آمنت بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما كفر الناس به، وصدقته عندما كذبوه، وواسته بمالها عندما حرموه، وأنجبت له البنين والبنات، وفازت فوزا عظيما عندما أصبحت أول مسلمة من النساء.
مواقفها جليلة، ووفاؤها عظيم، وحكمتها مشهودة.. إنها السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله عنها، وأولى زوجات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول عنها الدكتور حمزة النشرتي في كتابه «آل بيت النبي»: هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، وأمها فاطمة بنت زائدة، وكانت تدعى في الجاهلية (الطاهرة)».
وهى ذات شرف وسيادة في قومها، وكان لها مال وفير تتاجر فيه، فكانت تستأجر الرجال الأكفاء ذوي الخبرة ليتاجروا لها في مالها.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بالتجارة في شبابه، وقد بلغها عنه صلى الله عليه وسلم صدقه وأمانته، فأحبت أن تستأجره وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، فأرسلت إليه ليقوم بهذه المهمة التي أرادتها مع غلام لها يُدعى ميسرة، وعرضت عليه العمل في تجارتها فقبل، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام ومعه ميسرة.
ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر من قبل، أعطته ضعف ما اتفقت معه عليه من الأجر، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى في محمد صلى الله عليه وسلم من دماثة الخلق، وحسن الأدب، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، وما يحوطه من عناية ربانية، ورعاية إلهية، فوجدت ضالتها المنشودة، وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبى عليهم ذلك، وهي أرفع النساء عفة وجمالا، حيث كانت متزوجة ثم تأيمت.
ولما رأت من محمد صلى الله عليه وسلم ما رأت أسرعت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد، وكان قد تنصر، وقرأ الكتب السوالف، فذكرت له ما حدثها به غلامها ميسرة، فقال لها ورقة إن محمدا لنبي هذه الأمة، وهذا زمانه، فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منية، فذهبت إليه صلى الله عليه وسلم تفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضي بذلك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وعلى أثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين.
«أم المؤمنين» والوحي
ويضيف الدكتور مصطفى مراد، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر في كتابه «زوجات الأنبياء» أنه تم زواج محمد من خديجة بعد أن أصدقها عشرين بكرة، وانتقل إلى بيتها ليبدأ وإياها صفحة جديدة من صفحات الحياة، صفحة الزوجية والأبوة، تزوجها وهو في خمس وعشرين من سنه، وهي في الأربعين، وهي أول من تزوجها، ولم يتزوج عليها غيرها، ورزق منها البنين والبنات، أما الأبناء فلم يعش منهم أحد، وأما البنات فهن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة.
وقد وقفت خديجة خلف النبي صلى الله عليه وسلم تسانده في حياته، حيث كانت تتوسم فيه أنه سوف يكون نبي هذه الأمة المنتظر، فكانت تتركه لعبادة ربه.. كان يذهب إلى غار حراء، ويخلو إلى الله في تفكير عميق بعيدا عنها ليالي قد تطول، حتى جاء اليوم المنتظر، حيث جاءه جبريل في الغار قائلا: «اقرأ»، فقال: «ما أنا بقارئ»، ثم يقول له: «اقرأ»، فيقول: «ما أنا بقارئ»، ثم يقول له: «اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم».. (سورة العلق: 1 - 3).
ويرتاع النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى وسمع، ويرجع إلى خديجة مسرعا يرجف فؤاده، وترتعد أوصاله، قائلا لها: «زملوني زملوني».. وتزمله خديجة وتضمه إلى صدرها حتى يذهب عنه الروع، ثم تستمع إلى ما يخبرها به، وتطمئنه وتبشره قائلة: «أبشر يا ابن العم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة المنتظر».
وروت السيدة عائشة رضي الله عنها أن خديجة انطلقت بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى بيت ورقة بن نوفل، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى وسمع. فقال له ورقة: «هذا هو الناموس الذي نزل على موسى عليه السلام». وطابت نفسه صلى الله عليه وسلم بما سمع، وعاد إلى بيته مطمئنا مع زوجه - أم المؤمنين الأولى - ليبدأ جهاده من أجل رسالته.
وكانت خديجة أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءته الرسالة، وظلت خلفه، وقد وضعت كل ما تملك من جهد ومال في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغ الرسالة، فكانت بالنسبة له وزير صدق، ورفيق جهاد وملاذا آمنا، ووقفت خديجة خلف النبي صلى الله عليه وسلم تؤيده في سنوات المقاطعة بكل ما أوتيت من قوة وجهد، وقد تركت دارها الفسيحة الأنيقة لتقيم مع زوجها في ركن من أركان شعب أبي طالب تقاسي مع من فيه ضروب الأذى، في الوقت الذي كانت فيه قد كبرت وضعفت بسبب فقد أولادها الذكور من حبيبها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وفاة خديجة
يقول الدكتور فاروق حمادة في كتابه «أيام في حياة الرسول»، مرت خمسة وعشرون عاما بعد هذا اليوم، كانت مليئة بالدفء والمحبة، وكان لها أبلغ الأثر في حياة الرسول، فكانت أم أولاده، أغناه الله بمالها قال تعالى: «ووجدك عائلا فأغنى».. (سورة الضحى: 8).
وثبته الله تعالى برجاحة عقلها، وصبره على أذى الناس بمواساتها، وهو يأوي إليها بعد العناء والتعب في فجاج مكة وأنحائها.. كما جعلته يتفرغ للتعبد قبل النبوة، ونشر الدعوة بدأب وتحمل وصبر بعد النبوة، فكانت أول من أسلم معه لرب العالمين، فخفف الله بذلك عنه، فكان لا يسمع بشيء يحزنه أو أمر يكرهه من رد وتكذيب إلا فرج الله بها عنه إذا رجع إليها.
كانت وزيرة صدق للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما للمؤمنين والمؤمنات حتى توفاها الله قبل الهجرة، وسمي العام الذي ماتت فيه «عام الحزن»، ولكن ذكراها لم تغب عنه - عليه الصلاة والسلام - يوما واحدا وهو يرى الذرية الصالحة بنات خديجة حوله، فيذكرها صباح مساء، ولهذا جاءتها البشرى من السماء، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد، إن الله يقرئ خديجة السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب».
وكانت وفاتها في رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة على أشهر الأقوال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر، وتواسيه بنفسها ومالها.
* ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
زوجات الأنبياء: «خديجة».. الحبيبة والوزيرة
آخر الأخبار
9:19 دقيقه