«لامنتمي» كولن ولسون بعد واحد وستين عاماً

كان مجرد خطفة برق عابرة سرعان ما انطفأت

كولن ولسون بداية شبابه
كولن ولسون بداية شبابه
TT

«لامنتمي» كولن ولسون بعد واحد وستين عاماً

كولن ولسون بداية شبابه
كولن ولسون بداية شبابه

«اللامنتمي» هل تتذكرونه؟ إنه الكتاب الذي صدر عام 1956 لمؤلف لم يكن وقتها قد أكمل الخامسة والعشرين. وبين عشية وضحاها غدا مؤلف الكتاب - الأديب الإنجليزي كولن ولسون - نجما يكسف بنوره غيره من الأدباء الأكبر سنا والأرسخ قدما. وواصل ولسون مسيرته بعد ذلك بمحاولة إقامة «وجودية جديدة» ترتوي من فلسفات برجسون وبرناردشو التفاؤلية وتنبني على دراسته لظاهرة الاغتراب في الأدب الحديث، هذا إلى جانب رواياته، وكتاباته عن أصول الدافع الجنسي وعلم الجريمة والخيال العلمي وظواهر ما وراء الطبيعة والحياة بعد الموت، وسيرته الذاتية الصادرة في 2004 تحت عنوان «الحلم لغرض» وهي سيرة ممتعة تمتاز بالصراحة.
لكن هذا اللمعان لم يدم - وا أسفاه - طويلا. فقد نظر النقاد الأكاديميون منذ البداية إلى ولسون على أنه هاو لا محترف. إنه جوال بلا منهج في حقل الأدب يقطف زهرة من هنا أو يقتلع شوكة من هناك. ولكنه يفتقر إلى الاتساق المنهجي ولا يملك الصرامة الفكرية اللازمة لإقامة أي بناء عقلي. هكذا زالت تدريجيا الهالة التي أحاطت باسمه وانفجرت الفقاعة. لم يعد له ذكر في تواريخ الأدب المعتمدة وغدا كتاب «اللامنتمي» مجرد خطفة برق عابرة سرعان ما انطفأت أو هو واحد من أكثر الكتب مبيعا في زمنه ولكنه اليوم لا يحمل وزنا كبيرا لا فكريا ولا إبداعيا.
من المألوف في تاريخ الأدب أن تمر سمعة أي أديب بفترات ازدهار وفترات انحسار. لكن المصير الذي حاق بكولن ولسون كان مصيرا قاسيا حقا. أتراه يستحق هذا الإهمال من النقاد الجادين؟ لئن كان الجمهور القارئ قد بالغ في قيمته ابتداء فإن النقاد في تقديري قد بالغوا أيضا في إهماله. إنه يمثل لحظة في تاريخ الوعي والحساسية. لحظة مرت حقا ولكنها كانت لحظة صادقة وتعبيرا جاء في أوانه لكي يعيد إلى الذاكرة الثقافية أدباء وفنانين مغتربين مثل الروائي دوستويفسكي والرسام فان جوخ وراقص الباليه الروسي نغنسكي والمغامر لورنس العرب وغيرهم.
وفي مناسبة مرور ستين عاما على صدور «اللامنتمي» أصدرت دار النشر الأميركية تار شربريجي خلال العام الماضي (2016) كتابا في أربعمائة صفحة عنوانه «ما وراء الإنسان الآلي: حياة كولن ولسون وأعماله» من تأليف جاري لاشمان، كما أعادت الدار إصدار كتاب «اللامنتمي» في طبعة ورقية وذلك في محاولة مزدوجة لإعادة ولسون إلى دائرة النور بعد أن انقضت فترة زمنية كافية لتقييم إنجازه دون تهويل ولا تهوين.
لكن من الحق أن نقول إن كتاب لاشمان (وهو موجه إلى القارئ الأميركي أساسا) يبالغ في تقدير قيمة ولسون وكأنه أحد القديسين ويرسم له صورة بطولية وهو يقاوم ظروفه المادية الصعبة (كان أبواه من الطبقة العاملة. ولم يتم ولسون دراسته إذ ترك المدرسة في سن السادسة عشرة وامتهن عدة مهن ثم إذا به بعد سنوات قليلة يخرج كتابا بيع منه خمسة آلاف نسخة في يوم واحد وأشاد به مراجعو الكتب - مثل سيريل كونولي - في الصحافة الأدبية الإنجليزية). وكان ولسون قد قال عن كتابه «اللامنتمي»: «لقد كان ينصب خارجا مني مثل حمم بركان منصهرة. كنت أكتب عن نفسي وأبصر نفسي في مرايا فان جوخ ونغنسكي ونيتشه وت.ا لورنس». عد ولسون من «الشباب الغاضب» في إنجلترا منتصف خمسينات القرن الماضي جنبا إلى جنب مع جون أوزبورن وكنغزلي إيمس وآلان سليتو وجون برين وغيرهم. ويقول عنه لاشمان: «لقد كان قادرا على أن يتشرب من أي كتاب مادة تفوق ما يستطيع أغلب الدارسين أن يتشربوه في حياة كاملة». وعلى مر السنين أخرج ولسون قرابة مائة كتاب ولكن ذلك لم يشفع له في نظر نقاد الأدب وأقرانه من الأدباء بل ولا الجمهور العادي الذي انصرف عنه تدريجيا (بدأ تدهور سمعته منذ أصدر كتابه الثاني «الدين والمتمرد» في 1958). وبعد أن كانت كتبه تدرس في الجامعات (خاصة الجامعات الأميركية) على أنها أدب جاد ذو قيمة باقية أصبحت الآن مهملة يعلوها التراب ترقد في طبعات ورقية رخيصة على أرفف السوبر ماركت ومحطات السكة الحديدية.
كيف نفسر هذا الانقلاب الحاد؟ لقد كتب فيل بيكر مقالة في «ملحق التايمز الأدبي» 17 فبراير (شباط) 2107 يقول فيها إن ولسون حفر قبره بيده حين راح يصدر أحكاما طائشة غير مسؤولة من قبيل قوله إن شكسبير أيقونة الأدب الإنجليزي «كان ذا عقل من الدرجة الثانية بصورة مطلقة مثل روائية أنثى» (في ضربة واحدة أغضب النقاد والنساء). وقال عن صموئيل بكيت وهو أعظم كتاب المسرح الإنجليزي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية: «أي ترهات! هذا الآيرلندي الغبي الذي يتجول قائلا إن الحياة ليست جديرة بأن نحياها؟». ونصب نفسه حكما على فلسفات مفكرين ونقاد كبار مثل سارتر الوجودي ودريدا التفكيكي ورولان بارت السميوطيقي (علم العلامات). أضف إلى ذلك غروره المسرف فحين نشر يومياته في جريدة «ذا ديلي ميل» قال: «إني العبقرية الأدبية الكبرى في قرننا العشرين». ولم يتغير رأيه في نفسه بعد ذلك فبعد أربعة عقود قال في مقابلة أجريت معه: «يبدو أنه بعد خمسمائة سنة سيقولون: (لقد كان ولسون عبقريا) ذلك أني كنت نقطة تحول في التاريخ الذهني».
وكان ولسون منذ البداية ذا ميول قريبة من الفاشية، يمجد «الإرادة» كما فعل النازيون في أثر نتشه. العباقرة في نظره هم النخبة المختارة بينما قطعان الجماهير «قردة» و«خنازير» و«قمل». وله مقالة كتبها في مراهقته عنوانها «مقالة عن التفوق».
وجاءت الضربة القاضية حين كتب الفيلسوف البريطاني ا. ج. آير وهو من أعمدة الوضعية المنطقية عن «فلسفة» ولسون فأقام الحجة على أنها هزيلة لا تستند إلى أي أساس فكري متين.
والرأي عندي - إذا كان لي أن أبدي رأيا في معترك هذه المواقف المتضاربة من إنجاز ولسون - أن كتابه «اللامنتمي» يظل ذا قيمة باقية لأنه وضع إصبعه على الأعصاب العارية لتوترات عصرنا وفتح أعين جيل من الشباب (والكبار أيضا) على الأزمات الوجودية والذهنية والروحية التي اعتصرت مفكرين وأدباء مثل نتشه وكركجارد وبرد يائف وكافكا وهرمان هسه وسارتر وكامو. «اللامنتمي» هو الكتاب الوحيد الذي يستحق أن يبقى من ولسون. أما سائر كتبه النقدية والفلسفية فلا تصمد لأي بحث فكري جاد ورواياته لا تعدو أن تكون أعمالا مسلية و«ثمرة عقل من الدرجة الثانية بصورة مطلقة».



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟