خصصت مجلة «رسالة اليونيسكو» عددها الثاني لعام 2017 لمناقشة كل ما يهدد الإعلام. صدر العدد الجديد من المجلة يوليو (تموز) - سبتمبر (أيلول) وترجم إلى 6 لغات وهي المجلة التي ترافق اليونيسكو في جميع أنشطتها منذ عام 1948. وكتبت المديرة العامة لليونيسكو إيرينا بوكوفا في الافتتاحية مركزة على دور وسائل التواصل الاجتماعي، قائلة: «لم يسبق لنا أن تواصلنا بهذا القدر، ولا بهذا الانتشار. فلقد فتحت التكنولوجيات الحديثة سبلا جديدة تسمح لمواطني العالم بأسره بالحصول على معلومات أكثر تنوّعا وأكبر عددا، وبأن يلعبوا دورا جديدا في إنتاج المعلومة، وأن يصبحوا، هم أنفسهم، مُنتجين للمحتويات. كما خلقت أيضا حواجز جديدة وأثارت لدى وسائل الإعلام الحديثة، تحديات جديدة فيما يتعلق بمجالات التعديل وأخلاقيات المهنة».
واستطردت: «في هذا التشابك المهول لوسائل الإعلام، تغيّرت الأدوار التقليدية للمنتجين والموزعين والمستهلكين للخبر. تهاطل الأخبار الزّائفة (فايك نيوز) وخطر حبس المُتلقّين للمعلومة في (فضاءات التصفية) التي صاغتها الخوارزميات، تطرح تساؤلات جديدة حول حرّية التعبير وحول التنوّع الثقافي».
شددت بوكوفا على أن حرية التعبير، والتنقل الحر للأفكار بواسطة الكلمات والصور، تعدّ من المبادئ التأسيسية لليونيسكو، وتندرج في صميم جدول أعمال 2030 للتنمية المستدامة، كاشفة أنه «خلال العشرية المنقضية، تجاوز عدد ضحايا الجرائم التي ترمي إلى إخماد التعبير الحر 800 من بين المحترفين في وسائل الإعلام».
ولم تتمّ المحاكمة أمام القضاء إلّا بنسبة اغتيال واحد من عشرة قائلة: «هذا الإفلات من العقاب غير مقبول، ومن شأنه أن يغذي تيار العنف في المستقبل. لذلك، فإن اليونيسكو تلتزم، بكل ما أوتيت من قوّة، بوضع حدّ له، وفي القاّرات كافة، باعتباره الشرط الضروري لإقامة مجتمعات سلمية، تُقدّر متانة بنيتها بقدر حسن اطّلاعها على المعلومات». بوكوفا اعتبرت أن تعدد الأفكار المستنيرة هو شرط لا يمكن الاستغناء عنه لتطوير الديمقراطية في مجتمعاتنا. وجودة الأخبار المنشورة في وسائل الإعلام - التقليدية منها والحديثة - هي أساسية في تكوين الرأي العام. وخلصت إلى القول إنه «وفي عصر (ما بعد الحقيقة)، يزداد دور اليونيسكو أهمّية، أكثر من أي وقت مضى. ويُمثّل هذا العدد الجديد من الرسالة فرصة جيّدة للتأكيد على التزامنا التأسيسي لمساندة الإعلام والاتصال بهدف بناء السلم في عقول الرجال والنساء».
أما ياسمينا شوبوفا، مديرة تحرير المجلة، فكتبت قائلة: «تتدنّى وسائل الإعلام التقليدية وتكاد تكون أخلاقيات المهنة الصحافية غائبة، في حين تتهاطل المعلومات غير الموثوقة، وتغمر الضبابيّة الحدود بين الوقائع والآراء... ومثلما أشار إليه المؤتمر الذي التأم في اليونيسكو في 23 مارس (آذار) 2017 أصبحت الصحافة تحت طائل من الانتقادات»، تفقد مصداقيتها تدريجيا، وتعمل جاهدة من أجل استرجاع ثقة الجمهور، دون جدوى. حان الوقت إذن لنتساءل: هل ما زالت السلطة الرابعة تُعتبر سلطة؟».
واعتبرت أن الخطر يكمن في احتمال تغلّب الخبر التضليلي على الخبر السّليم، مشيرة إلى أن هذا هو سبب حرص رسالة اليونيسكو على دعوة صحافيين وخبراء من نحو 10 دول للتعبير عن مواقفهم حول هذه المسألة واقتراح الحلول الممكنة للتصدي لكل ما يهدد اليوم وسائل الإعلام.
وقالت: «للتغلب على أزمة الصحافة، يعتبر الصحافيّون أنه لا بد من البدء بتطهير الحقل الإعلامي من التلوث الذي اجتاحه، بكل أنواعه: من (الإشاعات الخادعة) إلى (الأحداث البديلة»، مرورا (بالأخبار الزائفة)». ويذهب النقاش حول هذه الأزمة إلى أبعد من ذلك ليُبرز وجهات نظر مختلفة، بل ومتناقضة أحيانا، حول الأدوار الخصوصية والمتقاطعة بين وسائل الإعلام التقليدية ووسائل الإعلام المعتمدة على التكنولوجيات الحديثة.
ظاهرة المعلومات المغلوطة
وفي قسم زاوية كبرى، تناولت المجلة آراء صحافيين من مختلف أنحاء العالم حول «الأخبار الزائفة» الذين أكدوا أن التضليل الإعلامي ليس ظاهرة جديدة. وأن الجديد في الأمر هو مدى انتشار المعلومات المغلوطة والأخبار الزائفة وسرعته، بفضل وسائل الإعلام الرقمية. واتفق الصحافيون على ضرورة أن يعيد الصحافيون والمؤسسّات الإخباريّة الموثوقة النظر في طرق عملها وأن تقاوم هذه الظاهرة.
وقال آيدن وايت، مدير شبكة الصحافة الأخلاقيّة: «في محاولة لتوضيح المشكلة، وضعت شبكة الصحافة الأخلاقية التعريف التالي لمصطلح الخبر الزّائف: (خبر مُختلق عمدا يتم نشره بقصد خداع طرف آخر وحثّه على تصديق الأكاذيب أو التشكيك في الحقائق التي يمكن إثباتها). وهذا التعريف من شأنه أن يساعد على الفصل بين الدعاية، والحقائق البديلة، والأكاذيب الخبيثة».
فيما قالت فيراشني بيلاي، رئيسة تحرير «هافنغتن بوست» جنوب أفريقيا: «تُسمم الأخبار الزّائفة الأجواء التي نعمل فيها جميعا. لقد تسببت في فقدان الجمهور ثقته بكل الأخبار المتداولة، كما أضرّت بالعلاقة القائمة بين وسائل الإعلام وجمهورها».
بينما يرى الصحافي الفنلندي كاري هوهتا، المختص في الشؤون الدبلوماسيّة بـ«هلسنكي سانومات»: «نسرع في مبالغة مدى تأثير الأخبار الزّائفة على الصحافة. علينا أن نستوعب أن الهدف من وراء الأخبار الزائفة ليس رواية الأحداث بصفة مختلفة، بل هدفها الرئيسي هو زعزعة مصداقيّة المؤسّسات، بما في ذلك الصحافة».
فيما ذهب إيفور غايبر، أستاذ الصحافة بجامعة سوسيكس، المملكة المتحدة، إلى أن «التضليل الإعلامي ظاهرة قديمة ودائما موجودة، منذ أن أدرك الناس قوّة الإعلام للتأثير على الرأي العام. ما هو جديد ومثير للقلق، هو توسيع مدى انتشاره وسرعته الفائقة، بفضل وسائط الإعلام الاجتماعية والمنصّات الإلكترونية مثل (غوغل) و(فيسبوك)» وأضاف: «من انعكاسات ظاهرة الأخبار الزّائفة على الصحافة أنها تضعها أمام تحدّ حقيقي، يتمثل في القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، ولكنها في الوقت ذاته، تضفي على دور الصحافي أهميّة أكبر. ويبقى الصحافي الطرف الأكثر قدرة على شجب الأخبار الزائفة، شريطة أن يكون صحافيا مسؤولا». وقال: «يبدو لي أنه على المدى القريب، سوف تبقى (الأخبار الزائفة) مشكلة حساسة بالنسبة للصحافيين، أما على مدى أبعد، فسوف تضفي على دور الصحافي مصداقيّة تمنحه أهميّة متزايدة في المجتمع».
وأكد ريكاردو غندور، مدير وحدة الصحافة بشبكة الإذاعة البرازيلية، أن «ظاهرة الأخبار الزّائفة تعيد التأكيد على المهمّة التقليديّة للصحافة ألا وهي محاولة إنارة المجتمع والجمهور». وترى جينا ليندبرغ، مديرة وحدة الأخبار الخارجية، الإذاعة والتلفزة السويدية، أن هذا الجدل حول الأخبار الزّائفة قد يؤثر سلبيا على جمهور وسائل الإعلام ومن شأنه أن يغذي الشكوك التي تراوده حول صحة الأخبار من عدمها. وقالت: «بصفتنا صحافيين محترفين، علينا العودة إلى أفضل ما باستطاعتنا إنجازه: التحقق من صحّة الوقائع، والمطالبة بالإجابة عن الأسئلة التي نطرحها، وضمان شفافية أساليبنا في الحصول على الأخبار».
وكشفت ماريا ريسا، المديرة العامة وعضوة مؤسِسة لشبكة «رابلر» بالفلبين، وهي شبكة وسائل إعلام اجتماعيّة ملتزمة بوضع تقارير استقصائيّة، عن «رصد ما لا يقل عن 300 موقع على الإنترنت تنشر أخبارا زائفة في الفلبين، خاصة في صفحات الحملة الانتخابيّة في مايو (أيار) 2016» وقالت: «استغرق التحقيق نحو ثلاثة أشهر. قمنا بفحص دقيق لكل المعطيات المتعلقة بهذه الحسابات للتثبت من صفتها التضليلية. واكتشفنا أن (جُحرا) متكونا من 26 حسابا مزوّرا تمكّن من التأثير على ما يناهز ثلاثة ملايين صفحة على (فيسبوك)».
وأكدت: «مع نحو 54 مليون مستخدم على (فيسبوك) في الفلبين، تمثّل وسائط الإعلام الاجتماعية سلاحا رهيبا لإسكات المعارضة والتلاعب بالرأي العام».
تدهور الصحافة الإخبارية
تحت عنوان «أخلاقيات مهنة الصحافة تعود إلى الواجهة»، كتب أيدن وايت مدير شبكة الصحافة الأخلاقية، ومؤلف كتاب «حتى أصارحكم بالحقيقة: مبادرة الصحافة الأخلاقية»، كتب أنه «مع تقلص موارد تمويل الصحافة التي تخدم المصلحة العامّة، أصبحت قاعات التحرير تعاني الصعاب للحفاظ على قاعدتها الأخلاقية. كما تضخمت، إلى حدّ بعيد، كل المشاكل التي كانت تشغلها دوما مثل التحيّز السياسي، وتسلّط المؤسسات غير المشروع، والقوالب النمطية وتضارب المصالح».
واعتبر أن الصحافة الإخبارية شهدت في السنوات الخمس عشرة الماضية تدهورا كبيرا، حيث إن التكنولوجيا قد غيّرت من طرق التواصل بين الناس وطريقة عمل وسائل الإعلام. وقال: «اليوم، يحصل معظمنا على الأخبار من خلال الهواتف النقالة ومن المنصات الإلكترونية التي نمت بكثرة باستغلال البيانات الشخصية لمستخدمي الإنترنت، وبالحوز على الإعلانات الرابحة التي كانت تنتفع منها وسائل الإعلام التقليدية».
وأكد أن هذا الالتزام بالمعايير الأخلاقية هو بمثابة «الضمانة الذهبية»، في عهد التحولات الاجتماعية التي ألقت بالمنظومة العالمية للاتصالات في مرحلة انتقالية فوضوية، مضيفا أنه «بالنسبة للعاملين في وسائل الإعلام ولأي شخص يسعى للحصول على وسائل اتصال موثوقة وآمنة، في المستقبل، أصبح الدفاع عن الصحافة الأخلاقية وتعزيزها أكثر ضرورة من أي وقت مضى».
محتوى ثقافي
هذا، وتتناول أقسام المجلة موضوعات دسمة ومتنوعة، حيث يتضمّن ركن الأحداث حوارا حول إعادة بناء المعالم الثقافية المُدمّرة، بالتزامن مع انعقاد الدورة 41 لهيئة التراث العالمي، وأجرت المجلة حوارا مهما مع جيوسيبينا نيكوليني، تروي فيه كيف احتضن سكان لامبادوزا، وعددهم 6500 ساكن، ما لا يقل عن 25 ألف مهاجر خلال شهرين.
وفي ركن أفكار، ترافق (رسالة اليونيسكو) المؤتمر العالمي الأوّل للإنسانيات، الذي يجتمع في مدينة لياج البلجيكية من 6 إلى 12 أغسطس (آب) الحالي؛ لدعم «الإنسانوية»، ذلك المفهوم الذي يستكشف سبل الانفتاح على الآخر، كحلّ وحيد لخلاص عالم فقد أحلامه؛ ولدعم دور العلوم الإنسانية، خاصّة في الكاريبي.
وبمناسبة اليوم الدولي للسكّان الأصليين، تأخذ المجلة القارئ في جولة ممتعة في الباراغواي، وفي ضيافة قبيلة «زاكموك كازك»، من خلال التحقيق المصوّر «وجهي، أرضي».