سيد مدينة الحاكمية.. أوراق محمد قطب (1): محمد قطب.. اللاعب الخفي في تنظيم 1965

امتزج بأفكار أخيه سيد وحولها إلى منهج تربوي طويل يهدف إلى «تمكين الصحوة»

محمد قطب
محمد قطب
TT

سيد مدينة الحاكمية.. أوراق محمد قطب (1): محمد قطب.. اللاعب الخفي في تنظيم 1965

محمد قطب
محمد قطب

تحت فصل بعنوان «وكانت بيعة»، تروي الحاجة زينب الغزالي، في كتابها «أيام من حياتي» - الذي يوصف في الأدبيات الإخوانية بأنه «وثيقة قيمة، وسجل تاريخي، لحقبة مهمة من تاريخ الدعوة الإسلامية» - قصة إعادة بعث تنظيم الإخوان المسلمين من جديد، بعد قرار حله إثر أحداث المنشية الشهيرة عام 1954 التي تعرض فيها جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال على يد أعضاء من الجماعة.
زينب الغزالي، التي تعد واحدة من أبرز القيادات النسائية في صفوف الإخوان المسلمين، وحظيت بمباركة خاصة من المؤسس حسن البنا، بعد إنشائها لأول جمعية إسلامية نسائية باسم «جمعية السيدات المسلمات»، تقول في مذكراتها: «لما كانت جماعة الإخوان المسلمين معطلا نشاطها بسبب قرار الحل الجاهلي لسنة 1954، كان ضروريا أن يعود إحياء هذا النشاط، لكنه بالطبع سيكون سريا».
تكثفت تحركات مجموعة من الكوادر الإخوانية الذين لم تطلهم حملة الاعتقالات، من أجل إعادة تنظيم صفوف الجماعة من جديد، من أبرزهم عبد الفتاح إسماعيل، وعلي عشماوي، وأحمد عبد المجيد، ومحمد فتحي رفاعي، وعوض عبد العال وآخرون، ضمن ما عرف بتنظيم «سيد قطب»، أو «تنظيم 1965».
في حج عام 1957، كان أول لقاء بين زينب الغزالي وعبد الفتاح إسماعيل، الذي يوصف بأنه «دينامو تنظيم 1965 وثالث ثلاثة أعدموا عام 1966». تروي الغزالي فتقول: «بعد ركعتي الطواف، جلسنا خلف بئر زمزم بالقرب من مقام إبراهيم، وأخذنا نتحدث عن بطلان قرار حل جماعة الإخوان المسلمين ووجوب تنظيم صفوف الجماعة وإعادة نشاطها. واتفقنا على أن نتصل، بعد العودة من الأرض المقدسة، بالإمام حسن الهضيبي، المرشد العام لنستأذنه في العمل. فلما هممنا بالانصراف، التفت علي عبد الفتاح وقال: (يجب أن نرتبط هنا ببيعة مع الله على أن نجاهد في سبيله، لا نتقاعس حتى نجمع صفوف الإخوان، ونفاصل بيننا وبين الذين لا يرغبون في العمل أيا كان وضعهم ومقامهم)، وبايعنا الله على الجهاد والموت في سبيل دعوته».
بدأت التحركات للم شتات الإخوان من جديد، على مستوى محافظات مصر كلها، بتوجيهات وتعليمات تصل من داخل السجن، وفي قصاصات يكتبها سيد قطب تحت مسمى «خيوط خطة»، صدرت، في ما بعد، ضمن كتابه الشهير «معالم في الطريق»، وفقا لما أكده أيضا أحمد عبد المجيد، في مذكراته «الإخوان وعبد الناصر القصة الكاملة لتنظيم 1965».

* مخطط إقامة الدولة الإسلامية

* تحكي الغزالي تفاصيل هذا المخطط الذي يبدأ من الإعداد والتكوين التربوي، وصولا إلى إقامة الدولة أو الخلافة الإسلامية، فتقول: «بتعليمات من الإمام سيد قطب، وبإذن الهضيبي، قررنا أن تستمر مدة التربية والتكوين والإعداد ثلاثة عشر عاما - عمر الدعوة في مكة - على أن قاعدة الأمة الإسلامية الآن هم (الإخوان) الملتزمون بشريعة الله وأحكامه. فنحن ملزمون بإقامة كل الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة في داخل دائرتنا الإسلامية.. والطاعة واجبة علينا لإمامنا المبايع، على أن إقامة الحدود مؤجلة، مع اعتقادها والذود عنها، حتى تقوم الدولة.. وكنا على قناعة كذلك بأن الأرض اليوم خالية من القاعدة التي تتوافر فيها صفات الأمة الإسلامية الملتزمة التزاما كاملا، كما كان الأمر في عهد النبوة والخلافات الراشدة. ولذلك وجب الجهاد على الجماعة المسلمة (...)، حتى يعود جميع المسلمين للإسلام، فيقوم الدين القيم، لا شعارات ولكن حقيقة عملية واقعة».
وتضيف الغزالي: «درسنا كذلك وضع العالم الإسلامي كله، بحثا عن أمثلة لما كان قائما من قبل بخلافة الراشدين، والتي نريدها نحن في جماعة الله الآن، فقررنا بعد دراسة واسعة للواقع القائم المؤلم أنه ليست هناك دولة واحدة ينطبق عليها ذلك، واستثنينا السعودية مع تحفظات وملاحظات يجب أن تستدركها المملكة وتصححها، وكانت الدراسات كلها تؤكد أن أمة الإسلام ليست قائمة، وإن كانت الدولة ترفع الشعارات بأنها تقيم شريعة الله!.. وكان في ما قررناه بعد تلك الدراسة الواسعة، أنه بعد مضي ثلاثة عشر عاما من التربية الإسلامية للشباب والشيوخ والنساء والفتيات، نقوم بمسح شامل في الدولة، فإذا وجدنا أن الحصاد من أتباع الدعوة الإسلامية المعتقدين أن الإسلام دين ودولة، والمقتنعين بقيام الحكم الإسلامي قد بلغ 75 في المائة من أفراد الأمة رجالا ونساءً، أعلنا قيام الدولة الإسلامية، وقيام الحكم الإسلامي، أما إن وجدنا الحصاد 25 في المائة، جددنا التربية والإعداد لمدة ثلاثة عشر عاما أخرى، وهلم جرا، حتى نجد أن الأمة فد نضجت لتقبل الحكم بالإسلام».

* علاقة محمد قطب بتنظيم 65

* على خلاف شخصية أخيه الأكبر سيد، كان محمد قطب (توفي في الرابع من أبريل/ نيسان، 2014، بمكة المكرمة، وصلي عليه في الحرم المكي) منضويا تحت لواء أخيه. كان امتدادا وظلا وفيا له في العمل الحركي والإنتاج الفكري. أعاد إنتاج مفاهيم أخيه، وكررها وجسدها، وقربها كمنهج تربوي مفصل شكل تأثيرا كبيرا على فكر التيارات الإسلامية وبالأخص المتفرعة من إطار «الإخوان المسلمين»، حيث حظيت أفكاره بحضور بارز ومفصل في أفكار التيار الإسلامي الحركي في السعودية، تماما كما كان لأخيه سيد ذلك الحضور.
لكن ما علاقته بتنظيم 65، وما هي قصة «تنظيم محمد قطب»، الذي فتحت من أجله سلطات أمن الدولة المصرية تحقيقات موسعة مع عدد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين؟
تروي زينب الغزالي مجددا تتمة نشاط أعضاء الجماعة الفاعلين خارج السجون فترة الستينات، حين كانت تصلهم التوجيهات مباشرة من سيد قطب، وتقول: «رأينا خلال فترة الإعداد التربوي أن يكون هناك مستشار يشرح ويوضح لنا توجيهات سيد قطب وتعليماته».. و«لذلك قررنا، ورأينا أن يكون الأستاذ محمد قطب هو مرجعنا، وبإذن من المرشد الهضيبي كان الأستاذ محمد يأتي بشكل دوري إلى بيتي في مصر الجديدة، ليوضح للشباب ما غمض عليهم فهمه. وكان الشباب يستوضحونه ويسألونه أسئلة كثيرة يجيب عنها».
وضمن منهج الإعداد التربوي للتنظيم السري، وضع سيد قطب مجموعة من الكتب والمراجع التي تشكل المنهج الدراسي والتربوي لكوادر التنظيم، وكان من أبرزها، بالإضافة لكتبه، كتب أخيه محمد قطب، حيث يروي أحمد عبد المجيد في مذكراته: «كنا نركز أساسا على العقيدة، ثم الحركة بهذه العقيدة في تنظيم حركي، ثم الدراية والمعرفة بالمخططات الصهيونية والصليبية وأعوانها لضرب الإسلام ووسائلهم في ذلك. فوضع لنا الأستاذ سيد قطب منهجًا دراسيًا وتربويًا للسير عليه مع إخواننا. ومن أهم الكتب والمراجع التي احتواها هذا المنهج: (منهج التربية الإسلامية)، (جاهلية القرن العشرين)، (هل نحن مسلمون؟)، (معركة التقليد) لمحمد قطب، إضافة إلى كتب من تأليفه، وأخرى لأبي الأعلى المودودي وآخرين».
ونتيجة لذلك، كان موضوع محمد قطب من أكثر المحاور الرئيسة التي تناولتها ملفات التحقيق مع زينب الغزالي، كما تروي في مذكراتها، حيث كان شمس بدران - وزير الحربية في عهد عبد الناصر - يسائلها كثيرا عن «التنظيم الخاص الذي أسسه محمد قطب، وخطط لاغتيال عبد الناصر». ونفت الغزالي ذلك بشدة. وعلى الرغم من أنها قررت في الكتاب عينه أن محمد قطب كان يزورها في بيتها بانتظام بأمر من المرشد، للإجابة عن إشكالات أفراد التنظيم، فإنها أجابت حين سألتها النيابة «لماذا كان يزورك محمد قطب في بيتك باستمرار، حيث يلتقي مع شباب الإخوان؟»، فقالت إن أمينة وحميدة شقيقتي محمد قطب اعتادتا زيارتها «وأحيانا كان يأتي محمد معهما فيلتقي بالشباب المسلم الفاضل صدفة!».

* محمد قطب.. الحيرة والتحول

* في بلدة موشا ضمن محافظة أسيوط مصر، ولد محمد قطب في شهر أبريل عام 1919، ونشأ في عائلة كان لها أثر بالغ في تاريخ الحركة الإسلامية بمصر، بشقيه الفكري والحركي، بين الرجال والنساء على حد سواء. فأخوه الأكبر سيد كان الرجل الثاني في الجماعة بعد حسن البنا، تأثيرا وحضورا، وأعدم عام 1966. أما أختاه أمينة وحميدة فكانتا من أبرز «الأخوات المسلمات» الفاعلات في الجماعة، وجميعهن تعرضن للاعتقال. تزوجت أمينة من القيادي الإخواني كمال السنانيري الذي توفي داخل معتقله عام 1981. أما حميدة فكانت تلقب في الأدبيات الإخوانية، بـ«عذراء السجن الحربي»، ووجهت لها اتهامات بنقل معلومات من سيد قطب داخل السجن إلى زينب الغزالي. في هذا الوسط نشأ محمد قطب، وكانت دراسته في القاهرة بجميع مراحلها، حيث درس فيها المرحلة الابتدائية والثانوية، وتخرج في جامعة القاهرة التي أخذ منها الإجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها عام 1940. بعد تخرجه في الجامعة، بدأ اهتمامه بالتعليم والتربية يظهر، فاتجه نحو معهد التربية العالي للمعلمين بالقاهرة، وحصل منه على شهادة دبلوم في التربية وعلم النفس عام 1941. وعمل بعد ذلك أربع سنوات في التدريس، ثم في دار الكتب المصرية، وبعدها أصبح مترجما في وزارة المعارف المصرية، ثم انتقل إلى الإدارة العامة للثقافة في وزارة التعليم العالي بمصر.
كانت شخصية أخيه الأكبر حاضرة بقوة في حياته، ومؤثرة عليه إلى حد الامتزاج الكامل، وذلك بات واضحا في كل أفكاره وإنتاجه، وطريقة كتابته الأدبية التي تحاكي أسلوب أخيه، بل حتى في كيفية تحوله من الأدب والشعر إلى الفكر والنضال الحركي. يقول محمد عن أخيه سيد: «لقد عايشت أفكار سيد بكل اتجاهاته منذ تفتح ذهني للوعي، ولما بلغت المرحلة الثانوية أصبح يشركني في مجالات تفكيره، ويتيح لي فرصة المناقشة لمختلف الموضوعات، فامتزجت أفكارنا وأرواحنا امتزاجا كبيرا، بالإضافة إلى علاقة الأخوة والنشأة في الأسرة الواحدة، وما يهيئه ذلك من تقارب وتجاوب»، وفقا لما نقله عنه محمد المجذوب في كتاب «علماء ومفكرون عرفتهم».
وكما كان سيد مهموما في بداية حياته بالأدب والتصوير الفني، و«النقد الأدبي أصوله ومناهجه»، ثم تحول حتى وصل إلى مرحلته الأخيرة التي جسدها بوضوح في كتابه «معالم في الطريق»، كان كذلك محمد قطب في مسرى حياته كما يقول. فقد كان تائها ضائعا في الأدب والشعر، ولم ينتبه لحقيقة «المكائد ضد الإسلام» من حوله، حتى جاءت «فتنة السجن الحربي» التي اعتقل فيها هو وأخوه سيد بعد أحداث 1954، حيث كان لذلك الحدث بالغ الأثر في نفسه، إذ إنها كما يقول «أول تجربة من نوعها، كانت من العنف والضراوة بحيث يمكن لي القول إنها غيرت نفسي تغييرا كاملا. كنت أعيش من قبلها في آفاق الأدب والشعر والمشاعر المهمومة، أعاني حيرة عميقة، وكانت تلك الحيرة تشكل أزمة حقيقية في نفسي استغرقت من حياتي عدة سنوات، غير أن الدقائق الأولى منذ دخولي ذلك السجن، والهول الذي يلقاه نزيله، بدلت ذلك كل التبديل. لقد أحسست إذ ذاك أنني موجود، وأن لي وجودا حقيقيا، وأن الذي في نفسي حقيقة وليس وهما، وهذه الحقيقة هي السير في طريق الله، والعمل من أجل دعوته، وعرفت حينها حقيقة المؤامرة الضارية ضد الإسلام، وانتهت الحيرة الضالة، ووجدت نفسي على الجادة».
أصبح محمد قطب يشك في «إسلام» كل المجتمعات الإسلامية، وصار يتساءل دائما: «هل نحن مسلمون؟».. أم أننا نعيش في «جاهلية القرن العشرين»، ونغرق في «ظلمات التيه»، وتنتشر بيننا «شبهات حول الإسلام؟!».. ولذلك يقرر محمد قطب أن الحل في «منهج التربية الإسلامية» الذي يجب أن يقوم عليه «واقعنا المعاصر»، حتى ننتصر في «معركة التقاليد»، ونكشف «المذاهب الفكرية المعاصرة» (عناوين كتب لمحمد قطب).

* منهج للصحوة السعودية

* اعتقل محمد قطب، هو وأخوه سيد، للمرة الأولى بعد حادثة المنشية عام 1954. خرج محمد بعد مدة قصيرة، في حين حكم على أخيه بالسجن 15 سنة. في تلك الفترة، أتم سيد كتابة عدد من كتبه، أهمها «في ظلال القرآن». لكن محمد عاد إلى السجن مرة أخرى في يوليو (تموز) 1965، وبقي ست سنوات، فلم يفرج عنه إلا في مطلع عهد السادات، في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1971.
بعد خروجه من السجن، لجأ محمد قطب إلى السعودية مطلع السبعينات الميلادية باحثا عن الأمان. وفي مكة العاصمة المقدسة، أمضى بقية حياته (قرابة نصف قرن) ناقلا معه تجربته الحركية والفكرية إلى أبناء الصحوة السعودية، فأثر فيهم بشكل كبير، وبالأخص في أبناء التيار السروري، والتي تنزع في مرجعيتها إلى المدرسة القطبية أكثر من البنائية، حيث يحظى سيد بحضور طاغ مؤثر في كتابات وأفكار التيار. ولذلك كان لوجود محمد في السعودية دور مهم في تقريب أفكار المنهج القطبي وترسيخها، والدفاع عن أفكار أخيه سيد، وإزالة مواطن الإشكاليات واللبس التي اعترتها، كما يوضح في ختام مرافعاته عن أخيه في أحد الحوارات الصحافية، مدافعا عن «عقيدة» سيد، قائلا: «لا أقول هذا دفاعا عن أخي، فهو بين يدي مولاه، وإنما أقوله لأني عايشته السنين الطوال، وأعلم بما لا يدع مجالا للشك أنه لم يقع في عقيدته شيء من الزيغ أو الدخن».
عمل محمد على صياغة أفكار سيد في مشروع تربوي حركي مفصل قابل للتطبيق العملي في حياة الحركة، إضافة للمنحى الأهم الذي نحاه محمد قطب مختلفا عن أخيه، عبر تأكيده المتكرر في أغلب كتاباته على المنهج التربوي التدريجي، الذي يستلزم الانخراط في «المجتمع الجاهلي» من أجل التأثير فيه. فهو وإن كان يتفق مع سيد حول فكرة «الحاكمية» و«جاهلية المجتمعات»، فإنه يختلف معه في «المفاصلة والعزلة»، إذ يقرر أن الوصول إلى إقامة «المجتمع الإسلامي المنشود» يكون عبر عملية تربوية طويلة من خلال بناء «قاعدة صلبة» تتغلغل داخل المجتمع «الجاهلي» حتى يتغير وتجد الحركة لها ثقلا جماهيريا قويا بين الشرائح كافة، ولذلك نجد النشاط الصحوي في عز ذروته فاعلا وناشطا بقوة في المدارس والجامعات، ومجال التعليم والنشاط الطلابي، حيث اعتنى قطب كثيرا بمسألة التعليم في كتبه ومؤلفاته، معتبرا إياه حقلا من أهم «حقول المعركة والصراع مع أعداء الدين، لا بد أن تكتسبها الصحوة، وتنقيها من أدران الجاهلية».

* القاعدة الصلبة.. قبل الحكم

* في كتابه «واقعنا المعاصر» (صدر في طبعته الأولى عام 1986 عن مؤسسة المدينة للنشر بجدة)، الذي يعد أحد أهم الكتب المؤثرة والمكونة للمنهج التربوي السروري والإخواني عموما، يقدم قطب الرؤية الحركية المعاصرة لأهم مفاصل التاريخ الحديث، والموقف من مخططات الاستعمار، ووسائل تغريب المرأة، والتعليم، والإعلام والفكر والأدب، ومعالم الغزو الفكري والصليبي على بلدان المسلمين.. «فالعالم الإسلامي اليوم يمر بأسوأ مراحله، يمكن أن نطلق عليها مرحلة (التيه).. انحرف المسلمون انحرافا شديدا عن حقيقة الإسلام، ويحاصرهم الغزو الفكري الذي يحيكه أعداء الأمة من كل مكان».. ولكن «اليوم يدور الزمان دورته، ويبزغ فجر جديد للإسلام مع تباشير الصحوة الإسلامية، يحمله الشباب المؤمن الذي يتطلع إلى اليوم الذي يجد فيه الإسلام مطبقا بالفعل، اليوم الذي يعود فيه المسلمون إلى الاستخلاف والتمكين في الأرض».
يشرح قطب في مقدمته أسباب تأليفه للكتاب قائلا: «هذه محاولة لدراسة الصحوة الإسلامية، وما تحمله من دلالة تاريخية.. ماذا أنجزت، وماذا ينبغي أن تنجز حتى تجتاز أزمتها الحالية، وتصل إلى التمكين الذي وعد الله به المؤمنين.. أردت بمحاولاتي تلك الرد على تساؤلات الشباب المتطلع إلى تحقيق الإسلام في عالم الواقع: لماذا طالت المسيرة؟ لماذا تأخر التمكين؟ ما منهج الدعوة؟ ما الطريق الصحيح؟».
بعد أن يستعرض محمد قطب في كتابه ظلامات «الجاهلية» التي يرزح تحتها العالم الإسلامي في كل المجالات، قدم في الربع الأخير منه الحل الأمثل لمواجهة الواقع المعاصر، والمنهج الأصلح لتحقيق التمكين والوصول إلى الحكم، عن طريق «بناء قاعدة إسلامية صلبة» تكون النواة الرئيسة الأولى للمواجهة مع السلطة «الجاهلية» القائمة، والسند الفعلي الداخلي لأبناء الحركة أمام مخططات أعداء الإسلام، وأعداء الحكم الإسلامي.
يؤكد قطب أن أي استعجال في التحرك من أجل التمكين، أو الصدام مع السلطة قبل «تكوين القاعدة المسلمة المجاهدة» هو «عملية انتحارية لا طائل من ورائها، إلا إعطاء الطغاة حجة لتقتيل المسلمين وتذبيحهم، والناس غافلون عن حقيقة المعركة وكون هؤلاء الطغاة إنما يعملون ما يعملون عداء للإسلام ذاته، وولاء للصليبية الصهيونية التي تحارب الإسلام في كل الأرض».
كيف يمكن إذن بناء «القاعدة الإسلامية»؟
يجيب قطب: «لا بد من ارتياد الطريق الطويل، المجهد الشاق المستنفد للطاقة، وهو طريق التربية.. التربية من أجل إنشاء (القاعدة الإسلامية) الواعية المجاهدة التي تسند الحكم الإسلامي حين يقوم، وتظل تسنده لكي يستمر في الوجود بعد أن يقوم.. فهل يمكن أن يقوم حكم الحركة الإسلامية قبل أن توجد القاعدة المؤمنة التي تواجه النتائج المترتبة على إعلان الحكم الإسلامي، وأولاها تحرش الصليبية الصهيونية كما حدث في أفغانستان والسودان؟!.. إن حكم الحركات والأحزاب العلمانية والشيوعية داخل بلاد المسلمين تجد سندها من القوى الغربية، وتدعمها أميركا وروسيا، ولذلك تصل بسهولة للحكم، أما الحكم الإسلامي فإنه لن يواجه من القوى الغربية إلا العداء، ولن يجد سنده الحقيقي إلا من الداخل، من القاعدة الإسلامية الصلبة المجاهدة!».
لا يضع قطب أي مدى زمني لعملية الإعداد والتربية، يورد في ثنايا حديثه تساؤلات أبناء الحركة المستعجلين، فيقول: «أما الذين يسألون إلى متى نظل أن نربي دون أن نعمل؟.. فنقول لا نستطيع أن نعطيهم موعدا محددا، فنقول لهم عشر سنوات من الآن أو عشرين سنة، فهذا رجم بالغيب، إنما نستطيع أن نقول لهم: نظل نربي حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول».
وبتأكيد قطب على جعل العمل التربوي أولوية طويلة المدى، افترقت (السرورية) عن غيرها من التيارات الحركية الأخرى، سواء السلفية الجهادية، أو السلفية العلمية (أهل الحديث)، حيث رأت الأولى أن استغراق هذا الجهد الطويل في التربية هو إضاعة للوقت وتعطيل عن تحقيق الهدف، فاختارت المواجهة المسلحة المباشرة مع السلطة «الجاهلية» أو «القوى الصليبية الصهيونية». أما الثانية فترى أن استغراق الجهود الحركية في التربية هو انصراف عن الغاية الأساسية، وهي التبحر في طلب العلم الشرعي، وفهم منهج السلف على الوجه الصحيح، بدلا من إضاعة الوقت في أنشطة تربوية واجتماعية «لا تبني طالب العلم»، وقد عبرت عن ذلك مقولة عالم الحديث السوري محمد ناصر الدين الألباني «التصفية والتربية».

* غدا:
* محمد قطب يواصل مشوار أخيه سيد في تكفير المجتمعات الإسلامية



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».