الخلفيات الحقيقية لاتفاقية «سايكس ـ بيكو»

بريطانيا أرادت وضع فرنسا حاجزاً بينها وبين روسيا... ووزير خارجيتها رأى السعي لتأسيس دولة عربية

الخلفيات الحقيقية لاتفاقية «سايكس ـ بيكو»
TT

الخلفيات الحقيقية لاتفاقية «سايكس ـ بيكو»

الخلفيات الحقيقية لاتفاقية «سايكس ـ بيكو»

ما زالت ارتدادات أصداء ما كُتِب عن «الاتفاقية الغبية»، كما وصفها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج (1916 - 1922)؛ ما عُرِف بـ«اتفاقية سايكس - بيكو» قبل أكثر من ثمانية عقود، في كتابه «الحقيقة وراء معاهدات السلام»، تتفاعل طوال قرن انسلخ، وكأن الماضي ظل مراوحاً لا يريد أن يرحل أو يلوذ بذمة التاريخ. كذلك ما برحت الحكايات تتوالد عن الاتفاقية بوتيرة غير معهودة، منطلقة من مخيلات سكنها الهوس، وخليط من الأوهام والأساطير، ما جعلها لا تلتزم بمادة معقولة يمكن الركون إليها والاستفادة من عبرتها. إن الموضوع الذي ننشره اليوم سيكون، بإذن الله، صلب كتاب قيد الإعداد حول سايكس وبيكو والاتفاق الذي يحمل اسميهما.
يرجِّح باحثون في بريطانيا أن وزير الحرب الفيلد مارشال هوراشيو هربرت كيتشنر كان الشخصية الأقوى تأثيراً في قرارات حكومته، بحكم خبرته الميدانية مع كل من فرنسا (حادثة فاشودا 1898) وروسيا (حول الاتفاقية البريطانية - الروسية في أغسطس/ آب 1907 لإيقاف الزحف الروسي على إيران)، وذلك عبر المناصب العسكرية التي تقلدها في الهند ومصر والسودان خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وكان يرى أيضاً أن روسيا لن تهدأ لإثارة العوائق أمام بريطانيا كما أثبتت الوقائع في أكثر من مناسبة، وهو جزء من العداء المدفوع بأطماع اللعبة السياسية الكبرى بين بريطانيا من جهة وروسيا وفرنسا من جهة أخرى. لذا ذعرت حكومة القيصر بعد إعلان بريطانيا عزمها على تنفيذ حملة الدردنيل، حيث تراءت لها إمكانية سقوط إسطنبول في حضن بريطانيا، ما يبعدها عن تحقيق أحلامها في القسطنطينية ومضايقها غرباً، وفي احتلال جنوب العراق وفصل البصرة مبدئياً، ما يعزز نفوذها في جنوب إيران خاصة، وعموم سياستها تجاه روسيا عامة.

الشك في بنيّات روسيا
تعرّضت بريطانيا خلال عام 1915 لسلسلة إخفاقات عسكرية، منها فشل حملة الدردنيل وحصار قواتها في الكوت. ورغم أنه سبق لروسيا أن استنجدت من قبل ببريطانيا لفتح جبهات تخفف عنها الضغط الذي وقعت فيه أمام تركيا في جبهات القوقاز وأرضروم وطرابزون، فإنها عادت بعد تغيّر الأوضاع على جبهات القتال لمطالباتها المستمرة. ولقد أثبتت الأيام حكمة كيتشنر التي أظهرها إثر لقاء قيصر روسيا نيقولا الثاني والسفير الفرنسي في روسيا، يوم 1 مارس (آذار) 1915 بقوله: «يبدو أن القسطنطينية ستصبح تحت إدارة عالمية، وأن روسيا لن ترضى بأقل من أن تكون مع مضايق البوسفور (والدردنيل) ضمن حدود الإمبراطورية الروسية»، ما يعنى أن تكون روسيا هي أول من أثار موضوع تقاسم الإمبراطورية العثمانية تبعاً للأجندة التي وضعها سلفه القيصر نيقولا الأول عام 1844، الذي لقب تركيا بـ«الرجل المريض».
المخطط الروسي إزاء إسطنبول أذهل الفرنسيين، كونه يعني منافستها في البحر الأبيض المتوسط، الذي تعتبره محور سياساتها وعلى شواطئه تقع مناطق خاضعة لهيمنتها (الجزائر وتونس والمغرب غرباً، وسوريا ولبنان وفلسطين شرقاً). ورغم ذلك فإن الضغوط العسكرية في جبهاتها الغربية أجبرت وزير خارجية فرنسا على الاقتراح على روسيا تأخير مناقشة سيناريوهات المخطط إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

لجنة تركيا الآسيوية
أما بريطانيا فتبنّت يومذاك استراتيجية كيتشنر، بوضع فرنسا كحاجز وقائي بينها وبين روسيا يمثل حصة فرنسا من التقسيم، الذي يشمل مطالبتها بالموصل وسوريا وكيليكيا ولواء الإسكندرونة، التي يُرمَز لها على الخرائط F1 – F2. وكان لوزير خارجية بريطانيا السير إدوارد غراي رأي استباقي آخر، جاء في ضوء تقرير كيتشنر لمجلس الوزراء بتاريخ 15 مارس 1915، وقبله رسالته في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 1914، وهو أن تسعى بريطانيا لتأسيس دولة عربية بتأييد ورعاية بريطانيا في الأجزاء العربية الواقعة ضمن الدولة العثمانية. وأمام اتفاق آراء أعضاء مجلس الوزراء البريطاني، وقبله ضغوط مطالبات روسيا وفرنسا، جاء قرار رئيس الوزراء هربرت أسكويث بتأسيس لجنة عليا مستقلة دائمة بمعزل عن حكومة الهند، لجمع وتدقيق الوثائق والخرائط الصادرة بخصوص متعلقات أقطار تركيا الآسيوية عبر مجلس الوزراء، أطلق عليها اسم «لجنة تركيا الآسيوية». وكلفت اللجنة تقديم التصوّرات والنصح لتخطيط مستقبل ما بعد الانتصار، وحصة بريطانيا من تركة الدولة العثمانية في الجزء الآسيوي.
وأسندت رئاسة اللجنة للسير موريس دي بونسن السفير البريطاني الأسبق في مدريد ثم فيينا. وبما أن كيتشنر كان الأكثر إلماماً بالتفاصيل، مُنِحَت له مهمة الإشراف المباشر على ما يُقر خلال اجتماعات اللجنة من تصوّرات. وبالتالي، عيّن كيتشنر عضواً ينقل إليه تفاصيل الاجتماعات يوما بيوم، هو السير مارك سايكس، عضو مجلس العموم منذ عام 1911، واختير للمهمة كونه أكثر أعضاء مجلس العموم خبرة ومعرفة بالشأن العثماني نتيجة لسفراته المتكرّرة إلى تركيا أيام صباه مع والده، وعمله في السفارة البريطانية بإسطنبول ملحقاً فخرياً 1905. وكان سايكس قد كتب مجموعة من الكتب والتقارير عن الدولة العثمانية.
بدأت اجتماعات «لجنة تركيا الآسيوية» - التي عُرفت أيضاً بـ«لجنة دي بونسن» نسبة لرئيسها - للمرة الأولى في 14 أبريل (نيسان) 1915، وتبعتها اجتماعات يومي 15 و16 وعقد الاجتماع الرابع والأخير في 17 أبريل، ثم تفرغت اللجنة لتقديم تقرير استغرق إعداده أكثر من شهرين، عندما كانت توقعات الانتصار في حملة الدردنيل، وعمليات الزحف نحو بغداد صيف 1915 في أوجها، فقدم التقرير إلى مجلس الوزراء في 30 يونيو (حزيران) بعنوان «أهداف المجهود الحربي البريطاني في تركيا الآسيوية».
في ضوء ذلك، وافق مجلس الوزراء على إرسال سايكس إلى الشرق الأوسط في جولة تقصي حقائق استغرقت ستة أشهر، يصحبه سكرتير خاص بريطاني ومترجم فلسطيني اسمه أنطوان ألبينا. الجولة شملت حتى الهند، ولكن اجتماعه مع نائب الملك في الهند اللورد هاردينج لم يكن ناجحاً، إذ كتب الأخير في تقرير إلى لندن «إن إرسال دبلوماسيين غير ناضجين مثل مارك سايكس أمر في غاية الخطورة، لعدم لياقتهم وخفتهم».
وعبر أيضاً عن ذلك إلى الصحافي فالنتين شيرول مراسل جريدة «التايمز» اللندنية بقوله: «إن سايكس معتد بنفسه أكثر من اللازم». وكان رأي اللورد هاردينج أن بعض أجزاء الدولة العثمانية غير جاهزة لإدارة أمورها أو استقلالها، وهو ما يخالف فكرة تأسيس الدولة العربية التي تبناها كيتشنر. ومن الهند وصل سايكس إلى البصرة في سبتمبر (أيلول) 1915، وأقام لمدة قصيرة مع أرنولد ويلسون مساعد الحاكم السياسي السير بيرسي كوكس، الذي قال عن سايكس: «حتى عمومياته ليست دقيقة».
كذلك انتقد تصرفات سايكس زميل له في مجلس العموم، هو الكابتن جورج لويد، الذي زار البصرة بعد سايكس بمدة قصيرة، وقال: «إن تصرفات سايكس كانت عديمة ذوق، ولم يكن ذلك لأنه انتقد بشدة عمل كل من قابله، بل إنه شديد الكره لكل عمل تقوم به حكومة الهند، ما جلب عليه سخط الجميع». وبعد ذلك عاد سايكس إلى القاهرة يوم 17 نوفمبر ومنها عاد إلى لندن قرب منتصف ديسمبر (كانون الأول) 1915.

جورج بيكو
خلال فترة غياب سايكس في رحلته هذه بدأت اتصالات للتشاور مع فرنسا خلال أكتوبر (تشرين الأول) 1915، فدعا وزير الخارجية البريطاني إدوارد غراي سفير فرنسا في لندن بول كامبون للتدول الدوري بمستجدات السياسة على ضوء مخرجات جبهات القتال المشتركة ضد ألمانيا.
وأثمر ذلك أن ينتدب السفير الفرنسي ممثلاً دائماً لفرنسا إلى «لجنة دي بونسن» حرصاً على استمراريتها، فوقع الاختيار على دبلوماسي فرنسي بدرجة قنصل حديث التعيين بلندن اسمه فرنسوا - ماري جورج بيكو، كان يتقن الإنجليزية وذا خبرة بالعمل في السلك الدبلوماسي، وسبق له شَغْل منصب قنصل عام في بيروت خلال يونيو 1914 قبيل اندلاع الحرب.
عقد في 23 نوفمبر 1915 أول لقاء لجورج بيكو مع اللجنة (التي كانت برئاسة وكيل وزير الخارجية السير أرثر نيكلسون بدلاً من دي بونسن)، لكنه لم يكن اجتماعا متكافئاً، ولم يثمر نتيجةً مشجعة. وعلى الأثر غادر بيكو إلى باريس للتشاور وأخذ التعليمات الفرنسية المناسبة. وشهد الاجتماعان الثاني والأخير في 11 ديسمبر صداماً صاخباً مع بيكو الذي وصفه نيكلسون بـ«التعالي والتعصب والغرور والنظرة الاستعمارية البحتة لمصالح فرنسا وربطها بحالة فاشودا (السودان) في 19 سبتمبر 1898»، التي كادت تصل إلى اشتباك مسلح بين بريطانيا وفرنسا. فتوقفت أعمال اللجنة وانقطع الاتصال مع بيكو، فحولت وزارة الخارجية بناء على توصية وكيلها، رئيس اللجنة، ملف المتابعة إلى كيتشنر، لأنه صاحب الفكرة بالأساس. وفعلاً غيّر كيتشنر اللجنة المكوّنة من 18 عضواً إلى لجنة ثنائية مصغرة أوكَلَها إلى سايكس، الذي عاد إلى لندن في ديسمبر، وقدم تقريره عن رحلته في 16 منه.
وهكذا تسلم سايكس المهمة، وعقد أول اجتماع له مع بيكو يوم 21 ديسمبر بالسفارة الفرنسية في لندن، واستمرت الاجتماعات يومياً، تلتها صداقة ودية بين الاثنين امتدت طوال فترة الحرب. وجراء ذلك أصبحت التسمية «لجنة سايكس - بيكو» واشتهرت الاتفاقية بهذا الاسم الشائع، وإن لم يكن اسمها الرسمي.
أما أسباب توافق الاثنين فيرجع لأسباب شخصية عدة، منها التقارب في السن والوظيفة، وكون سايكس من محبي الفرنكوفونية، ويجيد التحدث بالفرنسية وعاش في فرنسا، ويعرف عادات أهلها. ثم إنه كاثوليكي المذهب، وليست له خلافات أو حساسية إزاء النشاط الكاثوليكي في سوريا ولبنان، كما أنه على معرفة ببلدان الشرق الأوسط، التي زارها عدة مرات كزميله. وثمة تشابهات أخرى، كلمسات كيتشنر الدبلوماسية، كما حدثت في فاشودا عندما قابل القائد الفرنسي جان باتيست مرشان في 19 سبتمبر 1898 بزي عسكري مصري، وليس ببزة عسكرية بريطانية، فاستطاع أن يحوّل الموقف من مواجهة وموضع قتالي بين فرنسا وبريطانيا إلى جلسة تبادل وجهات نظر. وساعد في ذلك أيضاً تمكّن كيتشنر من التحدث باللغة الفرنسية بطلاقة، ما جعلها في النهاية جلسة ودية طبيعية.

ولادة الاتفاقية
كان سايكس يرفع تقارير يومية إلى كيتشنر ويتلقى أوامره وينفذ ملاحظاته عن طريق معاونه الشخصي الكولونيل أوزوالد فيتزجيرالد. وسارت الأمور على هذا النحو حتى 3 يناير (كانون الثاني) 1916 حين صيغت مبادئ الاتفاقية، التي ضمت الخرائط المقترحة. ووافقت الحكومة البريطانية عليها يوم 4 فبراير (شباط) تبعتها فرنسا في 17 مارس. وبعدها سافر سايكس إلى بتروغراد (بطرسبرغ) عاصمة روسيا بحراً في أوائل مارس عن طريق استوكهولم، وقابل القيصر في 7 مارس. وفي 10 مارس التحق به بيكو حيث اجتمعا بوزير الخارجية سيرجي سازنوف، وبعد مداولات وتعديلات، تم التوقيع عليها في 26 أبريل 1916. وبعد بضعة أسابيع وقّع عليها السفير الروسي الكونت بيكدوف في 9 مايو (أيار)، وأخيراً وفي 16 مايو اختتمت بتوقيع وزير الخارجية البريطاني غراي، والسفير الفرنسي في لندن بول كامبون. وهكذا أصبحت «الاتفاقية الأنجلو فرنسية - الروسية، أبريل/ مايو 1916» نافذة المفعول واشتهرت عند العامة بـ«اتفاقية سايكس - بيكو».

لم ترسم الحدود الحديثة
بين ما تعهدت بريطانيا وفرنسا به في الاتفاقية ما يلي:
1- تتعهد فرنسا وبريطانيا بالاعتراف والمساندة لدولة عربية مستقلة أو كونفدرالية عربية في المناطق المؤشر عليها A وB كما هي بالخريطة الملحقة تحت حكم وإدارة شخصية عربية. وتكون لفرنسا في المنطقة A ولبريطانيا في المنطقة B حق الأولوية في المشاريع والتمويل المحلي، ولفرنسا في منطقة A ولبريطانيا في B الحق الوحيد في تعيين الخبراء والأجانب أو الموظفين الذين تحتاج إليهم الدولة العربية أو كونفدرالية الدول العربية.
2- لفرنسا في «المنطقة الزرقاء» ولبريطانيا في «المنطقة الحمراء» الحرية في تأسيس الإدارة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أو التوجيه حين تشاءان، لما تريانه مناسباً للتأسيس، بعد الاتفاق مع الدولة العربية أو كونفدرالية الدول العربية.
3 - «المنطقة البُنّية» تكون تابعة لإدارة عالمية ستقرّر بعد الاتصال مع روسيا، ممثلي التحالف، وممثل شريف مكة.
4- أن يمنح إلى بريطانيا:
أ‌ - ميناءا حيفا وعكا.
ب‌- كميات محدودة ومضمونة من مياه دجلة والفرات إلى المنطقة A والمنطقة B.
ج - حكومة صاحب الجلالة نفسها تتعهد بألا تكون هناك في أي منطقة أي مباحثات أو امتيازات بشأن قبرص إلى أي قوة ثالثة دون موافقة حكومة فرنسا.
5- الإسكندرونة ستكون ميناءً حراً فيما يخص تجارة الإمبراطورية البريطانية، على أن تكون هناك معاملات خاصة بشأن عائدات الميناء أو تمديداً لأفضله بخصوص حركة السفن أو التجارة وتكون هناك حرية الانتقال للبضائع البريطانية خلال الإسكندرونة على السكك الحديدية التي تمر عبر «المنطقة الزرقاء» لما يخص البضائع القادمة أو المغادرة إلى البحر الأحمر، المنطقة A وB، ولن يكون هناك تفضيل في المعاملة مباشر أو غير مباشر على حساب البضائع البريطانية أو سكك الحديد أو على البضائع البريطانية والملاحة في أي ميناء يخدم المناطق المعينة. حيفا ستكون ميناءً حراً بالنسبة لتجارة فرنسا ومستعمراتها ومحمياتها، وألا يكون هناك أي اختلاف في المعاملة أو الحقوق إزاء عائدات الميناء ضد التجارة والملاحة الفرنسية، كما يكون لها حرية العبور خلال حيفا بواسطة السكك الحديدية البريطانية عبر المنطقة البنية بغض النظر عما إذا كانت هذه البضائع عائدة من أو ذاهبة إلى «المنطقة الزرقاء» A وB، وألا يكون هناك اختلاف في المعاملة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على حساب البضائع الفرنسية وملاحتها في أي ميناء يقوم بالخدمة بالمناطق المعينة.
6- في المنطقة A فإن سكة حديد بغداد لن تمدد خطوطها لما بعد الموصل، وفي المنطقة B لن تمدد خطوطها شمالاً نحو أو بعد سامراء حتى يتسنى تمديد خط بغداد - حلب حول حوض الفرات إلى أن يتم التمديد بعد اتفاق الحكومتين.
7- لبريطانيا الحق في البناء والإدارة وأن تكون المالكة الوحيدة للسكك الحديدية التي تربط حيفا مع المنطقة B، والتي لها الحق الدائم في كل الأوقات لاستعماله لنقل الجنود، وأنه لأصبح معلوم لكلتا الحكومتين بأن سكك الحديد جعلت لخدمة المواصلات بين بغداد وحيفا.
8- تبقى التعرفة الجمركية التركية سارية المفعول لمدة عشرين سنة خلال المنطقتين «الزرقاء» و«الحمراء» وكذلك A وB دون زيادة على العوائد ودون تغيير ضريبة على بعض العوائد، لكي تعمل دون موافقة القوتين، ولن يكون هناك حواجز جمركية داخلية بين المناطق التي سبقت الإشارة إليها أعلاه، وأن عوائد الجمارك ستحصَل على البضائع المستوردة حيث تجبى في موانئ الدخول وتدفع إلى إدارة مناطق وصولها.
9- من المفهوم أن الحكومة الفرنسية لن تتباحث في أي وقت حول التنازل عن حقها في «المنطقة الزرقاء» إلى جهة ثالثة ما عدا الدولة العربية أو كونفدرالية الدول العربية دون موافقة مسبقة من حكومة صاحب الجلالة، التي بدورها تعطي الحكومة الفرنسية المعاملة بالمثل في المنطقة الحمراء.
10- ستتفق حكومتا بريطانيا وفرنسا على أن تمتنع المطالبة بأراض أو ممتلكات الجزيرة العربية، وأنها لن تقبل بناء قواعد بحرية في الجزر على الجانب الشرقي للبحر الأحمر، مع العلم أنها لن تمنع تغيرات لحدود عدن حينما تدفعها الحاجة لصد أي اعتداء تركي.
11- المباحثات مع العرب بخصوص حدود الدولة العربية أو كونفدرالية الدول العربية ستتابع من خلال القنوات ذاتها، كما هو مذكور باسم القوتين.
12- وجب التعريف بأنه ستوضع تعليمات حول استيراد الأسلحة إلى داخل المناطق العربية، وسيتم ذلك عن طريق الحكومتين.

بروتوكولات
ختمت الاتفاقية على شكل بروتوكولات دبلوماسية بين حكومات الدول الثلاث الكبرى التي تتمتع كل منها بامتيازات في بعض أجزاء الإمبراطورية العثمانية بعد تقسيمها حسب اتفاق القوتين. أما فيما يخص حصة روسيا فإنها تبودلت في بتروغراد في 26 أبريل 1916، وفي لندن بعد بضعة أسابيع في 1916. أما المذكرات التي تخص الحصتين البريطانية والفرنسية فقد تبودلت في 15 و16 مايو 1916 بلندن والنسخة المنشورة هي الاتفاقية الأنجلو - فرنسية، لأن ذلك هو الجزء الذي يخص مستقبل البلاد العربية.
تقع الاتفاقية في ثلاث صفحات، وتحتوي على 12 مادة وخريطة. المواد الأربع الأولى هي تحديد المناطق المتفق عليها على الخريطة، وهي جزء من جنوب تركيا حالياً من البحر الأبيض المتوسط وميناء الإسكندرونة حتى حدود إيران مروراً بديار بكر وماردين وشمال العراق الحالي وولاية الموصل، ثم سوريا الكبرى (سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن) وبلاد الرافدين (ولاية بغداد والبصرة) إلى الخليج العربي.
خط سايكس على الخريطة يقابله على الأرض خط أفقي ممتد من عكا على البحر الأبيض المتوسط إلى كركوك (250 كيلومتراً). وتقسم مناصفة الشمال (A) بلون أزرق يعود إلى فرنسا والجنوب (B) بلون أحمر إلى بريطانيا. وتفصل فلسطين بلون بنّي (إدارة عالمية).
ما يخص فرنسا جنوب تركيا وسوريا الكبرى ما عدا فلسطين وولاية الموصل. وما يخص بريطانيا ولاية بغداد وولاية البصرة تحت الهيمنة البريطانية بلون أحمر (لم تكن بغداد آنذاك قد احتُلَّت بعد، بل احتلت يوم 11 مارس 1917) وميناء عكا وميناء حيفا وجنوبها شرق الأردن إلى الحدود العراقية - السعودية والأردنية السعودية حالياً. المواد الثماني الباقية تتعلق بالتجارة والموانئ وسكك الحديد ومساراتها، وضمان مياه دجلة والفرات داخلها، ولم تتكلم عن مستقبل مصادرها.
لم تتعرض الاتفاقية للسكان والتوزيع الديني والإثني، ولم تهتم بالعوائق الطبيعية، لكنها منذ البداية اعترفت بأن تكون دولة عربية واحدة أو عدة كيانات كونفدرالية عربية. ومن شروط الاتفاقية أيضاً بالنسبة إلى ولاية البصرة التي كانت تحت الاحتلال البريطاني منذ 21 نوفمبر 1914 تأسيس إدارة مستقلة تابعة لحكومة الهند وحكومة حماية بريطانيا لولاية بغداد إلى نهاية الحرب (تم احتلالها في 11 مارس 1917)، وحماية فرنسية لولاية الموصل (لم تُحتَلّ حتى نهاية الحرب العالمية 11 نوفمبر 1919). ثم تنازلت عنها فرنسا لبريطانيا خلال مؤتمر السلام في باريس فبراير 1919 حينما قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج لزميله الفرنسي جورج كليمنصو: «أريد الموصل».

الاتفاقية والتحليل
لقد أُعطيَت الاتفاقيةُ عند العرب شهرةً أكبر مما تستحق لقلة الإلمام بملابسات تاريخها وبمحتواها، فهي عقد سري عقد أثناء الحرب بل هي مجموعة بروتوكولات دبلوماسية نصّها يبلغ ثلاث صفحات. ثم إن سيادتها لم تكن حصينة بل عرضة للانتقاد والرفض، لأنها تقوم على أسس افتراضية وسط إجراءات سرية لم تُناقَش بنودها وغايتها في مجال عالمي مفتوح. وهي كذلك ضعيفة المنحى هشّة المبنى في عالم ابتدأ بالتطلع واعتناق مبادئ تنادي بالوقوف ضد أطماع الاستعماريين في بلدان يُحرَم أهلها منها. وهو ما حصل بعدما «فَضَحها» البلاشفة الروس في أواخر نوفمبر 1917، حينما ابتدأت موجات السخط وأصوات الاستنكار لممارسات لا يمكن السكوت عنها، خصوصاً أن موعد فضحها تزامن مع «إعلان بلفور».
إن بعض التفسيرات اللاحقة التي كُتِبَت وتداولت تعطي للاتفاقية وزناً وقيمة أكثر مما تستحق. فالرجلان اللذان ارتبط اسماهما بها (سايكس وبيكو) ما كانا مسؤولين رفيعين في بلديهما. وما كانا من الرتبة التي تتيح لهما كتابة اتفاقية يمكن أن تغير السياسة العامة لبلدين بوزن بريطانيا وفرنسا. كما أن من يقرأ الاتفاقية يرى أنها بمجموعها تحمل كل الشواهد التي تدل على أنها طبخة غير ناضجة لاقتراحات دُبِّرت من قبل موظفين من درجة متوسطة، ولا ترقى إلى سياسة عليا إلا من خلال توافق الصدفة والطموح.
وما يثير الانتباه أنه لم يكن هناك أحد من رجالات الدولة البريطانية قد أخذ الاتفاقية وذيولها بصورة جدية. بل العكس صحيح، إذ انتقدها وهي في مهدها كثيرون من كبار المسؤولين، خصوصاً رئيس الوزراء لويد جورج الذي تولى منصبه في 5 ديسمبر 1916 بعد تاريخ عقدها (16 مايو 1916).
وحين نختبر من خلال المؤشرين المهمين في تاريخي السياسة الخارجية البريطانية والاستراتيجية الفرنسية في وقت كتابتها (من أبريل 1915 إلى 16 مايو 1916) نلاحظ أنها تبدو كنوع من الاسترضاء والتهدئة قدمتهما بريطانيا إلى كل من فرنسا وروسيا لأجل رفع الروح المعنوية التي هبطت حتى القاع خلال تلك الحقبة، عندما كانت فرنسا متمرغة بوحل جحيم معركة فردان حيث كانت أعداد ضحاياها قد قاربت نصف مليون جندي.
على أي حال، وبعيداً عن التفاؤل والأحلام، فإن سياسة بريطانيا منذ القرن الثامن عشر لم تمنح منافسيها التقليديين فرنسا وروسيا، وإن كانا حليفيها، أكثر من وعود ودغدغة للعواطف. ومما سبق وإلى الآن، بعد مرور نحو 100 سنة على توقيعها ثم فضحها، تلاها فشلها في التطبيق، فإن البعض يرى أن هذه المعاهدة رسمت حدود الأقطار العربية الحديثة، وهذا خطأ تاريخي لأنها رُسّمت بعد عقد من الزمن تقريباً في مؤتمر لوزان عام 1922 - 1923.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.