سيد مدينة الحاكمية.. أوراق محمد قطب (2): محمد قطب يواصل مشوار أخيه في تكفير المجتمعات الإسلامية

اتفق مع شكري مصطفى وكفرا جمال عبد الناصر.. ورفض كتاب «دعاة لا قضاة»

سيد قطب
سيد قطب
TT

سيد مدينة الحاكمية.. أوراق محمد قطب (2): محمد قطب يواصل مشوار أخيه في تكفير المجتمعات الإسلامية

سيد قطب
سيد قطب

في كتابه الشهير «معالم في الطريق»، يقسم سيد قطب المجتمعات إلى نوعين: «مجتمع إسلامي، ومجتمع جاهلي»... فالمجتمع الإسلامي بنظره هو «المجتمع الذي يطبق فيه الإسلام عقيدة وعبادة، وشريعة ونظاما، وخلقا، وسلوكا.. أما المجتمع الجاهلي، فهو الذي لا يطبق فيه الإسلام ولا تحكمه عقيدته ولا تصوراته وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه».
ولكن.. يستدرك سيد قطب موضحا أن المجتمع الإسلامي ليس هو الذي يضم أناسا يسمون أنفسهم «مسلمين» بينما شريعة الإسلام ليست هي قانون البلد، «وإن صلى وصام وحج البيت الحرام.. فليس هذا هو المجتمع الإسلامي الذي يبتدع لنفسه إسلاما من عنده، ويسميه (الإسلام المتطور)».
في المقابل، يفصل سيد قطب طبيعة المجتمع الجاهلي: «لا يشترط بالضرورة أن يكون أهله ينكرون وجود الله.. فالمجتمع الجاهلي هو الذي يبيح للناس أن يتعبدوا في المساجد، ولكن يحرم عليهم أن يطالبوا بتحكيم الشريعة في حياتهم».
نتيجة لذلك، يقرر سيد قطب في كتابه الشهير الآخر «في ظلال القرآن» «إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة، ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله، والفقه الإسلامي».. «فلقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين، فارتدت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان.. البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات (لا إله إلا الله) بلا مدلول ولا واقع. وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة؛ لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعد ما تبين لهم الهدى، ومن بعد أن كانوا في دين الله».
تدور هذه الأفكار التي بثها سيد قطب في مجمل كتبه، وتبعه بعدها محمد قطب حول نظرية «الحاكمية» التي أصبحت منهجا فكريا لدى مجمل التيارات والحركات الإسلامية الأصولية والجهادية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
يعد أبو الأعلى المودودي - الأصولي الهندي ثم الباكستاني، وهو الأب المؤسس لأفكار الإسلام السياسي - أول من أطلق نظرية الحاكمية وأصَّلها، ثم انتقلت بعد ذلك لأبرز تلاميذه سيد قطب، وبعدها تشكلت منهجا أساسا في المدرسة القطبية.
عندما أسس المودودي «الجماعة الإسلامية» في لاهور عام 1941، وضع كتابه التأسيسي «المصطلحات الأربعة في القرآن: الإله والرب والدين والعبادة». ونشر فصوله بعد ذلك، تباعا، في مجلة «ترجمان القرآن»، وضمن نصوصه يقرر المودودي فكرة الانفصال عن «المجتمع الجاهلي» من خلال تأسيس «جماعة مؤمنة» تعيد المجتمع إلى مساره الصحيح، حيث يقول: «لا بد من وجود جماعة صادقة في دعوتها إلى الله، جماعة تقطع كل صلاتها بكل شيء سوى الله وطريقه، جماعة تتحمل السجن والتعذيب والمصادرة، وتلفيق الاتهامات، وحياكة الأكاذيب، وتقوى على الجوع والبطش والحرمان والتشريد، وربما القتل والإعدام، جماعة تبذل الأرواح رخيصة، وتتنازل عن الأموال بالرضا والخيار».

* التمرد الشامل لتحقيق أهداف الحركة

* يؤكد المودودي أن الطريق في سبيل الوصول إلى تحقيق «توحيد الحاكمية»، لا بد أن تستخدم من أجله كل الوسائل حتى «العنف»، لأن «الإسلام يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها، ولا يتحرج في استخدام القوة الحربية لذلك، وهو لا يريد بهذه الحملة أن يكره من يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته، والإيمان بمبادئ الإسلام، إنما يريد أن ينتزع زمام الأمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة، حتى يستتب الأمر لحملة لواء الحق، وعليه فإن الإسلام ليس له - من هذه الوجهة - دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود ويدافع عنها، وإنما يملك مبادئ وأصولا يذب عنها، ويستميت في الدفاع عنها، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله».
هذه «الجماعة المؤمنة المقاتلة» كانت هي القاعدة الصلبة في مشروع سيد قطب كما في كتابه «معالم في الطريق»، والحل الذي قدمه محمد قطب كما في كتابه «واقعنا المعاصر». ففي فصل بعنوان «هذا هو الطريق» يستلهم قطب قصة أصحاب الأخدود: «فهي قصة فتية آمنت بربها واستعلت بحقيقة إيمانها ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق الإنسان وكرامته، فأصبحوا يتسلون بآلام هؤلاء الفتية ويتلهون بمنظرهم أثناء التعذيب»، في إسقاط مباشر على تلك الفترة التي تعرضت فيها جماعة الإخوان المسلمين لحملة من الاعتقالات، بعد توجيه اتهامات لها بتدبير محاولات انقلابية في مصر عام 1954؛ لذلك يقدم قطب الحل في أنه «لا بد من ثورة شاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور.. ذلك الحكم الذي مرد الأمر فيه للبشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر». وامتدادا لفكرة المودودي في الثورة الشاملة، يرسم قطب الطريق المفصل لهذه الثورة، التي لن تكون فقط بالبيان والحجة واللسان، «وإلا فما كان أيسره من عمل لو كان كذلك».. لكن هذه الثورة الشاملة على الأنظمة تبدأ من خلال «إعلان حركي واقعي»، «يتخذ شكل (الحركة) إلى جانب (البيان) ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل متكافئة لكل جوانبه». هذه الحركة التي تسعى لتحقيق الحاكمية تقوم على المنهج الحركي المتدرج، حيث تفضي كل خطوة إلى الأخرى، ثم إلى تحقيق الهدف الأخير: «فهي حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها، فالحركة لا تقابل الواقع بنظريات متجمدة»، كما يقرر ذلك سيد قطب في فصل بعنوان «الجهاد في سبيل الله» ضمن كتابه «معالم في الطريق».

* التدمير لـ«جاهلية» القرن العشرين

* امتدادا لهذه المدرسة الغائرة الأثر في فكر الحركات الأصولية والجهادية، جاء محمد قطب واضعا عددا من المؤلفات التي تقرر هذا المبدأ بوضوح ولا مواربة، دار في أفكار أخيه سيد نفسها التي أسسها قبلا أبو الأعلى المودودي.
في كتابه «جاهلية القرن العشرين»، يقرر محمد قطب أن البشرية «جمعاء» تعيش في جاهلية شاملة: «فالطاغوت الحاكم في الأرض وصل لحد حاسم، وانقلب الخير حسيرا لا يملك أمرا في ظل الطاغوت.. وقد اقتربت تدخلات الإرادة الإلهية الحاسمة، فالناس يختارون لأنفسهم إما التدمير الشامل إن ظلوا فيما هم فيه من شرود عن منهج الحق، وإما الهدي إلى دين الله.. فلا بد من إفراد الحاكمية لله».
ينتقل محمد قطب مفصلا الحديث نحو حال المجتمعات الإسلامية: «تلك الجاهليات التي تقول إنها تعرف الله، وتظن أنها تؤدي العبادة الحقة لله.. كل هذه الجاهليات تجادل في الأمر وتظن أنها على حق، لكن كيف يعقل، وكيف يعبدون الله - في زعمهم - وهم يأخذون نظام حياتهم من غير الله».
في الكتاب عينه، يفصل محمد قطب الحديث أكثر عن واقع «الأمة المسلمة»، مبينا أنها انحرفت كثيرا، في اطراد وتوافق تام مع أفكار أخيه سيد حتى في طريقة التعبير واختيار الألفاظ، حيث يقرر أن المجتمعات الإسلامية قد «أدركتها بالتدريج جهالة الجاهلية، ففصلت العقيدة عن الشريعة، وأخذت الدين عقيدة مستسرة في القلب منقطعة عن الواقع، بينما الواقع يحكمه منهج الله، لكن اليوم لم يعد دين الله هو المحكم في واقع الأمة الإسلامية ومن ثم لم تعد أمة مسلمة، حتى وإن كانت لا تزال تتسمى بأبناء المسلمين وتصلي أحيانا وتصوم»!
يجيب محمد قطب: «قد انحلت أخلاقها، فلم تعد تصدق، ولا تخلص، ولا تستقيم في المعاملة، ولا تقوم بينها روابط الإنسان.. ثم زادت فانزلقت في تيار الجنس الجارف، وفي مصائد اليهود... وبذلك خرجت عن كل الإسلام».
هذه القضية في الموقف من المجتمعات الإسلامية ما زالت تلاحق محمد قطب في كل كتاب، وحين أقام في السعودية، وأصدر كتابه «واقعنا المعاصر» منتصف الثمانينات، الذي كان قد حمل رسائل إلى شباب السعودية والخليج عموما، طرح هذه القضية مجددا تحت فصل بعنوان «قضية الحكم على الناس».. أولئك الناس الذين لم ينضموا إلى صفوف الحركة، ويصبحوا من أفراد «القاعدة الصلبة التي تتلقى الإعداد والتربية»: «هل نحكم عليهم بأنهم مسلمون أم كفار؟».
محمد قطب الذي لم يتوان عن إطلاق وصف الجاهلية على الواقع المعاصر بأسره (أنظمة ومجتمعات ومناهج ومؤسسات... إلخ).. وجد نفسه مضطرا لطرح هذا التساؤل والإجابة عنه، حيث يقول: «حول هذه القضية ذهب أناس حد التطرف من الجهتين، بين من يقول إن الأصل في الناس الإسلام ما داموا يقولون لا إله إلا الله.. وبين من يقول بأن الأصل في الناس الكفر ما لم يثبت العكس.. وكلا الفريقين متطرفان، فالأولون يحكمون على الناس بالنية وحدها دون العمل، والآخرون يحكمون على العمل وحده بصرف النظر عن النية».
حاول قطب الابتعاد عن المواجهة المباشرة للسؤال، مؤكدا أن «قضيتنا الأولى والكبرى ليست الحكم على الناس، وإنما قضيتنا هي تعليمهم حقيقة الإسلام، فلا ينبغي أن تشغلنا هذه القضية أصلا، ولا أن نجعلها محور ارتكازنا في الدعوة.. فالأولى أن ننصرف إلى تعليم الناس ما جهلوه بدلا من الحكم عليهم».
استطرد قطب في التفصيل، ووضع المقدمات قبل الوصول إلى إجابة تفصيلية حول هذا السؤال الحساس، لكنه في الأخير وصل إلى نتيجة بعد أن «تدبر خط الانحراف الطويل والغزو الفكري الذي طال مجتمعات العالم الإسلامي»، قائلا: «إن الجواب الذي يحسم هذه القضية حسما كاملا، هو أن من وصلته دعوة الحركة الإسلامية فأبى وأصر - بعد البيان والتعليم - فهو الكافر بلا شبهة، وأما من أجاب الدعوة فهو المسلم بلا شبهة»!!
بهذا الجواب يقارب محمد قطب أفكار شكري مصطفى مؤسس «جماعة التكفير والهجرة» التي تؤمن بقاعدة «الوقف والتبين»، التي تقوم على اعتبار مبدأ التوقف في الحكم على أي مسلم ليس عضوا في الجماعة (جماعة المسلمين، كما يسمونها) فلا يحكمون له بكفر أو إسلام حتى يتبين كفره من إيمانه، وهذا التبين يكون عبر عرض فكر الجماعة عليه، فإن وافق وانضم إليهم صار مسلما، وإن رفض حكموا بكفره.

* الإصرار على تكفير عبد الناصر

* كان هذا الموقف الصريح بتكفير المجتمعات الإسلامية هو السائد بين كوادر جماعة الإخوان، خصوصا المعتقلين في السجون إبان الفترة الناصرية. وكانت من أبرز التهم الموجهة لأعضاء الإخوان هي قضية تكفير المسلمين، المنبثقة من أفكار سيد قطب وكتابه «معالم في الطريق». في تلك الحموة المستعرة في العلاقة بين الإخوان والسلطة، صدر كتاب مثير منسوب إلى مرشد عام الجماعة المستشار حسن الهضيبي بعنوان «دعاة لا قضاة»، رد فيه بقوة على أفكار سيد قطب التي «لا تمثل الإسلام الصحيح». يقول الناشر في مقدمة الكتاب: «لقد كان مما ابتلي به الإخوان في سجونهم ومعتقلاتهم ما أظهره البعض من رأي بتكفير المسلمين أو التشكيك في حقيقة إسلامهم وإيمانهم. ولقد سارع الإخوان - رغم قسوة سجنهم ومعتقلاتهم - إلى تصحيح هذا الفهم، لا رهبة من أحد ولا زلفى لأحد، وقال مرشدهم الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي ردا على تلك الدعوى، كلمته الجامعة التي حددت طريق الإخوان المسلمين وعبرت عن منهجهم وصورت مهمتهم (نحن دعاة ولسنا قضاة)».
اعترض الهضيبي على أفكار المودودي، وناقش مصطلح «الجاهلية»، وشدد على خطورة التكفير، ورد على مجمل أفكار سيد قطب، من دون أن يسميه، في طرح غريب عن السائد لدى جماعة الإخوان المسلمين.
لكن رغم الشهادات التي تؤكد أن الهضيبي لم يكتب «دعاة لا قضاة»، وإنما كتبته مجموعة من علماء الأزهر بتنسيق من السلطات، فإن من أبرز من اعترضوا على الكتاب ورفضوه في السجن كان محمد قطب، وشكري مصطفى، حيث رفض الاثنان الكتاب، وأصرا على تكفير جمال عبد الناصر، وفقا لما أورده الباحث السعودي علي العميم نقلا عن اللواء فؤاد علام - وكيل مباحث أمن الدولة المصرية الأسبق - في دراسة نشرتها مجلة «المجلة» في ديسمبر (كانون الأول) 2012 بعنوان «هل ألف المستشار حسن الهضيبي (دعاة لا قضاة)؟ بحث في كتاب مغموز النسب!».

* «الحكام ليسوا مسلمين»

* هذا الأمر يلفت إلى قضية مهمة في تاريخ الجماعة، وهي مسألة انفصال المدرسة البنائية عن القطبية، حيث تصف الأولى الثانية بأنها متشددة وتكفيرية، خالفت تعاليم منهج «الإمام» حسن البنا، وكان من أبرزهم يوسف القرضاوي الذي انتقد أفكار سيد واصفا إياها بأنها «مخالفة لمنهج الجماعة، وتؤسس للعنف».
لكن في حوار أجراه كمال حبيب من مكة، ونشره الموقع القطري «إسلام ويب» في يوليو (تموز) 2007، أكد محمد قطب أنه لا يوجد اختلاف منهجي أو فكري بين حسن البنا وسيد قطب. وبحسب رأيه فإن «فكر سيد قطب هو الامتداد الحقيقي لفكر حسن البنا؛ فحسن البنا في رسالة التعاليم يقول: (ولا نكفر مسلما بذنب متى نطق بالشهادتين وعمل بمقتضاها)، وسيد قطب يتحدث عن قيد أو شرط (وعمل بمقتضاها)».
يروي محمد قطب في الحوار عينه عن تحول مهم في حياة حسن البنا لم ينتبه له أبناء الجماعة أو أهملوه، حسب قوله؛ ففي «عام 1948 حدث وعي جديد عند حسن البنا، تمثل في أن الحكام ليسوا مسلمين إذا لم يحكِّموا شريعة الله، وأتباعه الذين جاءوا من بعده، إما أنهم لم يدركوا هذا الوعي الجديد في خط تفكيره، أو أهملوه عن قصد».
التحول نفسه حصل أيضا عند سيد قطب، لكنه انتقل وطال الجماهير هذه المرة، كطبيعة الجماعات التكفيرية، حيث تتوسع دائرة التكفير كل مرة شيئا فشيئا حتى تشمل الجميع، يضيف محمد قطب قائلا: «أما سيد فالتحول الفكري نشأ عنده بعد مذبحة 1945؛ فعبد الناصر ذبح الإخوان في السجون، والجماهير كانت تصفق له». وتساءل: «هل لو كانت هذه الجماهير تملك الوعي كانت ستصفق للطاغية؟ وتناقش سيد في هذا الأمر مع الشيخ محمد هواش، وانتهي الاثنان إلى أن هذه الجماهير لو كانت تعلم حقيقة (لا إله إلا الله) ما كانت صفقت للطاغية، من هنا يجب أن تبدأ الدعوة من كلمة التوحيد».
استعجال مواجهة السلطة
انتقد محمد قطب أعمال الجماعة الإسلامية في مصر، التي انتهجت العنف في مواجهة السلطة، لم يكن انتقاده موجها لأفكارهم، بل كان يرى في تصرف أبناء الجماعة خطأ «حركيا» يتسم بالاستعجال في مواجهة السلطة قبل الإعداد الكافي والقدرة.
في الحوار ذاته، قال قطب معلقا حول مراجعات قيادات الجماعة الإسلامية: «نبهت أكثر من مرة إلى خطر الصدام مع الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم العربي، قبل القدرة عليه، وقبل أن يفهم الناس المحكومون بهذه الأنظمة معنى كلمة التوحيد وضرورة الحكم بما أنزل الله، ودليلي على ذلك قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)؛ فقيادات الجماعة الإسلامية كانت تفتقد إلى الوعي والخبرة».. الخبرة في كيفية مواجهة الأنظمة السياسية التي يجب التهيئة لها عبر «فترة طويلة من الإعداد والتربية»!
من الشغف بفرويد.. إلى الخروج من «ظلمات التيه»!
كان كتابه «الإنسان بين المادية والإسلام» علامة فارقة في حياته. يروي في المقدمة أن «هذا الكتاب هو أول كتبي، ومن أحبها إلي!» فهو يمثل بالنسبة لديه «خط الاهتداء إلى الإسلام»، كما يقول.
يكشف قطب عن عدد من التحولات التي غيرت طريقة تفكيره، وجعلته يعدل وينقح الكتاب في طبعته الرابعة 1977، يقول: «إن مراجعة حقيقية للكتاب منذ كتبته أول مرة عام 1951، وجدت أن هذه المدة المتطاولة من الزمن قد فعلت فعلها، ولا شك في طريقة تفكيري وفي موقفي من بعض قضايا الكتاب.. لقد وجدت مثلا أني أعطيت فرويد - والتفكير الغربي بعامة - أكثر مما ينبغي من (التوقير العلمي)، حيث كنت في صغري شديد الإعجاب بفرويد إلى حد الفتنة.. لكن التفكير الغربي - بما فيه فرويد بالذات - لا يستحق كل هذا التوقير، ولا العناية بتفنيده، وأرى اليوم بعد زيادة خبرتي بانحرافات الفكر الغربي وبمخططات الإفساد التي تخطط لإفساد البشرية، أن ذلك الفكر لا بد أن يناقش - إذا لزم الأمر - لكن من دون الحفاوة والاحتفال الذي كان قبل عشرين سنة من الزمان».
بعد هذا الكتاب «المنعطف».. أصدر محمد قطب 36 كتابا ومؤلفا، يصب معظمها في سياق واحد يهاجم الحضارة الغربية «الشيطانية»، التي تدعمها حملة «صليبية صهيونية عالمية».
تولت «دار الشروق» المصرية طباعة مجمل كتبه، وكان من أبرزها «شبهات حول الإسلام»، «النفس والمجتمع»، «معركة التقاليد»، «جاهلية القرن العشرين»، «هل نحن مسلمون؟»، «مذاهب فكرية معاصرة»، «دراسات قرآنية»، «كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟»، «الجهاد الأفغاني ودلالاته»، «دروس من محنة البوسنة والهرسك».
كما صدرت له مؤلفات عدة من دور نشر سعودية من بينها «دار الوطن» بالرياض التي نشرت له كتاب «هلم نخرج من ظلمات التيه»، و«العلمانيون والإسلام». كما نشرت له مؤسسة المدينة للصحافة والنشر بجدة الطبعة الأولى لكتابه الشهير «واقعنا المعاصر».

* في الحلقة المقبلة:
* محمد قطب.. جمعته علاقة دافئة بقطر والقرضاوي عرض عليه اللجوء



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.