دكتوراه الهامش... حين تنحني الجامعات

شدت انتباهي معلومة وضعها أستاذ جامعي من دولة عربية شمال أفريقية على صفحته في «فيسبوك» تقول إن قسم اللغة العربية في الجامعة التي يعمل بها ذلك الأستاذ منح درجة الدكتوراه في سنة واحدة لستين (60) طالباً. ولست أدري إلى أي حد يمكن القول بأن ذلك الرقم الكبير هو ما تفتخر به جامعات عربية أخرى، لكني لن أستغرب أن يكون ذلك الرقم ليس فلكياً تماماً، كما تخيلت لأول وهلة، لو وضع في سياق التعليم الجامعي العربي بشكل عام، لا سيما فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية واللغة العربية تحديداً، فلن تكون تلك الدولة الشمال أفريقية بدعاً في ذلك، لأن انكباب الطلاب على ذلك الفرع من العلوم مشهود في كل مكان من الوطن العربي ليس بالتأكيد نتيجة لحب الجميع للجوانب الإنسانية من المعرفة وإنما لأنها الأسهل، أو التي صارت أسهل، من ناحية ولأن درجات معظم أولئك الطلاب لا تؤهلهم للانتظام في تخصصات أعلى مكانة اجتماعية وأكثر إشراقاً من حيث المستقبل المهني.
لكن ستين طالباً يحصلون على الدكتوراه في اللغة العربية في سنة واحدة يظل رقماً مهولاً بأي مقياس ننظر به إليه. كم عدد الأساتذة الذين أشرفوا على أولئك الطلاب؟ وكم هو عدد اللجان التي ناقشت أطروحاتهم؟ وكم احتاج كل ذلك إلى متابعة علمية وإدارية من الجهات المختصة في الجامعة المعنية؟ ثم، من ناحية أخرى، كم هي الموضوعات المبتكرة التي استطاع أولئك الطلاب وأساتذتهم العثور عليها؟ أي تراكم إبداعي ومنهجي ومعرفي يا ترى كان حصيلة كل ذلك؟ لن أستبعد بالطبع أن تتميز بعض الأطروحات التي يضمها ذلك الخضم وأن تكون إضافات ممتازة لمعرفتنا باللغة العربية وآدابها، لكن ككل الشؤون الإنسانية يصعب تخيل أن يطغى الجيد على العادي أو الرديء. كيف يمكن إنتاج ستين أطروحة دكتوراه في موضوعات مهمة وعلى مستوى عالٍ من الإتقان؟ ذلك فوق طاقة أعظم الجامعات في العالم بكل تأكيد. أقول ذلك بعد عقود من معايشة التعليم الجامعي طالباً ثم إدارياً وأستاذاً، بعد الإشراف على عدد من الرسائل في الماجستير والدكتوراه ومناقشة عدد منها لن يصل في كل الحالات إلى نصف ما تخرج في سنة واحدة من قسم واحد من جامعة واحدة كالتي أشرت إليها. نعم قد يكون ذلك عجزاً أو ضعفاً فردياً، لكن لو نظرنا في حال الدراسات المتعلقة باللغة العربية، اللغة والأدب معاً، كما تتمثل في بعض الرسائل والأبحاث والكتب التي تنشر لوجدنا أن المسألة تتجاوز الضعف الفردي إلى الضعف المؤسسي وضعف التلقي النقدي لكثير مما يكتب وينشر.
قبل نحو سبع سنوات تقريباً نشر أحد أبرز نقاد بريطانيا ومفكريها، تيري إيغلتون، مقالة يرثي فيها الجامعات البريطانية بوصفها مراكز للفكر النقدي، أو الفكر الذي ينقد السائد من التفكير ويناقش ما استقر من الثوابت، يرثي تراجعها عن مراكزها المفترضة. ذلك في بريطانيا، أحد أهم مراكز الحضارة الغربية المعاصرة، فكيف بالوضع في بلاد تتلقى من بريطانيا وغيرها طرائق التفكير وأساليب التعلم والنقاش! العلوم الإنسانية هي المصدات المفترضة للتفكير حين يصير ببغائياً مكرراً وفاقداً للحيوية والنمو. وهي لا تفعل ذلك إلا بقدرات الأفراد وقوة المؤسسات الجامعية تحديداً من حيث إنها التي تقود التعليم بشكل عام وتنتج الفكر بألوانه المختلفة. فإذا كانت العلوم التطبيقية أو البحتة تتطور بدراسة الطبيعة فإن المجتمعات تتطور بدراسة الإنسان، وهذا هو دور العلوم الإنسانية ابتداءً باللغة وانتهاء بالاجتماع والنفس والسياسة والإدارة والاقتصاد وغيرها مما تواضعنا على تسميته علوماً إنسانية وإدارية.
حين تتواضع القيم الجامعية في دراسة الإنسان لغته وأدبه وتقبل بالعادي مادة للأبحاث ومصدراً للمعرفة فإنها تتنازل عن الفكر النقدي والمعايير الرفيعة إما تسهيلاً للأفراد أو تماشيا مع سياسات تعليمية متواطئة مع مصالح فئوية وآنية. ذلك التواضع اتضح مؤخراً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، حين دأبت بعض الجامعات العربية على منح درجتي الماجستير والدكتوراه في دراسة كتاب محدودي القيمة الأدبية، كتاب عاديين سواء من الدول التي تنتمي تلك الجامعات إليها أو من دول غنية، وسأكون أكثر تحديداً وأقول دول خليجية. حدث ذلك في الأردن وفي مصر وفي الجزائر وربما في غيرها، والأخبار تملأ الصحف. لا أقول هذا تقليلاً من قيمة الكتاب الشخصية أو حتى قيمة بعض ما يكتبون، فمنه ما يستحق القراءة وربما الكتابة عنه، لكن تخصيص الرسائل العلمية لأعمالهم أمر آخر، أمر من شأنه الإخلال بالقيم العلمية والنقدية وهبوط بالفكر والأدب إلى مستوى متدنٍ.
إن رسائل الدكتوراه بشكل خاص أعمال تعد في أعلى قائمة النشاط الأكاديمي سواء من حيث أهمية الموضوعات أو أهمية المناهج والإجراءات البحثية. هي خلاصة ما تنتجه الجامعة وتضيفه للمعرفة على مستوى التعليم (أبحاث أعضاء هيئة التدريس أمر آخر). لذلك تهتز قيمة الجامعة وقيمة التحصيل والرسائل المتحققة من ذلك التحصيل حين تمنح درجة الدكتوراه في أعمال روائي أو شاعر لم تكتب عنه مقالة صحافية، ناهيك عن بحث أو كتاب. فماذا لدى ذلك الشاعر لينفق طالب في دراسة أعماله سنتين أو ثلاثاً أو أكثر ثم يتخرج «دكتوراً»! أي قيم نقدية اكتسبها ذلك الطالب وأي ذائقة، وما الذي سيشيعه بين طلابه حين ينخرط في سلك التدريس! إنه وضع بائس حقاً ومؤشر انحدار مؤلم على وضع الثقافة العربية العالمة في إحدى منصاتها الكبرى: الجامعات.