مؤمنة قانتة صابرة خاشعة صادقة متصدقة ذاكرة تائبة.. أسلمت لله رب العالمين.
كانت قارئة ومتعلمة وذات فضل في حفظ القرآن الكريم.. فضائلها ومنزلتها عظيمة.
من أمهات المؤمنين اللاتي جعلهن الله في مقام الأسوة والقدوة. إنها أم المؤمنين السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما.
يقول عنها الدكتور مصطفى مراد عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر في كتابه «زوجات الأنبياء»: هي حفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى، ينتهي نسبها إلى عدي بن كعب بن لؤي.
يلتقي نسبها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في كعب بن لؤي، وأبوها هو الفاروق الذي أعز الله الإسلام به، ولقب بالفاروق لذلك، وأمها هي زينب بنت مظعون بن حبيب أخت عثمان بن مظعون أحد السابقين إلى الإسلام.
ولدت حفصة قبل البعثة بخمس سنين، كانت قريش حين ولادتها تبني البيت، ونشأت في بيت الفاروق عمر، رضي الله عنه، وأسلمت وهاجرت وتزوجت بخنيس بن حذافة السهمي، رضي الله عنه، وهاجرت معه إلى المدينة، فمات عنها بعد الهجرة، وكان من أصحاب، رسول الله صلى الله عليه وسلم، ممن شهد بدرا فتوفي بالمدينة.
قال عمر: لقيت عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة. قال: سأنظر في ذلك: فلبث ليالي فلقيني، قال: ما أريد أن أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة فلم يرجع إلى شيء، فكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي، فخطبها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة، فلم أرجع إليك شيئا. قال: قلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك شيئا حين عرضتها على إلا أني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يذكرها، ولم أكن لأفشي سر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لنكحتها.
* طلاق حفصة
ويضيف الدكتور حمزة النشرتي في كتابه «سيرة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم» أن النبي، صلى الله عليه وسلم، تزوج بها سنة ثلاث من الهجرة، وعاشا في خير وبركة، وكانت حفصة مطيعة لزوجها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مُعظمة عنده يلاعبها ويداعبها، حتى كان يتأخر عندها أحيانا، فأدى هذا إلى حدوث غيرة بين الزوجات، رضوان الله عليهن.
تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله، عليه الصلاة والسلام، يحب الحلوى والعسل، وكان إذا انصرف مع العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس أكثر ما كان يحتبس فغرت. فسألت عن ذلك. فقيل لي: أهدت لها امرأة قومها عكة عسل فسقت النبي، صلى الله عليه وسلم، منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فقلت: لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي أكلت مغافير، فإنه سيقول لك: لا، فقولي له ما هذه الريح التي أجد؟ فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي: جرست نحلة العرفط، وسأقول ذلك، وقولي له أنت يا صفية ذلك.
قالت: تقول سودة: فوالله ما هو إلا أن قام على الباب فأردت أن أناديه بما أمرتني، فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال: لا. قالت: فما هذا الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل. قلت: جرست نحلة العرفط، فلما دار إلى - إلى عائشة - قالت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي فيه. قالت تقول سودة: والله لقد حرمناه، فقلت لها: اسكتي. ولعل إحدى هذه المداعبات والفكاهات والغيرة بين الزوجات، كانت سببا في تطليق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة، ثم جاءه جبريل، عليه السلام، فقال له: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة.
* قصة المظاهرة
ويوضح الكاتب أحمد خليل جمعة في كتابه «نساء الأنبياء في ضوء القرآن والسنة» أنه لم تنج امرأة من الغيرة حتى ولو كانت زوجة نبي، والغيرة علامة صحة لا تضير صاحبها ما دامت بدافع الحب لزوجها، بشرط ألا تخرج الغيرة على حد الاعتدال، أو تجمح إلى الشطط وتحول الحياة إلى جحيم. وربما اشتطت الغيرة أحيانا إلى حد غير مرغوب فيه كما نرى ذلك في قصة التظاهر التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: «يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم، قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم، وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير، إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير، عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا».. (التحريم: 1 5).
وفي هذه القصة وردت روايات منها أن النبي، صلى الله عليه وسلم، شرب عند زينب بنت جحش عسلا. فتواطأت عائشة وحفصة – بفعل الغيرة – على أن تقول كل منهما له: ما رائحة المغافير هذه؟ فدخل على حفصة فقالت له: هل أكلت مغافير، إني أجد ريح مغافير. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يكره الرائحة غير الطيبة، فأنكر ذلك، وقال: لا، ولكني أشرب عسلا عند زينب. فلن أعود له. وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا.
ولكن حفصة لم تصبر على الكتمان، فقد أخبرت عائشة بما حدث، فالتظاهر على النبي، صلى الله عليه وسلم، قد حدث من عائشة وحفصة، لما كان بينهما من الصداقة.
ويرى بعض الرواة أن هذا التظاهر كان بسبب التحكم على النبي، صلى الله عليه وسلم، في النفقة وطلب المزيد من متع الدنيا وزينتها. ولذلك اعتزلهن شهرا، وقيل إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد طلق حفصة عقب هذا التظاهر تطليقة، فأمره الله، سبحانه وتعالى، عن طريق جبريل أن يراجعها.
أما السر الذي أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، السيدة حفصة الاحتفاظ به فبعض الرواة يذكرون أن هذا السر هو أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أسر لحفصة أن أباها سيخلف أبا بكر، وأن أبا بكر سيخلف النبي، صلى الله عليه وسلم.
* وفاتها
وقد شجع النبي، صلى الله عليه وسلم، «الشفاء» على تعليم حفصة، كما شجع حفصة على التعلم، وكانت هذه ميزة لحفصة.. وكانت «الشفاء» ترقي في الجاهلية، فلما أسلمت وهاجرت قالت للنبي، صلى الله عليه وسلم: كنت أرقي في الجاهلية وقد أردت أن أعرض عليك رقيتي.
وكانت حفصة لإجادتها الكتابة تحفظ عندها رقاع المصحف مكتوبا فيها القرآن، ولهذا لما بدا لأبي بكر أن يجمع المصحف بعد تردد طويل، وبعد أن استشهد كثير من حفظته في حروب الردة، وبعد أن جمع حفظ هذه الرقاع التي دون فيها لدى حفصة. ويعد جمع أبي بكر للقرآن الجمع الثاني بعد جمع رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ثم أراد عثمان بن عفان أن يجمع الناس على قراءة واحدة هي لهجة قريش، فأرسل إلى حفصة أن تبعث إليه بالمصحف الموجود في عهدتها ثم رده إليها.
ظلت حفصة في بيت النبي، صلى الله عليه وسلم، محفوظة برعايته مع زوجاته حتى توفي، صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون يعرفون لها فضلها ومنزلتها، وأنها من أمهات المؤمنين، وفي عام الجمل كانت مع عائشة في مكة، وأرادت عائشة أن تخرجها معها إلى البصرة لإطفاء الفتنة هناك، وهمت حفصة أن تذهب معها، لولا أن أخاها عبد الله بن عمر منعها من ذلك وطلب إليها أن تعود إلى المدينة وتقر في بيتها كما أمرها الله تعالى فأطاعته وعادت، ولزمت بيتها حتى حانت وفاتها في شعبان سنة 45 في خلافة معاوية وهي يومئذ ابنة 60 سنة.