بقايا «داعش» وتجاهل حيثيات الواقع

أهم ركائز التنظيم تعتمد على الحرب النفسية جذباً وتهويلاً بالترويج والتواصل عبر العالم الافتراضي

شرطة مكافحة الإرهاب الإسبانية تعتقل شاباً مغربياً من قيادات «داعش» مسؤول عن الإعلام الإلكتروني خارج مدريد الشهر الماضي (إ.ب.أ)
شرطة مكافحة الإرهاب الإسبانية تعتقل شاباً مغربياً من قيادات «داعش» مسؤول عن الإعلام الإلكتروني خارج مدريد الشهر الماضي (إ.ب.أ)
TT

بقايا «داعش» وتجاهل حيثيات الواقع

شرطة مكافحة الإرهاب الإسبانية تعتقل شاباً مغربياً من قيادات «داعش» مسؤول عن الإعلام الإلكتروني خارج مدريد الشهر الماضي (إ.ب.أ)
شرطة مكافحة الإرهاب الإسبانية تعتقل شاباً مغربياً من قيادات «داعش» مسؤول عن الإعلام الإلكتروني خارج مدريد الشهر الماضي (إ.ب.أ)

في كتابه التاريخي: «فن الحرب»، يختصر المفكر العسكري الصيني سن تزو كل فلسفته حول فنون واستراتيجيات القتال أثناء الحروب في عبارة واحدة: «التفوق الأعظم هو كسر مقاومة العدو دون أي قتال». وهنا تكمن معضلة استمرارية تنظيم داعش، فعلى الرغم من أن غالبية الظروف المحيطة تشي بانهيار كيانه، فإن مقاتليه يظهرون إصراراً على المقاومة ومواصلة الصراع دون اكتراث بمحاصرتهم في مناطق كانت تحت سيطرتهم، وبرفض للاستسلام نتيجة مقتل أعداد كبيرة منهم تحت غارات أثقلت كاهلهم، وفرار آخرين، وعودة جزء منهم إلى أوطانهم.
وعلى الرغم من سقوط أهم معاقل «داعش»، بدءاً بالموصل، حيث أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عقب استعادة مسجد النوري ومنارة الحدباء انتهاء سيطرة التنظيم فيها، وهو المكان ذاته الذي أعلن فيه أبو بكر البغدادي عن قيام «دولة الخلافة المزعومة» في العراق وسوريا قبل ثلاثة أعوام، وتبعها فيما بعد استعادة الرقة في سوريا. يشكل كل ذلك تحولاً مفصلياً للتنظيم يشي بتدهور أوضاعه وتخبّط استراتيجياته، فبعد أن نقل ساحة أعماله من منطقة شاسعة يسود فيها الحكم الداعشي، تبرز عملياته عبر هجمات مبعثرة في مناطق مختلفة ينفذها أعضاء متناثرون وذئاب منفردة، باستهداف للأقباط تارة والشيعة تارة أخرى، ومن ثم الالتفات إلى الغربيين بشكل عام وإدراج المسلمين معهم بعد تكفيرهم، لتتم بذلك شيطنة كل من ليس جزءاً من المنظومة الداعشية.
يتجلّى القلق الوجودي لـ«داعش» من خلال رسائله الإعلامية، إذ انتهج في الآونة الأخيرة أسلوباً دفاعياً مستميتاً ينم عن توجس من اعتقاد العالم أجمع بأفول وهج التنظيم وانحسار المناصرين له، من بعد فقدانه لكمّ ضخم من مقاتليه وأراضيه. وظهرت عدة تسجيلات تحاول تأكيد استمرار التنظيم في استراتيجيته القائمة على إنشاء خلافة إسلامية «داعشية» مع التشديد على كونها لا تحدد عبر منطقة معينة.
المتحدث الرسمي السابق للتنظيم أبو محمد العدناني، الذي قتل في غارة جوية في شهر أغسطس (آب) من عام 2016، تحدث في تسجيل صوتي له في العام ذاته مخاطبا الأميركيين، متسائلاً باستنكار إن كانوا يحسبون أن «الهزيمة خسارة مدينة أو خسارة أرض؟». تحور الهدف الاستراتيجي المحوري لـ«داعش» وإن كان يسعى لإخفاء إخفاقاته، إلا أنه يسبغ على التنظيم طابعاً براغماتياً تتلوّن عبره أهدافه وخططه، حسب حيثيات الوضع العام للتنظيم. ذلك الطابع يمد الداعشيين بطاقة تمكنهم من استغلال النجاح الذي تم تحقيقه في السابق في كل من الموصل والرقة، ليستحيل من مجرد بكاء على الأطلال، إلى التباهي والظهور بمظهر التنظيم الأقوى في الآونة الأخيرة، إذ تمكن وإن لفترة زمنية قصيرة، من إقامة خلافته المزعومة التي شكّلت ملاذاً يستقطب المقاتلين المتطرفين من كل العالم. فبتلك السمعة من الممكن أن يسعى إلى الاستمرار في جذب تنظيمات أخرى للتحالف معه، وتجنيد المتعاطفين مع أهدافهم وآيديولوجيتهم، في بقاع تشهد ضعفاً أمنياً وتطرفاً دينياً، كما حدث مؤخراً في أفغانستان ونيجيريا. وتظهر عشوائية الهجمات الداعشية المباغتة ومحاولة الاستفادة من كل الفرص من أجل إعمال الرعب والتخريب.
يواجه تنظيم داعش من جهة أخرى معضلة أخرى أهم؛ إذ إن إحدى أهم ركائزه تعتمد على الحرب النفسية جذباً وتهويلاً عبر الوسائل الإعلامية والترويج للتنظيم، والتواصل عبر العالم الافتراضي الإلكتروني. وقد تميز التنظيم عن غيره بقدرته على التغلغل في عقول الآخرين عن بعد واستدراجهم. واعتمد على تقنيات من أجل تجنيد الآخرين من خلال استلهام عاطفتهم، أو التأثير على حس المغامرة لديهم، ليصبح ذلك معرضاً للانقراض، لا سيما أنه أصبح من السهل ترصد المتطرفين إلكترونياً ومعرفة مواقع تواجدهم. تبدّى خفوت نشاط التنظيم في الفضاء الإلكتروني، بشح التسجيلات الصوتية والمرئية، وقلة الحراك الداعشي الإلكتروني بعد تكثيف الجهات الأمنية الحملات المناوئة لها. ويتجلى ذلك عبر تعميم للتنظيم صدر في الآونة الأخيرة لحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على مقاتليه، واستخدام لهجة الوعيد لمن يخالف التعليمات؛ إذ إن الجهات الأمنية تجاوزت القدرة على ترصد الأنشطة الإلكترونية المتطرفة، عبر اتفاقيات دولية لمحاربة أجندة التنظيمات الإرهابية، ومهاجمة منصات التواصل الاجتماعي الداعشية وحظر حساباتها، وتمكنت الجهات الأمنية من إنشاء تطبيقات إلكترونية موازية لتطبيقات أنشأها التنظيم من أجل التمكن من أجل اختراقهم وجمع معلوماتهم. وقد نتج عن مثل هذه الهجمات ظهور وعي نوعي ما بين المقاتلين حول ماهية محاولات ترصدهم، لا سيما أن عدداً منهم تميز بحيازته قدرات تقنية متطورة تمكنه من تفاصيل الهجمات الأمنية الموجهة لهم. وقد عزز من ذلك استهداف وقتل عدد من مقاتليهم في معاقلهم، وقد تمكنوا من معرفة مواقع وجودهم، وتوجيه غارات جوية مصوبة ناحيتهم، نتيجة تعقبهم، إثر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن المحاولات المناوئة للحملات الأمنية لا تزال مستمرة من قبل «داعش»، وقد برزت على الساحة الإلكترونية نقاشات حوت مناصرين للتنظيم لدراسة سبل الاستمرار في استخدام المنصات الاجتماعية الإلكترونية في ظل الترصد العالمي لهم. وإن لم تختف الأنشطة الإلكترونية، إذ لا تزال هناك صحف ومنشورات إلكترونية تنقل أخبار وكالة أعماق للتنظيم. ويتصدر «التيليغرام» التطبيقات الأخرى في استخدام الداعشيين له كوسيلة للتواصل عبر الرسائل المشفرة. في ظل شح الرسائل المتطرفة للتنظيم عبر المنصات، تظهر الاستعاضة عنها ببيانات داخلية تهم شؤون أماكن تمركزهم، كما حدث مؤخرا في دير الزور، حيث أعلن التنظيم افتتاح «مكتب المستنفرين»، من خلال بيان رسمي لما أطلق عليه مسمى «النفير العام»، الذي يجبر فيه جميع الشبان في أحياء دير الزور من الفئة العمرية الممتدة التي تشمل العشرين والثلاثين عاماً، لا سيما أن البيان حمل لهجة وعيدية، بإشارته إلى تعرض من لا يعلن انضمامه خلال أسبوع للمساءلة والتعزير. وعلى خلاف المعتاد من اشتراط إنجاز المقاتلين تدريباً مكثفاً عبر تدريبات شرعية وعسكرية ونفسية قاسية، اقتصر التدريب الحالي في دير الزور على دورة شرعية وعسكرية قصيرة، ليؤكد ذلك محاولة التنظيم المستميتة الحفاظ على وجوده.
,يعكس لجوء تنظيم داعش إلى التجنيد الإجباري حالة انهياره وتغاضيه عن الكثير من الشروط والطرق التي ينضم فيها المقاتلون الجدد إليه. كما يشي إلى ازدياد أعداد المقاتلين الجدد في صفوفه ممن يفتقرون إلى الولاء للتنظيم والاقتناع بمبادئه، وهو مؤشر خطير يحمل في طياته محاولات للانقلاب عليه، والبحث عن منقذ لهم من الوضع الراهن.
ومع فقدان «داعش» لبريقه في الآونة الأخيرة، فلا بد من أن موارده وقدراته قد تضاءلت، مما يشير إلى أن التنظيم سيلجأ إلى النهب والتقتير في الموارد على الأهالي من أجل السيطرة على المنطقة. أضف إلى ذلك النجاح الأخير المتمثل في تحرير الموصل من «داعش»، مما يشكل أملاً لسكان دير الزور يدفعهم لتأمل الخلاص من السيطرة الداعشية. هذه النظرة السلبية تأتي مغايرة لتوجه سكان المناطق التي كانت تحت براثن تنظيم القاعدة من قبل. إذ في تلك الفترة ظهر حرص القاعدة الظفر بـ«قلوب وأفئدة» سكان المنطقة التي يمتد فيها نفوذهم، مما أدى إلى حيازة القاعدة على شعبية كبيرة أدت إلى استقبال الأهالي لهم بحفاوة وصلت إلى السعي في إخفائهم عن السلطات، كما حدث في العراق من قبل في الفترة التي وصل فيها نفوذ القاعدة أوّجه نتيجة استخدامه شعارات محاربة قوات الاحتلال الأميركية، وحرصهم ليس فقط على إمداد الأهالي بالمؤن والذخائر والأموال، بل إعادة بناء المدن والبنى الهيكلية لها. من جهته فإن تنظيم داعش لم يتكبد مشقة اكتساب تعاطف الآخرين معهم، بل اكتفى باستغلال العامل النفسي عبر إثارة الرعب والبطش والتهديد وتأجيج الغضب والطائفية، بالأخص وأن سمعة الداعشيين قائمة على توحشهم وسعيهم لإبادة أعدائهم.
على الرغم من أن المؤشرات تشير إلى أن تضاؤل التنظيم ونهايته شبه محتمة، فإن إصرار المقاتلين على الاستمرار في القتال يبدو أشبه بمحاولة لإطالة المدة الزمنية، والعودة إلى نطاق أصغر، من خلال استخدام تقنيات أشبه بحرب العصابات، بهدف استكمال القتال، ومحاولة استنزاف الطرف الآخر، حتى وإن كان احتمال الوصول إلى ذلك واهياً. وهو الأمر الذي حذر المفكر الصيني سن تزو من الوصول إليه، إذ تطرق في شرحه لمبادئ الحرب إلى أن «الهم الأكبر في الحرب هو تحقيق النصر، لا إطالة أمد الحملات العسكرية».



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».