في نفق الشعر

يحدث، بل يحدث كثيراً، أن تفتح كتاباً، دراسة، رواية، مجموعة شعرية، فينهال عليك ما يدفعك إلى الإشاحة بوجهك، مما يضطرك للتوقف، لاتقاء ما ينهال من عادية ورتابة. لكن يحدث أيضاً، ويحدث قليلاً، أن تفتح الدراسة أو الرواية أو المجموعة الشعرية فينهال عليك ما يتجاوز توقعاتك، أن ينهال عليك من مجموعة قصائد شيء اسمه الشعر لا تجده كثيراً تحت عناوين كثيرة تعد به. ويكون ذلك الحدوث أكثر ندرة حين تكون المجموعة التي بين يديك أول إصدارات الشاعر. لكن ذلك ما حدث لي بالفعل حين فتحت المجموعة الشعرية الأولى لأحمد الصحيح التي أمدتني منذ العنوان بالمدخل المناسب للحديث عنها: «فتحت الباب فانهال علي العالم». مجموعة هذا الشاعر السعودي الشاب فازت بالجائزة الأولى للكتاب الأول من مهرجان بيت الشعر الثاني (دورة فوزية أبو خالد) الذي أقامته الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بفرعها بالدمام (ديسمبر (كانون الأول)، 2016).
يكفي أن تقرأ ما قدمه الشاعر الصحيّح (بتشديد الياء) بوصفه مدخلاً لمجموعته لترى كيف يرى الكتابة الشعرية، بل نشر الشعر، من حيث يبدو ذلك مغامرة تستعصي على حساب العواقب:
كان قمحاً آمناً في الحقول
كان نسيماً بارداً يلفح أناساً ينتظرون
كان دماً، وخرائط يحملها الغرباء في الطريق
هذا الذي تشرد تماماً
وصار كلامي
لذا كنت دائماً أريد أن أكتب،
لكن الشعلة المتوثبة على صهوة الفكر انطفأت.. فانتصر النفق.
هذا الكلام كان مخططاً له أن يغير أشياء كثيرة، في العلن، أن يغير العالم، كان سيعتلي «صهوة الفكر» التي انطفأت، فكانت النتيجة أن «انتصر النفق». والنفق هنا أقرب إلى أن يكون الشعر في مقابل الفكر، الفكر بما هو موقف عقلاني، مباشر وواضح، والشعر بما هو لغة خافتة، ملتفة بالمجاز ومتوارية بالإيحاء. كثير من قصائد المجموعة ستأخذنا إلى تلك الالتفافات وذلك التواري، حين نقبل دعوة الشاعر في نهاية مدخله: «هذه نافذتي مأخوذة بك أيها الخارج / هاتِ آلامك وادخل». ولن نندم.
لنأخذ مثلاً الشعرية التي تنهال من سلسلة التنويع على الكينونة (أنا كذا ولست كذا) في قصيدة بعنوان «لست الريح في المشهد» (ورد العنوان بخطأ طباعي يزول بقراءة النص). «أنا لست الصرخة في المشهد / أنا الفراغ الذي شحنته وأربكت مفاصله»، إلى أن يصل إلى تلك الصورة الأسرة: «أنا لست التلويحة في المشهد / أنا عزلة التلويحة في الهواء بعد نزول اليد»، وإلى أن يصل إلى نهاية تضج بالخيبة والانسحاب: «إني أعيش حياتي كما لو أنني أعتذر». ويشبه هذا الاعتذار، هذا الوقوف على أهبة الانسحاب، تعبير عن القلق في قصيدة أخرى: «قلق كأني حافة»، وليس على حافة. هنا نصل إلى تنويع على القلق الأشهر، قلق المتنبي (على قلق كأن الريح) ولكن على صهوة شعرية جديرة بشهرة أخرى.
من ذلك الوقوف على أهبة الانسحاب، تنهمر شعرية غامرة يزيد من جمالها أنها تستمد من هم مألوف، بل شديد الألفة، تأتي من حضور المرأة وطغيان العشق، من الوله الدائم وتفنن الشاعر في استيلاد الصور والمجازات للإيحاء بكل ذلك. وإذا كان ذلك العشق هو القاسم المشترك في مجمل ما يصدر من الشعر العربي القديم والحديث، لأسباب ليس هذا مكان الحديث عنها، فإن الموهبة الشعرية تظل تثبت المرة تلو الأخرى قدرة القصيدة، قدرة اللغة، على الولادة من جديد مع كل امرأة تطل على موهبة تصعد مراتب الجمال:
تجيئين مضمخة بكل الذي كان لولا أنه لم يكن،
مشتعلة بكل الذي كان رغم أنه كان..
إنها تأتي باحتمالات لم تتحقق، لكنها ماثلة رغم ذلك، ليست ماثلة فيها فقط وإنما «مضمخة» بها. لكن الأجمل أنها تأتي أيضاً بالذي تحقق فعلاً لكن تحققه كان قبل أن تأتي هي بارداً وعادياً إلى أن أتت فتنبهنا إلى تحققه كما ينبغي أن يكون التحقق. كأن كل الجمال يأتي للمرة الأولى، هذا ما تقوله اللغة حين تكون عادية، لكن حتى اللغة تصبح غير عادية، كأنها كانت هي الأخرى ولم نتنبه إلى ما كانته حتى تلك اللحظة التي ولد بها المجاز.
أنت التي نسيت أن تكون أقل،
ولم تقصد أن تكون بهذه الوفرة..
وقس على هذه الوفرة الشعرية الكثير مما تحمله مجموعة الصحيح.
يهيمن الشكل النثري على قصائد هذه المجموعة الوافرة، لكن كأنما أدرك الشاعر أن هناك من يترصد لتلك النثرية، سيما وهو ابن شاعر محلّق من شعراء الإيقاع، جاسم الصحيح، فضمًن المجموعة نصاً موقعاً دون أن يكون أقل تحليقاً. يقول الجزء الأخير من قصيدة «في صوتها» وبعذوبة أكاد أقول إنها صادمة:
في صوتها نبع به يغفو ضماي
وبه نهاية كل حرب
راودتني عن دماي
ما زلت أحصي كم أنا؟!
كم مرة منذ ال (أحبك) قد ولدتُ؟!
وكم ترى
كبر احتضاري في هواي؟!

لا سقف لي إلا الذي في صوتها..
في صوتها اكتملت سماي!
لكن في حين تخرج عن الهيمنة النثرية قصيدة واحدة تخرج عن الهيمنة الأنثوية بضع قصائد يلامس فيها الشاعر هماً جماعياً وكأنه بعد أن أثبت قدراته على ضبط الإيقاع يثبت أيضاً أنه مطارد بهموم غير هم العشق. من تلك قصيدة «في وداع مدينة (بورتلاند) الأميركية» حيث كان الشاعر يدرس، وأخرى حول فتاة يابانية تعرضت للاغتصاب، وثالثة حول هموم الحرب بعنوان «الحرب تعود إلى المنزل». لكن ما سيستوقف القارئ العربي أكثر من غيره في ظني هي قصيدة «الربيع» التي يقول تنويه تحت عنوانها إنه «لا علاقة - من بعيد - للربيع في هذا النص بالربيع العربي». وسيكفي هذا ليجعل النص على علاقة - من قريب - بذات الربيع، «والربيع فصل لم يحتمل الموقف فاندلع اللون على رماد الجرح.. / فصل يعرف كيف يجمع النغمة / إذا انزلقت من فوق القيثارة وتاهت في الدرب».
أخيراً، كيف لقراءة سريعة أن تجعل ربيع الشعر يحتشد في صفحتين من النثر البارد؟ كل ما يمكن فعله هو الإيحاء أيضاً ودعوة القارئ للمضي إلى المجموعة نفسها، لكن لعله قبل مضيه يأخذ معه توصيف الشاعر لنصوصه في «ومضات»:
العصافير التي طارت من فمي،
حين نطقت اسمكِ
اشتراها غرباء
ووضعوها في قفص يشبه غيابك..
إنها تغرد الآن عندما تجوع فقط
فيمنحها الغرباء بعض الحنين.
سنمنحها نحن الغرباء ما يمكننا من الحنين إلى الشعر ومن الأمنيات بأن تأتي المجموعات الأخرى لأحمد غير محتاجة لأن تثبت حاجة القصائد لتنويع شعريتها أو همومها، أن تأتي كما يريدها الشعر لا كما يريدها بعضنا.