ماحي بينبين: أنا ابن عائلة شكسبيرية

التشكيلي والروائي المغربي يستعيد تجربته مع الحياة والأدب والفن

من أعماله - ماحي بينبين ( تصوير: أحمد بن إسماعيل)
من أعماله - ماحي بينبين ( تصوير: أحمد بن إسماعيل)
TT

ماحي بينبين: أنا ابن عائلة شكسبيرية

من أعماله - ماحي بينبين ( تصوير: أحمد بن إسماعيل)
من أعماله - ماحي بينبين ( تصوير: أحمد بن إسماعيل)

وأنت تستمع إلى حديث الفنان التشكيلي والروائي المغربي ماحي بينبين عن تجربته مع الفن التشكيلي والإبداع الروائي، وتأخذ فكرة عن المأساة التي مرت منها عائلته، وتقف على وجهة نظره بصدد عدد من قضايا البلد، لا يمكن إلا أن تستبد بك مشاعر يختلط فيها التقدير للرجل بمعرفة بعض التفاصيل الصغيرة في حياته، قبل أن تنتهي إلى أن الأمر لا يتعلق، فقط، بذكرى تمزق عائلي خاص، أو بتناول فني وروائي متواصل لأفكار وقناعات إبداعية خاصة، بل، بتوصيف عام واستعادة لما عاشه بلد بأكمله، ما بين ستينيات وتسعينيات القرن الماضي، من صراعات وتمزقات، اتفق الجميع على طيها بـ«الإنصاف والمصالحة».
يتحدث ماحي دفعة واحدة عن والدته وعن شقيقه عزيز، الذي قضى نحو عشرين سنة في سجن تازمامارت، ووالده الفقيه محمد بينبين والملك الراحل الحسن الثاني والباشا الكلاوي والملك محمد السادس وأم كلثوم والشاعر محمد بن إبراهيم والتشكيلي الجيلالي الغرباوي، وآخرين؛ فيما يقرب الأمكنة إلى بعضها، مسافرا بك إلى فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، وغيرها من الوجهات الفنية والعالمية الشهيرة، قبل أن يعود بك إلى المغرب.
يستعيد ماحي طفولته ومساره الدراسي، وكيف أنه تمنى، بعد مرحلة البكالوريا، أن يصير فناناً. يقول: «لم أكن أعرف، بالضبط، أي مجال فني يستهويني، أكثر. سافرت إلى فرنسا لاستكمال دراستي في تخصص الرياضيات، قبل أن أعمل، هناك، مدرساً، من دون التخلي عن حلم امتهان الفن».
فضلاً عن قيمته الفنية والأدبية وصيته الذي ذاع في الخارج حتى صار أحد أعمدة الفن التشكيلي والنحت في بلده، وأكثرهم حظوة، كما حاز عدداً من الجوائز عن كتابته الروائية، يتميز ماحي، الذي ولد عام 1959. في عمق المدينة القديمة بمراكش، بوجوده، في فترة من حياته، في صلب مأساة عائلية تصلح لرصد جانب مثير ومعقد من تاريخ المغرب المعاصر، من جهة أنه أحد أبناء الفقيه محمد بينبين، الذي كان مؤنساً للملك الراحل الحسن الثاني، منذ منتصف ستينيات القرن الماضي؛ وشقيق عزيز بينبين، أحد المعتقلين السابقين بتازمامارت، سيئ الذكر والصيت، على خلفية انقلاب الصخيرات الفاشل في 1971.
حين يحدثك ماحي عن مأساة عائلته، وعلاقته بوالده وشقيقه ووالدته، تتأكد أن ضحايا الاعتقال والسجن، خلال ما سمي بـ«سنوات الرصاص» في المغرب، لم يكونوا، فقط، من قضوا في المعتقلات أو أفنوا أزهى سنوات عمرهم في ظلام المعتقلات، بل آباؤهم وأمهاتهم وأشقاؤهم ومعارفهم؛ وهي حقيقة تتأكد، أكثر، حين يستعيد تأثره الشخصي بمأساة عائلته، وتقديره لوالدته، مقابل عدم رضاه على موقف والده من اعتقال شقيقه، من جهة أنه بدل أن يستثمر قربه من الملك لصالح ابنه خذله كما تنكر لعائلته.
يرى ماحي أن الكُـتاب لا يفعلون أكثر من إعادة كتابة ما عاشوه، بطريقة أو بأخرى؛ مشيراً إلى أنه ترعرع وسط عائلة: «شكسبيرية»، كان أحد أبنائها معتقلاً في تازمامارت، في وقت كان فيه الأب يقضي وقته داخل القصر الملكي، فيما الأم سيدة مطلقة لم تجد إلا أن تواجه معترك الحياة وحيدة، في سبيل إعالة أبنائها السبعة، بعد أن خيب الزوج والوالد آمالهم.
يقول ماحي، متحدثاً عن والدته: «ناضلت والدتي في سبيل تربية أبنائها السبعة. لقد علمتنا معاني الصبر والعمل بجد لتجاوز صعوبات ومطبات الحياة. روايتي (جنازة الحليب)، تتحدث عن انتظار الوالدة رجوع ابنها الغائب إلى البيت. إنها قصة عشرين سنة من الانتظار. كانت والدتي متيقنة أن ابنها حي، وقد يدخل إلى البيت في أي لحظة، حتى أنها كانت تترك له، يومياً، نصيبه من الأكل. كانت والدتي عنوان تعلق جميل بالذاكرة وعدم نسيان من نحب».
وفاء الوالدة لأبنائها وكفاحها في سبيلهم، سيجد صداه لدى ماحي الذي، حين طلبت منه أن يعود إلى المغرب بعد استقراره المهني في باريس، بعد إحساسها بدنو أجلها، لم يمانع. يقول: «حين لبيت طلبها، كنت أظن أنني أرد لها بعضاً من جميلها، لكنني، اليوم، حين استعيد شريط حياتي، أقول إنه قد كان لوالدتي فضل آخر في رسم المسار الفني الذي سأتخذه لنفسي، لاحقاً، بعد أن قررت ترك التدريس، لامتهان الفن التشكيلي والكتابة الروائية».
يواصل ماحي متحدثاً عن شقيقه، والده ووالدته، فيقول: «كان أول شيء طلبه مني شقيقي، بعد خروجه من تازمامارت، هو أن آخذه لزيارة الوالد. ثرت في وجهه، قائلاً له كيف ترغب في رؤية والد خذلك فتنكر لك وتبرأ منك وتخلى عنا. قصدنا الرباط، حيث ألتقي والدي، الذي قاطعته مدة 15 سنة. كانت لحظة مؤثرة. تعانقا طويلاً. كان هناك بكاء ودموع. في طريق عودتنا، قال لي شقيقي إنني مخطئ بمقاطعتي لوالدي، مشيراً إلى أنه، حين كان في تازمامارت، اقتسم الزنزانة مع 29 معتقلاً، وأنهم أربعة، فقط، من ظلوا على قيد الحياة، لأنهم لم يحملوا بغضاً أو حقداً في داخلهم، ضد أي كان، بعد أن توفرت لديهم القدرة على الصفح والتسامح. قال لي إن البغض يقتل صاحبه، أولاً، وإنه سمُّ قاتل، لا يمكن أن يحل مشكلاً. فقط، الصفح والتسامح والتغاضي عن أخطاء الآخرين هي ما يمنح المرء تصالحاً مع الذات».
بعد ذلك، سيصالح ماحي والده. يقول: «وجدت فيه شخصاً راقياً ومثقفاً، فارتبطت به حد التعلق. كان إنساناً خارقاً للعادة. منذ 1990. وأنا أقول إنني سأكتب رواية عنه، حتى جاءت اللحظة، مع (مجنون الملك)، حين صرت في الستين من العمر، وتصالحت مع ذاتي، بعد أن تعلمت الدرس الذي لقنه لي شقيقي، الذي صرخ في وجهي، ذات مرة: (أنا خرجت من تازمامارت وأنت لا زلت في داخله. أخرج منه إلى الحياة. تنفس قليلاً)».
هكذا، حول ماحي الصدمات، التي واجهت عائلته، إلى دافع إيجابي نحو مستقبل أفضل. أخذ عن والدته قيمة الأسرة وحفظ ذكرى من نحب، ومن شقيقه معاني الصفح والتسامح، قبل أن يتعرف على والده الفقيه، الأديب والإنسان، والذي سيتعلم منه أن الأمور ليست دائماً إما سوداء أو بيضاء، وأنها يمكن أن تكون في منطقة بين بين؛ ما دام أن لكل حقيقته، من جهة أنه لا أحد يملك الحقيقة مطلقاً، وبالتالي فمن كان معتقلاً في تازمامارت كانت له حقيقته، كما أن من كان يعيش في القصر، ملكاً أو في خدمة الملك، له حقيقته، بصدد ما جرى.
لا ينسي ماحي من ساعده في بداياته، على درب الفن والأدب، حيث يتحدث عن الفنان والكاتب الإسباني أغوستين غوميز أركوس، الذي لمس فيه المبدع، فأخذ بيده ودفعه إلى الكتابة، بشكل أثمر رواية «قمة العبودية».
في رواياته، يتداخل الذاتي بالموضوعي، حيث يترك ماحي لأسئلته الحارقة أن تتناسل، حرصاً وخوفاً على المغرب، حاملاً هم المثقف في فكره والإنسان في داخله، مترجماً آلام وآمال مجتمع بكامله، مقتسماً حيرته مع قرائه، عن هذا الذي جرى للمغرب وللمغاربة، حتى صار الكبار يتسولون بالصغار، والشباب يهاجرون خارج البلد أو يفجرون أنفسهم، منطلقاً من أفكار يطور بها أحداث رواياته، التي انطلق في إبداعها مع «قمة العبودية» (1992)؛ مروراً بـ«أكلة لحوم البشر» (1992)؛ و«جنازة الحليب» (1994)؛ و«ظل الشاعر» (1997)؛ و«لقاح» (2001)؛ و«الله يخلف» (2013)؛ و«نجوم سيدي مومن» (2009)، التي تناول فيها الأحداث الإرهابية التي هزت الدار البيضاء في 16 مايو 2003. والتي حولها المخرج المغربي نبيل عيوش إلى فيلم سينمائي، وصولاً إلى «مجنون الملك» (2017)، التي يتحدث فيها عن والده، والتي نقرأ على ظهر غلافها: «ولدت في عائلة شكسبيرية، بين والد في حاشية الملك وشقيق معتقل. للبقاء في خدمة جلالة الملك، تخلى والدي عن زوجته وأبنائه. ترك ابنه في مواجهة أشباحه. ما هي أعذار (المجنون)... وأعذار الأب؟ قدر وحدة صادمة وعبودية اختيارية... كل شيء عبثي في هذا العالم السفلي. كان لوالدي طعم غريب للحياة، مرت سنوات وأنا أبحث عن طريقة لسردها. هذه القصة، لها خيال الحكاية الغابرة وفداحة الدراما الإنسانية».
من بين كل قصص عائلته، لم يكتب ماحي قصة شقيقه مع الاعتقال والسجن، في تازمامارت؛ غير أنها شكلت موضوعاً لرواية «تلك العتمة الباهرة» للروائي المغربي الطاهر بن جلون. يقول: «لم يرغب شقيقي في أن أتناول أنا، شقيقه، قصة اعتقاله في عمل روائي. قال لي، مبرراً رفضه: (إنك تريد أن تعيدني إلى تازمامارت، سنوات أخرى)».
بعيداً عن مواجع العائلة ومضامين رواياته، لا ينسى ماحي أن يتحدث عن الفن التشكيلي المغربي، فيقول عنه إنه «تطور بشكل رائع في العشرين سنة الأخيرة، حيث صارت هناك سوق فنية تجذب مهتمين من خارج البلد»؛ من دون أن يخفي أن الدينامية التي يعرفها الفن التشكيلي المغربي تجد أسبابها في الدفعة التي أعطاها العاهل المغربي الملك محمد السادس لهذا الفن، والذي باقتنائه للأعمال الفنية، دفع محيطه والبورجوازية إلى القيام بالشيء نفسه، حتى وجد كثيرون في سوق الفن فرصة لمراكمة الأرباح، بعد أن تضاعف ثمن ما يقتنونه من أعمال فنية، الشيء الذي شجعهم على مزيد من الاستثمار في هذا المجال.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.