إنه أمر حتمي، ومع هذا يبدو كثير جداً من لاعبي كرة القدم غير مستعدين له. في الواقع، تعتبر نهاية مسيرة لاعب كرة قدم لحظة محورية تنطوي على تغيير هائل. أما الأسلوب الذي يختاره اللاعب للتعامل مع هذه اللحظة، فيصيغ شكل الباقي من حياته. في الواقع، يواجه كثير من اللاعبين صعوبات جمة في التأقلم مع حياتهم الجديدة بعد الاعتزال، في ظل اختفاء الروتين الذي ألفوه، من تدريبات يومية ومعدلات الأدرينالين المرتفعة أثناء المباريات ومنافسات قوية، والتفاعل مع أقرانهم داخل الفريق ومسؤولي النادي، وسماع هتافات الإعجاب من الجماهير. وبذلك، تظهر في حياة كل لاعب معتزل حالة فراغ هائلة يصبح بحاجة لملئها.
والمؤكد أن هذا تحدٍ هائل يحتاج في التعامل معه مجموعة مختلفة من المهارات عن تلك التي اعتمد عليها اللاعب داخل الملاعب. وفي الوقت الذي يفضل فيه بعض اللاعبين البقاء داخل عالم كرة القدم، من خلال العمل كمحللين رياضيين أو مدربين، فإن آخرين يحولون اهتمامهم إلى العمل الخيري، بينما يجابه آخرون مشقة كبيرة لملء فراغ حياتهم يوماً بعد يوم. وأخيراً، ثمة فئة من اللاعبين تصبح بعد الاعتزال أكثر انشغالاً عن أي وقت مضى؛ وهي الفئة التي ينتمي إليها لويس ساها.
في اليوم الذي التقيته في لندن، كان قد ألقى لتوه محاضرة في مؤسسة «إي سبورتس» (وهي علامة تجارية لشركة إلكترونيك آرتس الأميركية التي تقوم بصنع وتطوير ألعاب الفيديو الرياضية). وبعد المقابلة، كان سيتوجه لتناول العشاء مع عدد من المستثمرين، وربما المساهمين الجدد في شركته «أكسيس ستارز». وعلى مدار الأسبوعين الماضيين، كان يتنقل بمختلف أرجاء آسيا، حيث تولى إنجاز بعض الشؤون التجارية الخاصة به.
وعن حياته بعد الاعتزال، قال ساها: «اليوم، لدي وظيفة تشغل 25 ساعة في اليوم! إنه أمر صعب حقاً». ومع ذلك، ظل ساها حريصاً على إفساح مساحة لكرة القدم في حياته. ففي المساء التالي، من المقرر أن يشارك في مباراة بين النجوم المعتزلين لبرشلونة وأقرانهم من مانشستر يونايتد داخل إسبانيا. وفي اليوم التالي، سيعود إلى مدينة كان الفرنسية، مسقط رأسه. ورغم الوتيرة المحمومة لحياة ساها، فإنه يبدو سعيداً بها.
جدير بالذكر أن ساها نجح في تحقيق مسيرة كروية ناجحة للغاية، ومع ذلك كانت بصورة ما غير مشبعة تماماً. فقد شارك في صفوف فريق ميتز الفرنسي، ونيوكاسل يونايتد وفولهام ومانشستر يونايتد وإيفرتون وتوتنهام هوتسبير وسندرلاند في إنجلترا، ولاتسيو في إيطاليا. وفاز مرتين ببطولة الدوري الممتاز، ومرة ببطولة دوري أبطال أوروبا مع مانشستر يونايتد. كما شارك في 20 مباراة مع المنتخب الفرنسي، وسجل 4 أهداف.
إلا أن الإصابات المتكررة ألقت بظلالها على السنوات الأخيرة من مسيرته داخل الملاعب. وقد أجبر على الغياب عن نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2008، وتعطلت مسيرته خلال جميع الفترات التي قضاها في صفوف أندية أخرى بعد رحيله عن مانشستر يونايتد بسبب تعرضه لمشكلات بدنية. ومع ذلك، ساعدت هذه الإصابات ساها على الاستعداد للحياة فيما بعد كرة القدم. وفي أعقاب مباراة نهائي دوري أبطال أوروبا في موسكو، عندما نجح مانشستر يونايتد في الفوز على تشيلسي بركلات الترجيح، وجد ساها أخيراً سبيلاً للتعبير عن مشاعره، وقال: «كنت بحاجة للحديث، للتخلص من أحد عناصر منظومة حياتي. وبالفعل، بدأت في الكتابة حول هذا الأمر، وأفادني هذا كثيراً من الناحية العلاجية؛ لقد وجدت في هذا سبيلاً للتعامل مع ما كنت أمر به».
بعد فترة، أدرك ساها إلى أي مدى استمتع بمسألة الكتابة. وعن هذا، قال: «عندما أكتب، أشعر أنني أبدأ في استيعاب ما يدور في ذهني على الوجه الصحيح. وعندما أمارس الكتابة، أبدأ في إدراك ما إذا كان ما أشعر به صائباً أم لا. ومن المذهل كذلك أنه عندما تفقد ما كتبته، فإنك تبقى عاجزاً عن إعادة كتابته، ويبدو لك أنه ضاع إلى الأبد. في الواقع، الكتابة ترتبط بشعورك في لحظة محددة».
وبمرور الوقت، اختمرت في ذهن ساها (38 عاماً) فكرة تأليف كتاب أمل في أن ينجح في إلهام آخرين. وبالفعل، قرر تأليف كتاب عن حياة لاعب كرة القدم بوجه عام، مع توجيه نصائح للاعبين الناشئين؛ كان يرمي من ورائها إلى توجيه شقيقه الأصغر تحديداً، الذي تراوده هو الآخر أحلام وطموحات بمجال كرة القدم. وللحصول على أفضل نتيجة ممكنة، حرص ساها على الاستعانة بأكبر عدد ممكن من الأصوات المختلفة في عالم كرة القدم.
وفي خضم ذلك، تحدث ساها ليس إلى لاعبين ومدربين فحسب، وإنما كذلك إلى مسؤولين إعلاميين، بل وبعض من أفراد الجماهير المشاغبين. وبالفعل، عاش ساها على نحو أقرب إلى الكتاب المحترفين. وبمرور الوقت، اتضح أن مسألة تأليف الكتاب عملية طويلة. وفي هذا الصدد، قال: «كان التأليف أمراً مرهقاً للغاية لأنه اضطرني للقراءة كثيراً، والحصول على مذكرات، ومطاردة أشخاص، وعقد مقابلات معهم، ومحاولة استيعاب كل شيء، ثم العمل على تجميع كل هذا في وحدة متناغمة داخل الكتاب».
وقد شعر ساها بالسعادة إزاء ردود الفعل التي تلقاها بخصوص الكتاب الذي حمل عنوان «التفكير داخل الصندوق»، لكن ظلت هناك بعض الإحباطات. وعلق اللاعب على ذلك بقوله: «أشعر بالسعادة حقاً؛ عندما يدرك الناس معنى ما تكتبه، فهي تجربة مذهلة. إلا أنه رغم اطلاعي على مراجعات جيدة للكتاب، خالجني شعور بأنه لم يقدم على قراءة الكتاب الكثيرون. وأنا من جانبي شخص يتركز جل اهتمامه على النتائج النهائية. لقد كان العمل في الكتاب شاقاً، وقد ينتهي الحال بقراءته من جانب عدة آلاف فحسب، رغم أن الغالبية تخبرك بأنه كتاب جيد».
وبعد انتهائه من الكتاب، تحول ساها نحو التفكير في التوسع نحو مجالات جديدة، وأوضح: «أدركت أنني أرغب حقاً في تقديم يد العون إلى الناشئين. وعليه، كان ثمة احتمال أن أعمل وكيلاً للأعمال، وكذلك مدرباً أو مستشاراً. وكان عليّ اختيار قناة محددة للعمل من خلالها. وفي النهاية، وقع اختياري على بناء منصة رقمية، وشعرت أن هذا السبيل أقوى، ويمكن للجميع الاستفادة منه».
وأضاف اللاعب الفرنسي: «ساورني سؤال: كيف يمكنني تنفيذ فكرة الكتاب؟ لقد كان مرشداً بالفعل في بعض جوانبه. ولم يتناول الكتاب تجربتي أنا فقط، وإنما تضمن تجارب لاعبين آخرين، وهي تجارب بدت قريبة للغاية من تجربتي. في الواقع، إن (أكسيس ستارز) عبارة عن كتاب افتراضي بصورة ما».
وبالفعل، أطلق ساها «أكسيس ستارز» عام 2014. ومنذ ذلك الحين، عمل بدأب وإصرار من أجل الشركة التي ترمي لمساعدة الأفراد في تعزيز مسيرتهم المهنية. وبمقدور أي شخص، سواء لاعب كرة قدم أو موسيقي أو ممثل، الانضمام إلى الشبكة.
وفي الواقع، تحمل التجارب التي خاضها ساها إلهاماً للمشروع، حيث يمكن للمشاركين الحديث إلى أقران لهم ومستشارين حول جميع القضايا المرتبطة بمهنتهم. ومن الممكن أن يتضمن ذلك تلقي مساعدة من مدربين أو اختصاصيي علاج طبيعي، على سبيل المثال، وكذلك معاونة المشتركين على الحصول على فرص رعاية واستثمار.
وقال ساها: «لا يزال أشخاص عدة يطلبون مني النصح بصورة يومية. مثلاً، اتصل بي وكيل أعمالي ليخبرني عن لاعب كرة قدم فرنسي موهوب للغاية يرغب في القدوم إلى إنجلترا، وطلب مني تقديم النصح له بخصوص كيفية صياغة برنامج تدريبي خاص ومناسب. وبالفعل، ساعدته على الاتصال بأشخاص اعتدت العمل معهم. وبإمكان هذا النمط من اللاعبين الانضمام إلى (أكسيس ستارز)، والبحث عن مدرب شخصي له في المنطقة التي يرغبها».
أيضاً، بمقدور شركات وأفراد التواصل مع أعضاء بالشبكة، بحيث لا ينتهي المال بأكمله في يد الوكلاء. وعن ذلك، شرح ساها: «إذا ما رغبت شركة ما في تنظيم إعلان مع لاعب ما، فإنها في العادة تجري الاتصال به عبر وكيل أعماله. وقد يقول هذا الوكيل إنه يرغب في الحصول على 5 آلاف جنيه عمولة عن هذا الاتفاق، وإنه بغض النظر عن المبلغ الذي ستقدمه الشركة للاعب، فإنه لن يحرك ساكناً إلا بعد تقاضيه هذا المبلغ. وإذا رفضت الشركة، فإن اللاعب لن يعلم أبداً بأمر هذا الفرصة التي توافرت أمامه».
ومع ذلك، اعترف ساها بأن الوكلاء لا يزالون يضطلعون بدور مهم في الخلفية، لكنه أعرب عن اعتقاده بأن الاتصال الأول ينبغي أن يجري بين جهة التوظيف والعميل المحتمل، وأضاف: «هناك رياضيون على مستوى جيد للغاية حقاً، وأمامهم فرصة لتمثيل بلادهم في دورة الألعاب الأوليمبية، لكنهم يواجهون صعوبة بالغة في العثور على جهة راعية. إن ما نحاول تقديمه هنا منصة إضافية يتمكنوا خلالها من الترويج لأنفسهم، والتعرف على ما إذا كانت هناك أية شركات بمقدورها رعايتهم».
من ناحية أخرى، ورغم أن لاعبين آخرين قد يساورهم خوف شديد من اللحظة التي سيضطرون عندها إلى خلع حذائهم الرياضي للمرة الأخيرة، فإن هذا الأمر لم ينطبق على ساها. فعندما أدرك اللاعب السابق أن جسده بلغ الحد الأقصى للمجهود، سرعان ما تحول بأنظاره نحو مغامرات جديدة، لكن ساها يؤكد أن المشروعات التي خاضها كانت نتاجاً للأسلوب الذي انتهت به مسيرته، حيث قال: «من الواضح أنه حتى لو حظيت بكل الحظ الذي خلق بالعالم، ولعبت عدد مباريات يكافئ ما خاضه كريستيانو رونالدو، على سبيل المثال، ونال باستمرار عقوداً أفضل بفضل نجاحاته، لم أكن لأتمكن من التفكير في كل ذلك».
ومع هذا، يرى ساها أن مسيرته المهنية الجديدة قد تفوق في أهميتها مسيرته داخل الملاعب، حيث قال: «حتى في أحلك الظروف، كنت محظوظاً لأنني تمكنت من معاينة الصورة الأكبر، والشعور بالإثارة تجاه نشاطاتي التجارية على نحو أكبر مما شعرت به داخل المستطيل الأخضر. لقد عشقت حقاً لعب كرة القدم، وكنت أمارسها بسلاسة وكأنها مهارة غريزية بداخلي. أما ما أخوضه اليوم، فتحدٍ حقيقي. إنها عملية شاقة، لكنها في الوقت ذاته مجزية للغاية لأنها تمكنني من تقديم يد العون إلى مائة ألف شخص. حقيقة الأمر، هذا أفضل شيء فعلته في حياتي».
ويتابع: «عندما تكون داخل الملعب، تشعر بالإثارة بالتأكيد، لكن السؤال هنا: هل خلقت شيئاً قادراً على البقاء؟ لست على ثقة من ذلك. في المقابل، أعتقد أن هذا المشروع سيبقى لأن الشباب - أو حتى أطفالي إذا ما قرروا يوماً ما الاحتراف - سيستخدمونه. في الواقع، آمل حقاً في أن يدرك اللاعبون أن أمامهم فرصة لمعاونة المقربين منهم».
أيضاً، يعتمد المشروع الجديد على خبرة ساها. بيد أنه على الجانب الآخر، فإن إبقاء اللاعب السابق على المستوى ذاته من الوتيرة المحتومة لحياته حتى بعد الاعتزال خلق وضعاً عصيباً داخل المنزل. ومن ناحيته، أقر ساها أن اللاعبين الذين يحتفظون بأسلوب حياة مزدحم قد يضطرون إلى دفع ثمن مقابل ذلك، وأضاف: «أعتقد أن هذا وضع صعب للغاية بالنسبة لأي علاقة، وأعتقد أن غالبية النساء يشعرن بأن عليهن تقديم تضحيات من أجل الارتباط بلاعب، الأمر الذي يلزمهن حياة الظل بصورة ما. لذا، يصبح من الصعب للغاية أن تدرك امرأة أنه حتى بعد الاعتزال ستستمر الحياة على المنوال ذاته دونما تغيير. لقد وضعني هذا في موقف صعب لأنني لم أشأ التوقف عن وتيرة حياتي السابقة، بل وشرعت في إنشاء شركة جديدة».
وبالفعل، انفصل ساها عن زوجته، وأعرب عن اعتقاده بأنه من الشائع في أوساط لاعبي كرة القدم الانفصال عن زوجاتهم بعد الاعتزال، وقال: «أعتقد أن هذا يحدث لـ75 في المائة من لاعبي كرة القدم، ذلك أنهم ينفصلون عن زوجاتهم، ونعايش جميعنا مواقف مختلفة. وبعض الأزواج يعايشون مناخاً مختلفاً داخل المنزل، في ظل معاناة اللاعب المعتزل من الاكتئاب بعض الشيء».
ومن الواضح أن هذا الاكتئاب لا ينطبق على ساها الذي راودته فكرة تأليف كتاب عن زميله السابق بالمنتخب الفرنسي باتريس إيفرا، ثم يود الآن أن يصنع فيلم رسوم متحركة للأطفال. وعلى ما يبدو، فإنه أحياناً يكون من الأفضل أن يواجه المرء كومة من المهام والمسؤوليات عن معاناة الفراغ.
لويس ساها... من نجم محترف في ملاعب الكرة إلى أديب هاوٍ
مهاجم مانشستر يونايتد وتوتنهام السابق يرغب في ترك بصمة مميزة بعد الاعتزال
لويس ساها... من نجم محترف في ملاعب الكرة إلى أديب هاوٍ
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة