهار الحق، فشهد شاهد من أهلها: «إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ».
- جاء الحق في جانب يوسف (عليه السلام)، حيث تيقن الجميع من حقيقة أن «قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ».
- أن زوجها لامها في غير قسوة تناسب مثل هذا الموقف.
- أن زوجها طلب إلى يوسف (عليه السلام) أن ينسى الموقف برمته.
- أن القرآن نسب إليها أنها راودت يوسف عن نفسه، لكنه لم يتهمها بالوقوع في الزنى.
وكان يوسف (عليه السلام) مستعدا لنسيان تلك المحنة بما سببته له من آلام وإساءة واتهامات ظالمة.. فهل نسيت «زليخا» الموقف؟
يقول الدكتور شعيب الغباشي في كتابه «أعلام النساء في القرآن الكريم»: «ما كان لمثل هذا الحدث أن يظل حبيسا داخل جدران قصر الملك، أو يبقى طي الكتمان، خاصة أنه يتعلق بسيدة القصر وامرأة العزيز، فشاع الخبر، وصار يتناقل من هنا ومن هناك، وكانت النساء أكثر الناس تناقلا للحدث، وتأثرا به وتعجبا من شأنه». ويضيف الغباشي أن «زليخا» حين سمعت بحديث النساء عنها أرسلت إليهن، وقامت بدعوتهن إلى منزلها لتضيفهن، وكان ذلك منها مكيدة لهن. وبعد أن جاءت النسوة ملبيات الدعوة أعطت كل واحدة منهن سكينا، وقالت مخاطبة يوسف (عليه السلام): «اخرج عليهن».
فلما خرج يوسف عليه السلام، ورأينه، أعظمن شأنه، وأجللن قدره، وجعلن يقطعن أيديهن مندهشات برؤيته وطلعته، فحززن أيديهن بالسكاكين.. «وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيم». فلما رأت «زليخا» منهن ذلك توجهت إليهن معاتبة «قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نفسهِ فَاسْتَعْصَمَ».
ولم تكتف زليخا بهذا اللوم للنسوة، بل هددت وتوعدت يوسف في وجودهن: «وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ».
وهكذا تتصاعد محنة يوسف من جديد على يد «زليخا» بعد أن تركها زوجها «إطفير» بلا حسم، مكتفيا بنصيحة زليخا «وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ».
فكيف سيواجه يوسف (عليه السلام) محنته الجديدة؟
