«حكاية البنت التي طارت عصافيرها»... لغة سلسة وبناء قصصي متماسك

المجموعة القصصية السودانية الفائزة بجائزة البوكر الأفريقية

بُشرى الفاضل مع جائزة «بوكر» الأفريقية
بُشرى الفاضل مع جائزة «بوكر» الأفريقية
TT

«حكاية البنت التي طارت عصافيرها»... لغة سلسة وبناء قصصي متماسك

بُشرى الفاضل مع جائزة «بوكر» الأفريقية
بُشرى الفاضل مع جائزة «بوكر» الأفريقية

لم يشكِّل فوز القاص السوداني بُشرى الفاضل بجائزة كين للأدب الأفريقي لعام 2017 مفاجأة لمتابعي تجربته القصصية التي ترسخت في أواخر السبعينات من القرن الماضي، وتحديداً حينما نشر قصته الثانية في مجلة الثقافة السودانية عام 1979 وكانت تحمل عنوان «حكاية البنت التي طارت عصافيرها»، وهي ذات القصة التي ترجمها ماكس شموكلر ورشّحها إلى هذه الجائزة الرفيعة التي تُكنّى بـ«البوكر الأفريقية» في الأوساط الأدبية وتنافست مع 148 قصة تمثل 22 بلداً لتُتوَّج في نهاية المطاف بالجائزة الأولى التي تبلغ قيمتها 10 آلاف جنيه إسترليني تُمنح 7 آلاف منها للقاص الفائز بينما تُعطى الثلاثة آلاف المتبقية إلى المترجم. جدير ذكره بأن القائمة القصيرة ضمّت أربعة أسماء أخرى إلى جانب القاص السوداني بُشرى الفاضل وهم ليزلي نيكا آريما، وتشيكوديلي إميلومادو، وآرينز آيفكاندو من نيجيريا وموغوغودي مافالا ماكين من جنوب أفريقيا، وهذه ليست المرة الأولى التي يفوز بها كاتب سوداني بهذه الجائزة المرموقة فقد سبق أن فازت بها القاصة والروائية السودانية ليلى أبو العلا في الدورة الأولى للجائزة عام 2000 عن قصتها الموسومة «المتحف» المُستلة من مجموعتها القصصية «أضواء ملونة».
على الرغم من كثرة الكتابات النقدية التي تشيد بموهبة القاص بُشرى الفاضل وتؤازر تجربته الإبداعية عموماً، فإن البعض يعتبره «ليس كاتب قصة» وهذا رأي مُجحف، وغير دقيق، ولا ينمّ عن دراية بفن القصة القصيرة شكلاً ومضموناً وتقنيات، خاصة وأن الكاتب ينتمي إلى مرحلة التحولات الحداثية التي يحصرها النقاد السودانيون بين أواسط الستينات وأواسط الثمانينات من القرن العشرين، وهي الحقبة التي تعرّفنا فيها على بعض الأسماء القصصية السودانية البارزة مثل حسن الجزولي، وعيسى الحلو، ومختار عجوبة وغيرهم من القصاصين الذين يمتلكون تجارب مغايرة تختلف عن المشهد السردي السائد آنذاك. ولعل تجربة القاص بُشرى الفاضل هي الأكثر تميّزاً من حيث رمزيتها، وسرياليتها، ونَفَسها العبثي الذي يُذكِّر بأدب اللامعقول الذي تألق فيه صمويل بيكيت، وفرانز كافكا، ويوجين يونسكو، وجان جينيه، وفرناندو آرابال. أما من حيث التقنية فقد استعمل بُشرى الفاضل أسلوب التهكم، والسخرية السوداء التي يجتمع فيها الجد والهزْل، والمأساة والملهاة في آنٍ معاً. ويبدو أنه أفادَ كثيراً من دراسته للأدب الروسي وتأثره بتشيخوف وغيره من كُتّاب القصة الذين يخففون وطأة هذا العالم الثقيل بالسخرية، والفكاهة والدعابة الأدبية.
أصدر الفاضل مجموعته القصصية الأولى «حكاية البنت التي طارت عصافيرها» عام 1990 وهي تضم اثنتي عشرة قصة قصيرة مختلفة في ثيماتها، وتقنياتها، وطرائق سردها وقد كتب عنها كثيرون من بينهم فضيلي جماع، وخالد الكد، وعلي المك، وأمير تاج السر، ومأمون التلب وسواهم من الأدباء والنقاد السودانيين الذين أثنوا على موهبة بُشرى الفاضل القصصية تماماً مثلما أشادت لجنة جائزة «كين» بلغته السلسة، وبنائه القصصي المتماسك، وتصويره للمخاطر التي تواجهها الحريات الشخصية في المجتمع السوداني.
تتمحور ثيمة قصة «حكاية البنت التي طارت عصافيرها» على المعاكسة والتحرّش الجنسي الذي تواجهه النساء في السودان، وقد يأخذ هذا التحرّش أشكالاً متعددة بحسب طبيعة الرجال الذين «يطاردون النساء بالعيون والأيدي والأجساد، ومن لم تسعفه الحركة يطارد بالاستجابة المباشرة الحسيّة، أو حلم اليقظة» (ص57). غير أن فكرة التحرّش تنمو وتتطور لتأخذ شكل الغزل والمداعبة حتى وإن كانت بهدف الإثارة والإغراء، فهذه البنت التي طارت عصافيرها جميلة، ومثقفة، وقادرة على التلاعب بأمزجة الناس. وكما يذهب الراوي: «ألف مرة أجيئها غاضباً وأخرج من عندها هاشاً باشاً كأن لديها مصنعاً للفرح». ولا غرابة في أن يضفي عليها مسحة فنتازية حينما يقول: «خرجتُ في ذات يوم من لدنها مليئاً بها حتى غازلني الناس في الشوارع» (ص60). إذن، نحن أمام امرأة جذابة بكل المقاييس فهي قمحية اللون، فارعة الطول، أخذت من الناس ألبابهم، يرونها فلا يشبعون منها. وحتى الراوي الذي أسميناه «متحرشاً» كان مُعجباً بها من طرف واحد ولا يريد سوى أن يراها، ويغنّي لها، ويحلم بها، لكن هذا الانجذاب من طرف واحد سوف يتحول إلى صداقة تستمر لمدة شهر واحد من دون أن يلامس أغوارها السحيقة على الرغم من أنه شاعر مُرهف الحسّ. فجأة يتغيّر مناخ القصة حينما يرى الراوي طابوراً طويلاً من الناس يفضي إلى مستشفى وعندها نفهم أن البنت وشقيقتها الصغرى مضرجتان بالدم دون أن نعرف هُوية القاتل، وسبب القتل، وأداة الجريمة. تُذكّرنا هذه النهاية المبهمة بأدب العبث واللامعقول الذي يحضّ على القارئ التفكير والمشاركة في صناعة الحدث أو التفاعل الشديد معه في أقل تقدير.
تجمع قصة «حملة عبد القيّوم» بين الواقعية الصارمة وأدب اللامعقول حيث نتعرّف في القسم الأول منها على شاب قروي اسمه عبد القيّوم ينتمي إلى أسرة فقيرة ويحلم بأن يصبح سائق عربة. وما إن يتعلم السياقة ويبدأ بالعمل في الخرطوم حتى تدهسه سيارة فارهة ويواجه مصيره المحتوم لكنه لن يغيب عنا طويلاً. فعندما يقترب سائق بلدوزر من مقبرة وينتهك من دون قصد قبراً يُفاجأ بحركة جمجمة «عبد القيّوم» تتلفت يمنة ويسرة ثم تعيد رأسها إلى القبر بهدوء. وبحركة سريالية مُتقنة تنسل الجمجمة متبوعة بهيكلها العظمي لتجلس خلف مقود البلدوزر وتبدأ بدهس الناس، وهرس السيارات، وتهديم المنازل، ف«هذا البلدوزر العجيب لا توقفه المتاريس، ولا طلقات البندقيات ولا الدبابات ولم ينضب بتروله»، بينما ظل عبد القيّوم يردد بغضب: «أولاد الكلب تقتلوني؟ وهو أنا شفت حاجة في الدنيا؟ (ص18). ثم يتفاقم حقده فيزيد من سرعة البلدوزر ليجرف كل البيوت والعمارات التي كانت تقف في طريقه قبل أن يصل إلى النيل ويطفئ نار غضبه في مياهه الباردة.
لا تختلف ثيمة قصة «الغازات» عن سابقتها في النَفَس السريالي، فثمة رُكّاب يتكدسون في أحد الباصات، ونتيجة لارتفاع درجة الحرارة يتحولون إلى غازات تتصاعد عبر النوافذ، وما إن تبرد هذه الغازات المتبخرة حتى تستحيل إلى مسوخ مشوهة، مطموسة المعالم تحيلنا بالتأكيد إلى صرصار كافكا، وخرتيت يونسكو وسواهما من القصص والروايات والمسرحيات العبثية المعروفة.
تنطوي القصص التسع الباقيات على أجواء مختلفة تحتفي بالموضوعات المحلية لكنها لا تخلو هي الأخرى من التهكم والسخرية مثل «ذيل هاهينا مخزن أحزان»، و«الطفابيع» و«هاء السكت» وغيرها من قصص المجموعة لكننا ارتأينا أن نتوقف عند القصص الثلاث لانفتاحها على المدارس والتيارات الأوروبية الحديثة التي انتعشت بعد الحرب العالمية الثانية ووجدت ضالتها في الموضوعات العبثية اللامعقولة التي استطاعت أن تجيب على الأسئلة التي كانت تؤرق الكائن البشري آنذاك.
جدير ذكره أن القاص بُشرى الفاضل قد نال أيضاً جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي عام 2011 عن قصته الموسومة «فوق سماء البندر»، كما أصدر مجموعتين قصصيتين وهما «أزرق اليمامة» و«فزيولوجيا الطفابيع»، وقد حققت له هذه المجموعات القصصية الثلاث التي صدرت أخيراً في مجلد واحد جمهوراً واسعاً من القرّاء السودانيين والعرب على حدٍ سواء.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.