محمد عبد الملك: لا بد من التجديد... ستضجر من نفسك أو يضجر القارئ

الروائي البحريني يقول إنه حاول ترك الكتابة بسبب الإحباط

الروائي البحريني محمد عبد الملك
الروائي البحريني محمد عبد الملك
TT

محمد عبد الملك: لا بد من التجديد... ستضجر من نفسك أو يضجر القارئ

الروائي البحريني محمد عبد الملك
الروائي البحريني محمد عبد الملك

على مدى نحو خمسين عاماً، يواصل الكاتب والروائي البحريني محمد عبد الملك رحلته الإبداعية التي تستلهم البيئة البحرينية وما تختزله من ثراء، وتعبّر عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مر بها البحرين والخليج. ومن هنا اعتبره كثيرون أهم من كتب الرواية الحديثة في البحرين، والخليج عموماً. وقد أنتج خلال هذه المسيرة الطويلة عدداً من المجموعات القصصية والروايات بينها: «موت صاحب العربة»، 1972، «نحن نحب الشمس» 1975، «ثقوب في رئة المدينة»، 1979، رواية «الجذور» 1980، «السياج» 1982، «النهر يجري» 1984، «رأس العروسة» 1987، ورواية «ليلة الحبّ»، ورواية «غليون العقيد». وهو إضافة لذلك من الأعضاء المؤسسين لأسرة الأدباء والكتاب بالبحرين عام 1969.
هنا حوار مع عبد الملك الذي يوجد حالياً في العاصمة البريطانية لندن لتلقي العلاج:

> طمئننا عنك.. ماذا تفعل في لندن؟
- أنا هنا للعلاج والراحة وتجديد الطاقة.
> تُعتبر أهم من كتب الرواية الحديثة في البحرين، والخليج عموماً، ماذا تعني لك الرواية؟
- الرواية بالنسبة لي هي وجود، وحياتي تفتقد المعنى من دونها، أنا لست أنا إذا لم أكتب، في هذه الحالة أكون خارج المشهد، وهذا يجعلني متوتراً وقلقاً. حاولت أن أترك الكتابة في وقت من الأوقات بسبب الإحباط الذي يصاحب الكتّاب عادة، خاصة في العالم الثالث لأسباب كثيرة، أولها الضريبة العالية التي يدفعها الكاتب من حياته، وليس آخرها عدم إقبال الناس على القراءة بعد الطفرة النفطية، وكان سؤال واحد يعترض طريقي بعض الوقت عن جدوى الكتابة إذا لم يكن هناك متلق. صحيح أن الكتابة تشبع الرغبة الذاتية لدي لكن هذا لا يكفي، خاصة عندما نقارن الإقبال الشديد على القراءة في الستينات وبداية السبعينات، مع انحسارها السريع والمفاجئ بعد الطفرة النفطية..
> وما الذي أعادك للكتابة إذن؟
- اكتشفت تالياً أن الكاتب يدمن الكتابة، ولا يستطيع أن يعيش من دونها، فهي تحقق له الرضا عن الذات، وراحة الضمير والشعور بالامتلاء والتميز، الكتابة في أسوأ حالاتها ممتعة وجميلة. بالنسبة لي منحتني الرواية فرصة أكبر للتعبير عن الذات، التي هي في معظم الحالات تلتقي مع ذوات الآخرين، إذ مع اختلافاتنا الفردية يظل هناك قاسم مشترك..
> ماذا بشأن الرواية تحديداً؟
- الرواية هي مساحة شاسعة للبوح ومشاركة البشر في أحاسيسهم، وطموحاتهم، وعذاباتهم اليومية، ومع ذلك فالرواية أفقها مفتوح على الحياة، وهي متنوعة، تتزاحم فيها النقائض والمفارقات كلها؛ تلك التي تكون صلات البشر بعضهم ببعض، في الرواية أنت أكثر حرية وانطلاقاً في التعبير والرصد والمكاشفة، الابتكارات في الرواية أغنى وأكثر تعدداً، لذا فالرواية تشكل إغراء لا يقاوم عند الكتّاب، وهي تحتضن في الوقت نفسه فنوناً كثيرة؛ الشعر أولاً، الحوار المسرحي، السينما، الفن التشكيلي خاصة في الرواية الجديدة التي ظهرت في فرنسا؛ وهي تعتمد في تقنيتها على تعدد اللوحات، والمشاهد وتداخلها، الرواية تتسع لسرد تفاصيل الحياة اليومية، كما يتعدد فيها أفق الخلق والابتكار، ربما لهذا السبب أغرت الرواية الكثيرين، ولَم ينج الشعراء من هذا الإغراء.
> هل تعتبر أنك أنجزت مشروعك الروائي؟
- الكتابة حين تبدأ لا تنتهي ولا تكتمل. وما دمت مصمماً على الكتابة، وتلتزم بشروطها ورغباتها، وتنصاع لأهوائها، فدائماً هناك رواية تنتظرك، أو تطل عليك من بعيد، ما دمت تتنفس وتعيش فهناك دائماً مشاريع للكتابة تظهر في ذهنك، وتظل معك فترة طويلة، وأحياناً تفاجئك رواية أو قصة تظهر في الطريق. الحياة ذاتها تمنحك مادة للكتابة، أنت دائماً تنتظر محبوبتك الأثيرة على قلبك، وهي لن تخذلك، لأنك تحبها، وهي لهذا السبب تحبك بالمثل، إذا أخلصت للكتابة، ومنحتها نفسك، منحتك نفسها وقد تعطيك في هذه الحالة ببذخ. الكتابة بعض الأحيان تغيب طويلاً، وتسرف في الغياب، لكن لا تيأس، فهي تظهر لك فجأة في موعد لا تتوقعه، غالباً ما تأتي الكتابة من غير ميعاد.
> كنتَ رائداً في كتابة القصة الجديدة في البحرين منذ صدرت مجموعتك الأولى: «موت صاحب العربة»، بداية السبعينات، وقتها كانت البيئة البحرينية وحاراتها الشعبية مصدر إلهام وإثراء، اليوم هل تفتقد تلك المرحلة؟
- الكتابة على وتيرة واحدة لفترة طويلة تفسد مشروع الكاتب برمته. لا بد من التنوع، لا بد من الانتقال، والتغيير، والتجديد وإلا سيضجر منك القارئ ويتركك وحدك، وقد تضجر أنت من كتابتك، كما أنك تخوض في الحياة تجارب جديدة، وينمو تفكيرك في اتجاهات مختلفة، تتغير فيها قناعاتك. في المرحلة الأولى اندفعت أكتب على سجيتي، وفِي مرحلة لاحقة بدأ تأملي في الحياة يكبر، واتسعت المعرفة، وتنوعت الأفكار، فوجدت ضالتي في القصة الرمزية؛ في المرحلة الأولى رصدت الآلام المبرحة للناس في حياتهم اليومية، وفِي المرحلة الثانية اتسعت مداركي فولجت في الرمزية دون أن أتخلى عن الهم الإنساني فهو جوهر الكتابة في كل العصور؛ ومع الكتابة الرمزية استهوتني القصة النفسية لأحاول الولوج إلى الداخل في الدهاليز الخلفية للبشر، ابتدأ هذا التغيير بشكل واضح مع مجموعة رأس العروسة واستمر معي بعد ذلك حتى الآن حين اكتشفت أن الغموض أيضاً يشكل إضافة مهمة في الكتابة، فالحياة ذاتها غامضة، لكن الغموض سلاح ذو حدين، وقد يفسد الكتابة إذا لم يعي الكاتب كيفية استخدامه، ومع هذا التغيير كان لا بد لي أن أكتشف لغة تناسب الرمز وأعماق النفس، وكان لا بد لي أن أستعين بالشعر والجملة متعددة المعاني، وحمالة الأوجه، هذه اللغة استخدمتها أيضاً في رواية «سلالم الهواء».
> هل كُتبت الرواية الخليجية فعلاً؟، أساساً هل يمكن أن ينتج الخليج عملاً روائياً؟
- الرواية الخليجية كتبت منذ خمسة عقود وهي الآن في مرحلة نضج وانبعاث جديد لافت، الرواية الخليجية في أوج انتعاشها الآن، وبخاصة الرواية السعودية، والدليل هو بروز وتفوق مجموعة من الروائيين الخليجيين على أقرانهم العرب في مسابقات «البوكر» العربية، ومن المعروف أن جائزة «البوكر» هي الأكبر من نوعها في مجال الرواية، ويشترك فيها في كل مسابقة بين مائة ومائة وثمانين كاتباً من الدول العربية.
> كيف ترى المشهد الروائي الخليجي؟
- الخليجيون فازوا بالجائزة أربع مرات في عشر مسابقات، هذا دليل كاف على الحضور اللافت للرواية الخليجية؛ الروايات الفائزة كانت لعبده خال، ورجاء عالم، ومحمد حسن علوان من السعودية، الرواية الرابعة ذهبت إلى الكويتي سعود السنعوسي عن رواية «ساق البامبو». وأريد أن أوضح أن ظهور كم كبير من الروايات المتهالكة، لا ينفي وجود روايات مهمة ومكتملة، ليس علينا أن نقلق من هذه الظاهرة لأن الأدب يدافع عن نفسه، والمتطفلون على الرواية، لن يصمدوا طويلاً أمام النقد الجاد والقارئ اللبيب، والزمن كفيل بإبراز الكتاب الموهوبين من غيرهم.
> برأيك ما هو تأثير الجوائز على طوفان الأعمال الروائية؟
- الجوائز لا تصنع الروائيين، وإنما الروائيون يصنعون الجوائز، عندما لا تكون هناك روايات تظهر إلى الوجود بكثافة عالية كما يحدث الآن لن يفكر أحد في رصد جوائز لها، الجوائز وجدت الآن لأننا في عصر ازدهار الرواية العربية، ودور الجوائز إعلامي ومعنوي بالدرجة الأولى، وهي تساعد على رواج الروايات الفائزة التي تترجم إلى اللغات الأجنبية، وهذه فكرة جيدة تحسب لمنظمي هذه المسابقة.
> أنت من المؤسسين لأسرة الأدباء والكتاب في البحرين، كيف ترى دورها اليوم؟
- تضاعف حضور أسرة الأدباء والكتاب في المشهد الثقافي في البحرين بعد الإصلاح السياسي، حيث توفرت البيئة الخصبة لازدهار الثقافة، التي لا تتسع وتكبر إلا في المناخات الحرة، وكلما اتسعت الحرية، انتعشت الثقافة، وليس من الإنصاف أن يأتي ذكر أسرة الأدباء والكتاب، دون أن نذكر دورها الريادي في نشر الثقافة والأدب والتنوير في البحرين وبشكل مكثف طوال أربعة عقود مفصلية في تاريخنا الحديث؛ تدفقت فيها سواقي أسرة الأدباء والكتاب، تضخ ماء الحياة والنماء في جسد المجتمع البحريني ونسقه، عبر إصدارات شعرية، ومجاميع قصصية وروائية، هذا غير الندوات والأنشطة الثقافية المتنوعة، وما زالت تعبر مخيلتي مشاهد الجمهور الذي كانت تغص به القاعات في السبعينات من القرن الماضي، في أمسيات أسرة الأدباء والكتاب، أسرة الأدباء والكتاب بجانب دورها الأدبي الكبير لها تاريخ وطني أيضاً، فأنت لا تستطيع أن تفصل الوطن عن الكتابة، خاصة في الفترات الحرجة، وكما هو معروف فالأسرة ساهمت بشكل كبير في بث الوعي الوطني الذي كان الإصلاح من ثماره، وكان ذلك التوجه واضحاً في شعار الأسرة: «الكلمة من أجل الإنسان».
> تناولت معاناة الكتابة، في كتابك «سلالم الهواء»... كيف ترى تجربة الكتابة؟
- هي رفقة جميلة لا نشبع منها مهما طالت مسافاتها، ومهما قست ظروفها، وهي شديدة القسوة، لأن الكتابة تقودك إلى طرقات وعرة تتعرض فيها حياتك للخطر، وتعذب معها روحك بالمعاناة، الكتابة تقودك إلى الجمال والمعرفة والحقيقة، وتجد نفسك مع هذه الصحبة في مواجهة أعداء يخشون الكتابة ويزيفون الحقيقة، وهم لذلك لا يتوقفون عن إيذائك كل الوقت. الكتابة تضحية بالروح وفيها تهديد للقمة عيشك، وأحياناً تهديد لوجودك. والأنظمة المستبدة تخشى الكتابة كما يخشى الطفل الظلام، لأن الكتابة تكشف خدعهم وألاعيبهم وطغيانهم، الكتابة تضعك في الواجهة لتصيبك شظايا النار، وهي تقودك إلى الوعي، فالكتّاب هم كهنة المعرفة، وقادة الفكر ونبراس الشعوب، الكتابة أعطتني الكثير وأخذت مني الكثير. أعطتني حب الناس، والشعور بالسعادة، ورضا النفس وراحة الضمير، وتحقيق الذات، وهي أخذت مني الصحة وراحة البال، وجعلتني في حالة من القلق الدائم والخوف الدائم، وتوقع المصائب، الكتابة هي صخرة سيزيف الذي يصعد بها إلى قمة الجبل فتهوي به في الحضيض، لكنه لا يتركها؛ فيعود إلى حملها ثانية إلى القمة. الكتابة هي الصديقة التي تسعدك وتحزنك في الوقت نفسه، الكتابة هي العسل وهي الحنظل.
> يلاحظ الكاتب الراحل عبد الله خليفة في كتابه النقدي «الراوي في عالم محمد عبد الملك القصصي» من خلال دراسته لأعمالك أن أسلوب الراوي يتطور مع التطورات الاجتماعية، والاقتصادية، لكنك بقيت تجسد الواقعية حيث تنتصر للإنسان وقضاياه... هل تعتبر نفسك كاتباً ملتزماً؟
- أنا منحاز للإنسانية، بهذا المفهوم والوعي كتبت منذ الستينات، وفِي تلك الفترة كان التيار الواقعي الذي كان نجيب محفوظ أبرز ممثليه واسع الانتشار، وحقق نجيب محفوظ جائزة نوبل، بهذا النمط من الكتابة، نجيب محفوظ كان واقعياً رمزياً أيضاً ويكاد أن يكون فيلسوفاً، فهو درس الفلسفة، والنفَس الفلسفي ظاهر في كتابته كما كان الرمز حاضراً في رواية «الحرافيش» و«أولاد حارتنا»، وفِي بعض قصصه، وقد تأثرت به، وكنت شغوفاً بما يكتب، والالتزام، صفة أفسدتها الأحزاب السياسية التي حاولت أن تحول الكاتب إلى واجهة إعلامية للحزب، لذا فالمفردة لم تصمد طويلاً، فذهبت، كما ذهبت معها مفاهيم أخرى هي إفراز لمرحلة أرادت فيها السياسة أن تبتلع الأدب. كل الكتّاب بجميع تياراتهم وأنواعهم، على مر العصور ملتزمون بإنسانيتهم التي لا يتنازلون عنها، وهكذا تجد أن الالتزام هو شيء عفوي داخل الكتابة، هذه مفردة انتهى وقتها.
> في كتابه السابق، يلاحظ عبد الله خليفة «أن ظهور القصة القصيرة الجديدة في البحرين في نهاية الستينات عبر عن البداية الشاقة لهذا الفن في المنطقة»، ما الذي كان يعيق فعلاً تقبل التجارب الأدبية الحديثة في بلد سبق كل جيرانه في التعليم والاتصال بالعالم الخارجي؟
- الكاتب عبد الله خليفة يشير هنا إلى صعوبة خلق عمل جديد لم يكن موجوداً في الساحة الثقافية المحلية، في الستينات، قبل هذا التاريخ كانت هناك إرهاصات أولية لم تكتمل للفن القصصي، والجيل الذي أنتمي إليه مع عبد الله خليفة وأمين صالح ومحمد الماجد وخلف أحمد خلف تكفل بابتكار القصة، وحملها إلى ضفاف التجديد والتنويع ومحاكاة القصة العربية في أقطار المركز العربي في مصر وسوريا والعراق، ومن حسن حظ هذا الجيل أن انتعاش القصة العربية بدأ في ذلك الوقت على يد يوسف إدريس ونجيب محفوظ وزكريا تامر ومجيد الربيعي وآخرون، وكان على جيلي أن يأخذ السرد القصصي إلى أفاق جديدة وأبعاد مختلفة، وهذا ما حدث، مع هذا الجيل بدت القصة أكثر اكتمالاً وتنوعاً، وأكثر اتصالاً بالحياة، والمحيط الاجتماعي والسياسي الذي كان جديداً بدوره، كانت تلك بداية مرحلة الحداثة الأدبية والفكرية بشكل عام في كل الوطن العربي، القراء البحرينيون اهتموا بالسرد الحديث والشعر اهتماماً كبيراً، لأن هذه الحداثة حملت تطلعاتهم الجديدة ومعاناتهم، وهمومهم، وأشبعت شغفهم المتوارث للثقافة، وأذكر أن كتبنا كانت تنفد بسرعة في ذلك الوقت.
وكان الناس يحاوروننا فيما نكتب في المجالس والشوارع والساحات، كانت مرحلة نهوض ثقافي واسع اندمجنا فيه وأحببناه.



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.