محمد عبد الملك: لا بد من التجديد... ستضجر من نفسك أو يضجر القارئ

الروائي البحريني يقول إنه حاول ترك الكتابة بسبب الإحباط

الروائي البحريني محمد عبد الملك
الروائي البحريني محمد عبد الملك
TT

محمد عبد الملك: لا بد من التجديد... ستضجر من نفسك أو يضجر القارئ

الروائي البحريني محمد عبد الملك
الروائي البحريني محمد عبد الملك

على مدى نحو خمسين عاماً، يواصل الكاتب والروائي البحريني محمد عبد الملك رحلته الإبداعية التي تستلهم البيئة البحرينية وما تختزله من ثراء، وتعبّر عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مر بها البحرين والخليج. ومن هنا اعتبره كثيرون أهم من كتب الرواية الحديثة في البحرين، والخليج عموماً. وقد أنتج خلال هذه المسيرة الطويلة عدداً من المجموعات القصصية والروايات بينها: «موت صاحب العربة»، 1972، «نحن نحب الشمس» 1975، «ثقوب في رئة المدينة»، 1979، رواية «الجذور» 1980، «السياج» 1982، «النهر يجري» 1984، «رأس العروسة» 1987، ورواية «ليلة الحبّ»، ورواية «غليون العقيد». وهو إضافة لذلك من الأعضاء المؤسسين لأسرة الأدباء والكتاب بالبحرين عام 1969.
هنا حوار مع عبد الملك الذي يوجد حالياً في العاصمة البريطانية لندن لتلقي العلاج:

> طمئننا عنك.. ماذا تفعل في لندن؟
- أنا هنا للعلاج والراحة وتجديد الطاقة.
> تُعتبر أهم من كتب الرواية الحديثة في البحرين، والخليج عموماً، ماذا تعني لك الرواية؟
- الرواية بالنسبة لي هي وجود، وحياتي تفتقد المعنى من دونها، أنا لست أنا إذا لم أكتب، في هذه الحالة أكون خارج المشهد، وهذا يجعلني متوتراً وقلقاً. حاولت أن أترك الكتابة في وقت من الأوقات بسبب الإحباط الذي يصاحب الكتّاب عادة، خاصة في العالم الثالث لأسباب كثيرة، أولها الضريبة العالية التي يدفعها الكاتب من حياته، وليس آخرها عدم إقبال الناس على القراءة بعد الطفرة النفطية، وكان سؤال واحد يعترض طريقي بعض الوقت عن جدوى الكتابة إذا لم يكن هناك متلق. صحيح أن الكتابة تشبع الرغبة الذاتية لدي لكن هذا لا يكفي، خاصة عندما نقارن الإقبال الشديد على القراءة في الستينات وبداية السبعينات، مع انحسارها السريع والمفاجئ بعد الطفرة النفطية..
> وما الذي أعادك للكتابة إذن؟
- اكتشفت تالياً أن الكاتب يدمن الكتابة، ولا يستطيع أن يعيش من دونها، فهي تحقق له الرضا عن الذات، وراحة الضمير والشعور بالامتلاء والتميز، الكتابة في أسوأ حالاتها ممتعة وجميلة. بالنسبة لي منحتني الرواية فرصة أكبر للتعبير عن الذات، التي هي في معظم الحالات تلتقي مع ذوات الآخرين، إذ مع اختلافاتنا الفردية يظل هناك قاسم مشترك..
> ماذا بشأن الرواية تحديداً؟
- الرواية هي مساحة شاسعة للبوح ومشاركة البشر في أحاسيسهم، وطموحاتهم، وعذاباتهم اليومية، ومع ذلك فالرواية أفقها مفتوح على الحياة، وهي متنوعة، تتزاحم فيها النقائض والمفارقات كلها؛ تلك التي تكون صلات البشر بعضهم ببعض، في الرواية أنت أكثر حرية وانطلاقاً في التعبير والرصد والمكاشفة، الابتكارات في الرواية أغنى وأكثر تعدداً، لذا فالرواية تشكل إغراء لا يقاوم عند الكتّاب، وهي تحتضن في الوقت نفسه فنوناً كثيرة؛ الشعر أولاً، الحوار المسرحي، السينما، الفن التشكيلي خاصة في الرواية الجديدة التي ظهرت في فرنسا؛ وهي تعتمد في تقنيتها على تعدد اللوحات، والمشاهد وتداخلها، الرواية تتسع لسرد تفاصيل الحياة اليومية، كما يتعدد فيها أفق الخلق والابتكار، ربما لهذا السبب أغرت الرواية الكثيرين، ولَم ينج الشعراء من هذا الإغراء.
> هل تعتبر أنك أنجزت مشروعك الروائي؟
- الكتابة حين تبدأ لا تنتهي ولا تكتمل. وما دمت مصمماً على الكتابة، وتلتزم بشروطها ورغباتها، وتنصاع لأهوائها، فدائماً هناك رواية تنتظرك، أو تطل عليك من بعيد، ما دمت تتنفس وتعيش فهناك دائماً مشاريع للكتابة تظهر في ذهنك، وتظل معك فترة طويلة، وأحياناً تفاجئك رواية أو قصة تظهر في الطريق. الحياة ذاتها تمنحك مادة للكتابة، أنت دائماً تنتظر محبوبتك الأثيرة على قلبك، وهي لن تخذلك، لأنك تحبها، وهي لهذا السبب تحبك بالمثل، إذا أخلصت للكتابة، ومنحتها نفسك، منحتك نفسها وقد تعطيك في هذه الحالة ببذخ. الكتابة بعض الأحيان تغيب طويلاً، وتسرف في الغياب، لكن لا تيأس، فهي تظهر لك فجأة في موعد لا تتوقعه، غالباً ما تأتي الكتابة من غير ميعاد.
> كنتَ رائداً في كتابة القصة الجديدة في البحرين منذ صدرت مجموعتك الأولى: «موت صاحب العربة»، بداية السبعينات، وقتها كانت البيئة البحرينية وحاراتها الشعبية مصدر إلهام وإثراء، اليوم هل تفتقد تلك المرحلة؟
- الكتابة على وتيرة واحدة لفترة طويلة تفسد مشروع الكاتب برمته. لا بد من التنوع، لا بد من الانتقال، والتغيير، والتجديد وإلا سيضجر منك القارئ ويتركك وحدك، وقد تضجر أنت من كتابتك، كما أنك تخوض في الحياة تجارب جديدة، وينمو تفكيرك في اتجاهات مختلفة، تتغير فيها قناعاتك. في المرحلة الأولى اندفعت أكتب على سجيتي، وفِي مرحلة لاحقة بدأ تأملي في الحياة يكبر، واتسعت المعرفة، وتنوعت الأفكار، فوجدت ضالتي في القصة الرمزية؛ في المرحلة الأولى رصدت الآلام المبرحة للناس في حياتهم اليومية، وفِي المرحلة الثانية اتسعت مداركي فولجت في الرمزية دون أن أتخلى عن الهم الإنساني فهو جوهر الكتابة في كل العصور؛ ومع الكتابة الرمزية استهوتني القصة النفسية لأحاول الولوج إلى الداخل في الدهاليز الخلفية للبشر، ابتدأ هذا التغيير بشكل واضح مع مجموعة رأس العروسة واستمر معي بعد ذلك حتى الآن حين اكتشفت أن الغموض أيضاً يشكل إضافة مهمة في الكتابة، فالحياة ذاتها غامضة، لكن الغموض سلاح ذو حدين، وقد يفسد الكتابة إذا لم يعي الكاتب كيفية استخدامه، ومع هذا التغيير كان لا بد لي أن أكتشف لغة تناسب الرمز وأعماق النفس، وكان لا بد لي أن أستعين بالشعر والجملة متعددة المعاني، وحمالة الأوجه، هذه اللغة استخدمتها أيضاً في رواية «سلالم الهواء».
> هل كُتبت الرواية الخليجية فعلاً؟، أساساً هل يمكن أن ينتج الخليج عملاً روائياً؟
- الرواية الخليجية كتبت منذ خمسة عقود وهي الآن في مرحلة نضج وانبعاث جديد لافت، الرواية الخليجية في أوج انتعاشها الآن، وبخاصة الرواية السعودية، والدليل هو بروز وتفوق مجموعة من الروائيين الخليجيين على أقرانهم العرب في مسابقات «البوكر» العربية، ومن المعروف أن جائزة «البوكر» هي الأكبر من نوعها في مجال الرواية، ويشترك فيها في كل مسابقة بين مائة ومائة وثمانين كاتباً من الدول العربية.
> كيف ترى المشهد الروائي الخليجي؟
- الخليجيون فازوا بالجائزة أربع مرات في عشر مسابقات، هذا دليل كاف على الحضور اللافت للرواية الخليجية؛ الروايات الفائزة كانت لعبده خال، ورجاء عالم، ومحمد حسن علوان من السعودية، الرواية الرابعة ذهبت إلى الكويتي سعود السنعوسي عن رواية «ساق البامبو». وأريد أن أوضح أن ظهور كم كبير من الروايات المتهالكة، لا ينفي وجود روايات مهمة ومكتملة، ليس علينا أن نقلق من هذه الظاهرة لأن الأدب يدافع عن نفسه، والمتطفلون على الرواية، لن يصمدوا طويلاً أمام النقد الجاد والقارئ اللبيب، والزمن كفيل بإبراز الكتاب الموهوبين من غيرهم.
> برأيك ما هو تأثير الجوائز على طوفان الأعمال الروائية؟
- الجوائز لا تصنع الروائيين، وإنما الروائيون يصنعون الجوائز، عندما لا تكون هناك روايات تظهر إلى الوجود بكثافة عالية كما يحدث الآن لن يفكر أحد في رصد جوائز لها، الجوائز وجدت الآن لأننا في عصر ازدهار الرواية العربية، ودور الجوائز إعلامي ومعنوي بالدرجة الأولى، وهي تساعد على رواج الروايات الفائزة التي تترجم إلى اللغات الأجنبية، وهذه فكرة جيدة تحسب لمنظمي هذه المسابقة.
> أنت من المؤسسين لأسرة الأدباء والكتاب في البحرين، كيف ترى دورها اليوم؟
- تضاعف حضور أسرة الأدباء والكتاب في المشهد الثقافي في البحرين بعد الإصلاح السياسي، حيث توفرت البيئة الخصبة لازدهار الثقافة، التي لا تتسع وتكبر إلا في المناخات الحرة، وكلما اتسعت الحرية، انتعشت الثقافة، وليس من الإنصاف أن يأتي ذكر أسرة الأدباء والكتاب، دون أن نذكر دورها الريادي في نشر الثقافة والأدب والتنوير في البحرين وبشكل مكثف طوال أربعة عقود مفصلية في تاريخنا الحديث؛ تدفقت فيها سواقي أسرة الأدباء والكتاب، تضخ ماء الحياة والنماء في جسد المجتمع البحريني ونسقه، عبر إصدارات شعرية، ومجاميع قصصية وروائية، هذا غير الندوات والأنشطة الثقافية المتنوعة، وما زالت تعبر مخيلتي مشاهد الجمهور الذي كانت تغص به القاعات في السبعينات من القرن الماضي، في أمسيات أسرة الأدباء والكتاب، أسرة الأدباء والكتاب بجانب دورها الأدبي الكبير لها تاريخ وطني أيضاً، فأنت لا تستطيع أن تفصل الوطن عن الكتابة، خاصة في الفترات الحرجة، وكما هو معروف فالأسرة ساهمت بشكل كبير في بث الوعي الوطني الذي كان الإصلاح من ثماره، وكان ذلك التوجه واضحاً في شعار الأسرة: «الكلمة من أجل الإنسان».
> تناولت معاناة الكتابة، في كتابك «سلالم الهواء»... كيف ترى تجربة الكتابة؟
- هي رفقة جميلة لا نشبع منها مهما طالت مسافاتها، ومهما قست ظروفها، وهي شديدة القسوة، لأن الكتابة تقودك إلى طرقات وعرة تتعرض فيها حياتك للخطر، وتعذب معها روحك بالمعاناة، الكتابة تقودك إلى الجمال والمعرفة والحقيقة، وتجد نفسك مع هذه الصحبة في مواجهة أعداء يخشون الكتابة ويزيفون الحقيقة، وهم لذلك لا يتوقفون عن إيذائك كل الوقت. الكتابة تضحية بالروح وفيها تهديد للقمة عيشك، وأحياناً تهديد لوجودك. والأنظمة المستبدة تخشى الكتابة كما يخشى الطفل الظلام، لأن الكتابة تكشف خدعهم وألاعيبهم وطغيانهم، الكتابة تضعك في الواجهة لتصيبك شظايا النار، وهي تقودك إلى الوعي، فالكتّاب هم كهنة المعرفة، وقادة الفكر ونبراس الشعوب، الكتابة أعطتني الكثير وأخذت مني الكثير. أعطتني حب الناس، والشعور بالسعادة، ورضا النفس وراحة الضمير، وتحقيق الذات، وهي أخذت مني الصحة وراحة البال، وجعلتني في حالة من القلق الدائم والخوف الدائم، وتوقع المصائب، الكتابة هي صخرة سيزيف الذي يصعد بها إلى قمة الجبل فتهوي به في الحضيض، لكنه لا يتركها؛ فيعود إلى حملها ثانية إلى القمة. الكتابة هي الصديقة التي تسعدك وتحزنك في الوقت نفسه، الكتابة هي العسل وهي الحنظل.
> يلاحظ الكاتب الراحل عبد الله خليفة في كتابه النقدي «الراوي في عالم محمد عبد الملك القصصي» من خلال دراسته لأعمالك أن أسلوب الراوي يتطور مع التطورات الاجتماعية، والاقتصادية، لكنك بقيت تجسد الواقعية حيث تنتصر للإنسان وقضاياه... هل تعتبر نفسك كاتباً ملتزماً؟
- أنا منحاز للإنسانية، بهذا المفهوم والوعي كتبت منذ الستينات، وفِي تلك الفترة كان التيار الواقعي الذي كان نجيب محفوظ أبرز ممثليه واسع الانتشار، وحقق نجيب محفوظ جائزة نوبل، بهذا النمط من الكتابة، نجيب محفوظ كان واقعياً رمزياً أيضاً ويكاد أن يكون فيلسوفاً، فهو درس الفلسفة، والنفَس الفلسفي ظاهر في كتابته كما كان الرمز حاضراً في رواية «الحرافيش» و«أولاد حارتنا»، وفِي بعض قصصه، وقد تأثرت به، وكنت شغوفاً بما يكتب، والالتزام، صفة أفسدتها الأحزاب السياسية التي حاولت أن تحول الكاتب إلى واجهة إعلامية للحزب، لذا فالمفردة لم تصمد طويلاً، فذهبت، كما ذهبت معها مفاهيم أخرى هي إفراز لمرحلة أرادت فيها السياسة أن تبتلع الأدب. كل الكتّاب بجميع تياراتهم وأنواعهم، على مر العصور ملتزمون بإنسانيتهم التي لا يتنازلون عنها، وهكذا تجد أن الالتزام هو شيء عفوي داخل الكتابة، هذه مفردة انتهى وقتها.
> في كتابه السابق، يلاحظ عبد الله خليفة «أن ظهور القصة القصيرة الجديدة في البحرين في نهاية الستينات عبر عن البداية الشاقة لهذا الفن في المنطقة»، ما الذي كان يعيق فعلاً تقبل التجارب الأدبية الحديثة في بلد سبق كل جيرانه في التعليم والاتصال بالعالم الخارجي؟
- الكاتب عبد الله خليفة يشير هنا إلى صعوبة خلق عمل جديد لم يكن موجوداً في الساحة الثقافية المحلية، في الستينات، قبل هذا التاريخ كانت هناك إرهاصات أولية لم تكتمل للفن القصصي، والجيل الذي أنتمي إليه مع عبد الله خليفة وأمين صالح ومحمد الماجد وخلف أحمد خلف تكفل بابتكار القصة، وحملها إلى ضفاف التجديد والتنويع ومحاكاة القصة العربية في أقطار المركز العربي في مصر وسوريا والعراق، ومن حسن حظ هذا الجيل أن انتعاش القصة العربية بدأ في ذلك الوقت على يد يوسف إدريس ونجيب محفوظ وزكريا تامر ومجيد الربيعي وآخرون، وكان على جيلي أن يأخذ السرد القصصي إلى أفاق جديدة وأبعاد مختلفة، وهذا ما حدث، مع هذا الجيل بدت القصة أكثر اكتمالاً وتنوعاً، وأكثر اتصالاً بالحياة، والمحيط الاجتماعي والسياسي الذي كان جديداً بدوره، كانت تلك بداية مرحلة الحداثة الأدبية والفكرية بشكل عام في كل الوطن العربي، القراء البحرينيون اهتموا بالسرد الحديث والشعر اهتماماً كبيراً، لأن هذه الحداثة حملت تطلعاتهم الجديدة ومعاناتهم، وهمومهم، وأشبعت شغفهم المتوارث للثقافة، وأذكر أن كتبنا كانت تنفد بسرعة في ذلك الوقت.
وكان الناس يحاوروننا فيما نكتب في المجالس والشوارع والساحات، كانت مرحلة نهوض ثقافي واسع اندمجنا فيه وأحببناه.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟