السينما السورية تعيش الحرب بلحظاتها الحرجة

إذ تستمر الحرب في سوريا عاماً بعد عام مع ضحايا معظمهم من الأبرياء، وبطرفي نزاع كل يتبنّى خطاً مناهضاً للآخر وينادي بإبادة الآخر دون أن يقدر عليه، ترتفع الأفلام السورية الحديثة حول هذه الحرب فوق الكثير من الإنتاجات العربية الأخرى وتتنوّع بين أفلام مع وأفلام ضد وأفلام غير منحازة. سبب ارتفاع هذه الأفلام عن سواها يعود إلى أنها تروي قصص حرب دامية لا تريد أن تنتهي. ليست الأولى (الحرب الأهلية اللبنانية سبقتها) وليست الوحيدة (العراقية توازيها) لكنها الحرب الأهم والأكبر ومصيرها مجهول بعد 6 سنوات من الطحن.
الأفلام التي دارت حولها تختلف عن تلك التي دارت حول الحرب العراقية مثلاً. بالتأكيد تختلف عن كل ما يتم إنتاجه من أفلام عربية هذه الأيام كون هذه الأفلام بعيدة عن التعاطي مع هذا الوضع إلا فيما ندر. إنها أفلام في الحرب وعن الحرب وتأتي لكي تحمل شهادة أو تدلي بتعليق أو تصوّر وضعاً مأساوياً تلو الآخر. هي أفلام معارك طاحنة وذكريات منهكة. ما يميل منها لطرح موقف ضد النظام، وتلك التي تميل لطرح موقف ضد المعارضة تتشاركان في الانقسام الحاضر ذاته، ولا تضيف إليه شيئا يذكر على الصعيد الدرامي، وعلى مستوى أحداث الفيلم كخط سياسي.
كله بات معروفاً وكله بات سهل التعليق عليه والأصوات دوماً ترتفع بما يناسب الطرف الذي ترتفع منه. ما يميّز فيلم عن آخر هو مستواه الفني. تلك القيمة التي إن وجدت حفظت الفيلم للأبد بصرف النظر عن موقفه، وإن لم تتواجد دفعت الفيلم بعيداً عن الذاكرة صوب نسيان سريع.

رجال حلب
منذ البداية وردت الأفلام التي تحمل تعابير مختلفة حول الحرب السورية. فيلم محمد سويد «بلح تعلق تحت قلعة حلب» وفيلم محمد ملص «سلم إلى دمشق» وقبلهما فيلم «مياه الفضة» لأسامة محمد، هي من بين تلك التي وردت باكراً وعزفت على ألحان مختلفة. أفضلها فيلم محمد ملص الذي رمز إلى تطلعات الشعب إلى الحرية.
الفارق الأهم بين تلك الأفلام الأولى وسواها هي أن أفلام العامين الماضيين شهدت تكاملاً أكبر لعناصر العمل. الحرب الدائرة باتت واضحة الأسباب والغايات، وإن ما زالت النتائج النهائية غامضة. لكن في ذلك الوضوح ما يكفي لاتخاذ موقف والدفاع عنه أو اتخاذه والمتاجرة به. وإذا كان فيلم «ماء الفضة» في نهاية أمره عن مخرجه أكثر مما هو عما وقع و«بلح تعلق تحت قلعة حلب» بدا تجميع مشاهد مصوّرة من أكثر من فريق عمل، فإن الأفلام التي وقفت - مثلهما - في صف المعارضة استفادت من الزمن المطوي وسعت لتقديم أعمال مدروسة حول الوضع القائم. ليس كلها بالطبع لكن فيلم «آخر رجال في حلب» لفراس فيّاض و«ذاكرة باللون الكاكي» للمخرج ألفوز طنجور، هما مثالان رائعان في كيفية تحقيق فيلم يفي بالمطلوب طرحه فكرياً من دون خلل فني يعيق تميّز العمل وانتسابه إلى السينما وليس إلى المنشور الخطابي.
في «ذاكرة باللون الكاكي» يأتي المضمون السياسي والإنساني، الذي يعيد الحرب القائمة إلى الثمانينات حين وقعت مجزرة حماة، قوياً ومدهماً لكن هذا الموقف لم يكن ليتبدى بهذا القدر من القوّة والتأثير لولا نجاح المخرج في رفع أدواته الفنية وقدرته على متابعة ما يرد على ألسنة شهود عيان بالتوازي مع شهادات بصرية صامتة وجماليات باهرة يستنتجها حتى من دكانة الواقع.
أما «آخر رجال حلب» لفراس فياض، الفيلم الذي فاز بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان صندانس، مطلع هذا العام، فإنه عرض مؤلم لرجال الدفاع المدني الذين يخوضون المخاطر خلال المعارك الطاحنة التي شهدتها مدينة حلب. سياسياً، الفيلم معاد للنظام، لكن هذا، ضمن شروط السينما، لا قيمة له (أو أن قيمته محدودة جداً ولفريق معين فقط) من دون تلك الدراية بكيفية معالجة الفيلم إبداعياً وإيصال صوره إلى المستوى المفترض بها. وهذا ما يميّزه عن أي فيلم لقطات إخبارية من تلك التي تم تحقيقها في السنوات الثلاث الأخيرة.
هو أفضل بكثير من «الخوذات البيض» الذي نال أوسكار أفضل فيلم تسجيلي قصير في فبراير (شباط) الماضي من إخراج الأجنبي أورلاندو إينسايدل. الفيلم البريطاني الذي اعتمد على أشرطة تسجيلية قام بها مصوّرون سوريون محترفون حول الموضوع نفسه. المخرج في الاستديو في دار الشركة البريطانية لم يكن عليه سوى توليف ما تسلمه من أشرطة ووضع اسمه على عمل لم يشترك عضوياً فيه. نعم يتحدث عن معاناة رجال الدفاع المدني لكن على نحو من يوزّع الأوسمة وليس من يبحث عمقاً فيما يؤلف ويصون هذه البطولات الإنسانية.

في حلب
«9 أيام: من نافذتي في حلب» لعيسى توما هو من الأفلام القليلة التي لم تكترث لموقف مؤيد أو معارض بل نقلت وضعاً يعبر عن الحصار الذي يعانيه الفرد. صحيح أن المخرج هو الفرد المعني، لكن من دون أن يشطح الخيال بعيداً بالإمكان الإدراك بسهولة أن معظم السوريين في حلب أو في سواها من قبل ومن بعد عاشوا محاصرين بين فريقين متقاتلين.
هو فيلم صغير وقصير (نال جائزة الفيلم القصير في جوائز الاتحاد الأوروبي) مصوّر بأكمله داخل الشقة التي يعيش فيها المخرج ويحمل النفس المحبوس لصاحبها. تتوقع أن يراه أحد المسلحين فيطلق صوبه رصاصة قاتلة. أو أن يصعد المسلحون إلى الشقق، وكثير منها بات خالياً من الساكنين، كما يقول عيسى، فيطرقون بابه أو يخلعونه.
لكن من حسن حظه أن أحداً لم يفعل ذلك. هذا الخطر الجاثم لا يغادر الفيلم لحظة واحدة، لأن المخرج وكاميراته في خندق واحد. هي تصوّره وهو يصوّر الآخرين من شق موارب في نافذته. على أن هذا المقدار الضئيل المتاح من زاوية التصوير ومكانه كاف لتجسيد الخطر في حين يعمل الفيلم ككل على تجسيد الحالة وبعض القتال وأصوات المعارك في عموم فحواه.
رغم حياديته، إلا أن المرء يشعر بأن الرجل لا يريد «للرجال الملتحين»، على حد قوله، أن يبقوا في ذلك المكان. يقول المخرج إنه لا يكترث من يحتل الرقعة التي يتقاتل فيها الفرقاء، لكنك تدرك أنه في نهاية الأمر يكترث.
هذا ما ينقلنا إلى فيلم آخر لا يلتصق بالنظام لكنه يعادي المقاتلين ضده في الوقت ذاته. الفيلم هو «مطر حمص» لجود سعيد. الحقيقة الدامغة هي أنه بصرف النظر عن موقف الفيلم من كل هذه القضايا المطروحة بسبب الحرب فإن الفيلم يقص الحكايات اليومية التي توفرها شخصيات بسيطة تجمعها المحنة وقد علقت في حي مهدم بين طرفي النزاع.
قسّم المخرج فيلمه إلى فصول، وفي كل فصل حكاية مرتبطة بما يسبقها أو يليها. الأولى تمهد بقصّة حب بين شاب وفتاة، وفي الثانية يتم القبض عليهما وعلى الراهب الذي قرر البقاء في المنطقة المهجورة. في الفصل الثالث يفرز الفيلم تلك الحكايات ويحدد أكثر وجهة نظر الفيلم في الأحداث الواقعة. هو ضد الإرهابيين والمتطرفين ومع ثورة بدأت سلمية ضد أخطاء في النظام الماثل كان يمكن لها أن تعالج من دون محاولة كسر رأس. في بعض نواحيه يأخذ الفيلم شكل ذكريات وفي أحد المشاهد يقول بطل الفيلم لمقاتل: «أنا الذي نزلت للشارع لأجل مستقبل أفضل لي ولك».
أكثر من مرّة نجد المخرج جود سعيد أمام تحديات فنية كبيرة. لديه فيلم عليه أن يصوغه بانضباط صحيح من بدايته وحتى نهايته في الوقت الذي على الفيلم سرد حكايات متعددة وإن كانت جميعاً تلتقي في حدود المكان. عليه أن يبث رسالة معادية للحرب، في الوقت الذي عليه ألا يكون ساذجاً في طروحاته ومدى قدرته على الاحتفاظ بواقعية الحدث وجنون الحرب.
جماليات العنف أخاذة ورهيبة في آن واحد وهي ائتلاف بين الكتابة والإخراج والتصوير في أكثر عناية ممكنة. مشهد مثل الرقص على لحن «أنا قلبي دليلي» لليلى مراد مبهر. المشاهد المختارة للمدني المختبئ خلف ساعة الميدان غير قادر على مغادرة مكمنه خوفاً من القناص المتربص، ثم مشهد مقتله وحدها تحكي حكاية. مشاهد القصف ذاتها رائعة. حقيقية. شاهدنا مثيلاً لها في كلاسيكيات عن الحرب أكثر من مرّة لكنها هنا تحاكينا على نحو قريب.
السينما العربية خارج سوريا وبعيداً عن إنتاجات لبنانية معيّنة، بقيت بعيدة باستثناء فيلم للمخرج التونسي رضا الباهي عنوانه «زهرة حلب» حققه في العام الماضي حول المرأة التي تلحق بولدها المتطوع في إحدى الفرق المتطرفة. المشكلة هنا هي أن نظرة المخرج تبقى بعيدة عن الواقع ومشغولة بخدمة الفكرة (الأم التي تحاول إنقاذ ابنها). كذلك في أن ما عال عليه المخرج في أعماله السابقة من عمق المعالجة متأثر هنا بحكاية عليها أن تداوم الانتقال من مكان لآخر، وأن تنتهي بمفاد مستمد من الموقف وليس فقط من الفكرة.