العبث الثقافي بعد ثمانمائة وثلاثين عاماً

معركة حطين الفكرية

الممثل السوري غسان مسعود في دور صلاح الدين في فيلم «جنة السماء» من إخراج ريدلي سكوت
الممثل السوري غسان مسعود في دور صلاح الدين في فيلم «جنة السماء» من إخراج ريدلي سكوت
TT

العبث الثقافي بعد ثمانمائة وثلاثين عاماً

الممثل السوري غسان مسعود في دور صلاح الدين في فيلم «جنة السماء» من إخراج ريدلي سكوت
الممثل السوري غسان مسعود في دور صلاح الدين في فيلم «جنة السماء» من إخراج ريدلي سكوت

الشعوب تنتصر لتاريخها، بل تنتفض له عن حق أو باطل، وأكاد أجزم أن التاريخ من العناصر الحاسمة في التركيبة المُشكلة لثقافة الشعوب وهويتها. وفي مناسبات كثيرة، يعاد إحياء ذكرى المعالم التاريخية بعد قرون بأشكال مختلفة، كما في المعركة المستعرة والدائرة في مصر وخارجها على مدار أسابيع حول شخصية الناصر صلاح الدين الأيوبي، مؤسس الدولة الأيوبية في مصر، الذي يعتبر من أهم الشخصيات التاريخية، وذلك بعد القنبلة الفكرية التي أطلقها المفكر القدير د. يوسف زيدان، عندما ادعى أن «صلاح الدين من أحقر الشخصيات في التاريخ»، وهو ما استتبع سلسلة من النقد للرد على ادعاءاته، فيما أصفه اليوم بعنوان هذا المقال، فقد استند المفكر الكبير في نقضه على مجموعة من الحقائق التاريخية، أو المأثورات في كتب التاريخ، على رأسها أن صلاح الدين رفض الانصياع للخليفة العباسي لمحاربة الصليبيين وخانه، وأنه حرر بيت المقدس صلحاً مع الصليبيين، وليس حرباً، وأنه انتهج أفعالاً مشينة، على رأسها خيانة قائده السلطان نور الدين الذي أرسله إلى مصر طمعاً في حكمها، وأنه حرق مكتبة القاهرة أو الأزهر، وسعى للقضاء على البيت الفاطمي الشيعي الحاكم، وغيرها من المسائل الأخرى التي تبدو منطقية بمعيار اليوم. وقد احتج التيار الجارف على هذه الحملة بالأسانيد التاريخية المُشككة في بعض الحقائق، أو التي فسرت هذه السلوكيات بشكل مختلف، والنتيجة النهائية لهذه المعركة الفكرية هي اهتزاز العقيدة الفكرية والتاريخية للمواطن البسيط من المحيط للخليج، بالنظر لأهمية هذه الشخصية التي نعتبرها اليوم رمزاً قومياً وتاريخياً وثقافياً.
حقيقة الأمر أنني لا أنوي الخوض في معطيات الحجج التاريخية، ولكن في أساسيات النقد الفكري والثقافي لسلوك صلاح الدين الأيوبي، وذلك على أساس المحاور التالية:
أولاً: أختلف شكلاً وموضوعاً مع المعيار الأخلاقي المستخدم في هذه المعركة الفكرية، فالسياسة عمل جماعي تتضاءل معه قيمة المنظومة الأخلاقية الفردية، وهو ما دفع البعض لاعتبار أن الأخلاق ليست ضمن السياسة أو Amoral، بمعنى أنه لا دور للأخلاقيات كمعيار للحكم على الساسة، خصوصاً أن السياسة معيارها النهائي هو «المصلحة مترجمة في القوة»، كما وصفها مؤسس علم العلاقات الدولية «مورجنثاو». وبالتالي، فاستيلاء صلاح الدين على الحكم في مصر لم يكن في الواقع السياسي خيانةً للسلطان، أو للخلافة الفاطمية المنهارة، فهو عمل قوة لأي سياسي يسعى للسلطة، فلو كانت الديمقراطية هي الوسيلة الشرعية الأولى للوصول للحكم اليوم، فإن هذا لا ينطبق على ظروف صلاح الدين آنذاك، فنحن أمام حقبة تاريخية كانت الثقافة السياسية السائدة هي القوة، أو حتى بناء جيوش من العبيد لنيلها أو الحفاظ عليها، فالمنطقة ساد فيها قانون توازنات القوى، أو البقاء للأقوى، كما أن إخضاع مصر للخلافة العباسية المستضعفة آنذاك بالتأكيد لم يكن أفضل من واقعها تحت حكم صلاح الدين، وهذه حقيقة تشهد لها الدولة الطولونية والإخشيدية في مصر قبل ذلك.
ثانياً: إن التركيز على كون صلاح الدين الأيوبي كردياً يعد خروجاً كاملاً عن سياق الثقافة السياسية للتاريخ، فمفهوم القومية لم يكن موجوداً للقياس عليه آنذاك، فلقد حكم مفهوم «الأممية» هذه الفترة وليس القومية، فبطاقة الشرعية للحكم كانت الهوية الدينية الإسلامية السنية، ولا مجال للقياس على تاريخنا بالمفاهيم السائدة اليوم، فعصر القومية جاء في أوروبا في القرن الثامن عشر، وفي مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ونحن أمام معركة فكرية في القرن الثاني عشر لا يجوز استخدام مفاهيم القرن الحادي والعشرين، وليس أدل على ذلك من أن غريم صلاح الدين، الملك ريتشارد قلب الأسد، نفسه كان فرنسي الثقافة والهوية، وأمه فرنسية، بينما كان ملكاً لإنجلترا.
ثالثاً: من الثابت تاريخياً أن صلاح الدين حرق المكتبة، وعقد العزم على القضاء على الخلافة الفاطمية، ومعها التشيع في مصر، منتصراً لمذهبه السني، فأغلق الأزهر الشريف، ووضع «قراقوش» على حكم مصر - وهو بالمناسبة ليس شخصية سيئة كما هو في الإرث الشعبي اليوم. وهذه حقائق لا خلاف عليها، ولكن على تفسيراتها، فاقتلاع التشيع من مصر كان بالنسبة له ضرورة سياسية وحتمية ثقافية متسقة مع عهده. ألم يفعل الفاطميون الشيء نفسه في مصر، باقتلاع المذهب السني لها ولأقباطها، مع تحويلهم أغلبية منهم للمذهب الشيعي قسراً؟ وكتب التاريخ تؤكد هذا، فأغلبية الأقباط تحولوا للإسلام الشيعي، الإسماعيلي آنذاك، تحت الضغوط القسرية، خصوصاً لخليفة مثل الحاكم بأمر الله. وبالتالي، فالضرورة الثقافية والسياسية لشرعية الحكم، كما رآها صلاح الدين في زمنه، لا يمكن القياس عليها من خلال مفاهيمنا الزمنية اليوم.
واليوم، بعد ثمانمائة وثلاثين عاماً على ذكرى انتصار «حطين» المجيد، فإننا ندخل في معركة فكرية مستفزة لا أرى جدوى منها إلا خلخلة مفاهيم ثقافية وسياسية لدي المواطن العربي البسيط، فنحن لسنا ضد نقد التاريخ وصُناعه، ولكننا ضد الاستدلال الخاطئ المعتمد على الثوابت الثقافية السائدة اليوم، فنحن لا بد أن نحترم ما يمكن أن أسميه «الحاكمية الزمنية» واجبة التطبيق على التاريخ وأهله، فالتشكيك في الموروثات التاريخية على أساس زمننا غالباً ما يدفع الشعوب للانتفاض على تاريخها وموروثاتها الثقافية، من ثم فنحن أمام معركة يائسة في حرب عابثة.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.