حميد سعيد: الشعر الحقيقي هو الذي يبدع قراءه

الشاعر العراقي يتحدث عن بدايات القصيدة عنده و«الوعي بها» ونقدها

حميد سعيد
حميد سعيد
TT

حميد سعيد: الشعر الحقيقي هو الذي يبدع قراءه

حميد سعيد
حميد سعيد

أردنا لهذا الحوار مع الشاعر العراقي حميد سعيد أن يكون حول القصيدة، وبداياتها، وزمانها، والوعي بها، ونقدها. وليس سهلا أن تحاور شاعرا يدرك شأن القصيدة، يدركها بحواسه وافتتانه بها مبنى ومعنى، وبهيامه بها باعتبارها قصيدة حالمة، فاتنة، وهاربة دائما. هي الخلاصة التي خرجت بها من محاورة شاعر مثل حميد سعيد، فإجاباته تفتح شهية تعدد الأسئلة وتفرعها وانشطارها إلى قضايا متنوعة تصب في منابع الشعر وتستمد قدرتها الخلاقة من جذوره.

* تظل بداية القصيدة هي المرحلة الأصعب عندك..
- ألا تُشاركني الظن بأن جميع البدايات، على صعيد ما هو إبداعي، تتّسم بالصعوبة؟ وهل تشاركني الرأي في أن معظم القصائد المهمة تتوفر على بدايات متميزة، جماليا وفكريا، حيث تتشكّل المقومات الإبداعية، في بداية إبداعية، هي أشبه ببراعم الشجرة التي تفتح الباب للربيع، أو كما هي بدايات المطر. من المعروف أن الصيادين في البر والبحر تكون أحوالهم وهم في انتظار الصيد، ومن ثَمَّ في أوقات التماس مع ما يصطادون، أحوالا تتسم بالقلق ونشاط الفكر والمخيّلة، مهما كانت خبراتهم واستعداداتهم وتجاربهم، فإذا اطمأنوا إلى دخولها في حبائلهم تراجع القلق وفتر نشاط الفكر والمخيّلة، وكان الحضور للخبرة. كذلك هو العمل الإبداعي وكذلك هي علاقة المبدع به.
تحدّثت سابقا عن تشكّل القصيدة في ما أطلقت عليه «المدى الوهمي» الممتد بين الذهن والمخيّلة، حيث تأتي الكتابة لاحقا، في لحظة يتوحد فيها إيقاعان، داخلي وخارجي، حيث تكون البداية تماثل ما هو على الورقة، مع ما قد تشكل قبلها، وهذا ما يجعل من مرحلة بداية القصيدة هي المرحلة الأصعب. إن البداية هي مرحلة التماس، في حالة الصيد، وإذ تتجلى لي البداية عبر كينونتها على الورقة، أكون قادرا على كتابة القصيدة كما أراها وكما أريدها. قد تتمرد البدايات وتعاند، ولا تدخل في مدى الكتابة، لكن الشاعر بخبرته يعرف كيف يُروِّضها، ويقودها إلى حيث يشاء.
* ليس للقصيدة زمن محدد، على حد تعبيرك، لكن حين تنساب في مجرى النص، هل تمتلك زمنها وتفصح عن مكون التحقيب، أم أنها تنتمي إلى الفضاء اللامتناهي؟
- يمكننا القول إنه ليس من تناقض بين التحقيب وفضاء الزمن اللامتناهي، كما جاء وصفه في السؤال، وإن كان التحقيب حيث يعبر النص الإبداعي عن عصره، فكريا وجماليا، هو ما يمنح الإبداع الكثير من خصوصيته ويمنحه العمق أيضا.
إن ملحمة جلجامش، مثلا، بقدر ما عبّرت عن إشكالية وجودية تتعلق بزمنها، فإنها تواصل حضورها في الزمن بكل متغيراته، وكذلك هي الإلياذة، ومثلهما ما كتبه المعري والخيام وشكسبير. إن القول بأنه ليس للقصيدة زمن محدد لا يعني كونها مقطوعة الجذور عن زمنها ولا تنتسب إليه ولا تعبر عن قضاياه، وإنما هي التي تتواصل مع المستقبل، والتي تمثلّت الماضي وتواصلت معه. فما زلنا إلى اليوم نقرأ امرأ القيس ولبيد وطرفة بن العبد وسحيم عبد بني الحسحاس، وما زالت نصوص الشعراء العذريين ونصوص شعراء المدن، يمثلهم أبو نواس، تشاركنا قراءاتنا وخبراتنا الإبداعية.
ولو ارتضينا جدلا ثنائية التحقيب والفضاء التاريخي، فإن حقبة القصيدة تتوارى خلف الفضاء التاريخي. حتى الموقف في الإبداع، إن كان ثمة موقف في هذا العمل الإبداعي أو ذاك، يتلاشى بتأثير المتغيرات الكبرى، حتى يكاد يفقد ما كان له من أهمية وتأثير، وتبقى المقومات الجمالية في الإبداع حاضرة ومستقطبة.
* قُلت إن مرجعيات الإبداع هي مرجعيات الحياة، هل نفهم من قولك هذا إن الوعي بالشعر هو إدراك الحياة والتماس معها، حتى في تناقضاتها؟
- نعم.. إن ما ورد في السؤال بشقيه أراه صحيحا. خلال أعوام الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كنت أسهر، كلما كنت في مدينة الحلة، مع الزجال المعروف محمد علي القصاب، وكان يتعصب لي شاعرا، رغم أنه شبه أمّي، ولا أظن أنه قرأ شيئا لي، كما لم أقرأ في كل سهراتي معه قصيدة من شعري. لكن لو ذهبنا معا إلى سوق من أسواق المدينة أو إلى أحد مقاهيها لكان في نظر المواطنين هو الشاعر، وما أنا إلاّ واحد من المعجبين بشعره، وفي تلك السهرات كانت أحاديثنا تتشعب، فأتحدث عن أشخاص وتجارب ومدن وكتب وأحداث، وكان يستمع إلى ما أتحدث عنه بشغف، وفجأة يقول: «بهذه المعرفة كانت شاعريتك».
إن هذا الزجال البسيط يدرك العلاقة بين الإبداع والتجربة الحياتية بمصادرها العديدة، ومعظم التجارب الإبداعية المتميزة تمثلّت تجارب معرفية وحياتية متميزة، منها بالتأكيد القراءة، غير أن القراءة وحدها لا تشكِّل فعلا يُعمِّق مسار التجربة الإبداعية، إنْ لم تقترن بتجربة حياتية عميقة وثرية، وبغير هذين العاملين تكون محاولات الإبداع باهتة وضعيفة، لا تترك أثرا ولا تثير أسئلة أو تفتح حوارا، وتظل مهمشة لا تدخل محيط القبول ولا محيط الرفض، لذا نجد أن النص الشعري الذي لا يتجاوز أن يكون تجريدا لغويا باردا، لا يتوفر على ما يثير التجريد من أسئلة وما يفتح من آفاق على الصعيدين الجمالي والفكري.
لذا يصح القول بأن الوعي بالشعر هو إدراك الحياة، وتجاوز التماس معها إلى الغور فيها والاشتباك معها، في صراعاتها وتناقضاتها وقضاياها، وليس من حدود لآفاق الإبداع، وجميع مفردات الحياة هي التي تشكّل المدى الذي يتحرك فيه.
* من خلال وعيك الشعري والنقدي في آن، من الأكثر تأثيرا، هل هو المبنى/ الشكل، أو المعنى/ المحتوى والمضمون، وأيهما يُدخل القصيدة إلى مملكة الشعر؟
- المبنى/ الشكل والمعنى/ المحتوى والمضمون، تقسيم افتراضي، لا يتجاوز حضورهما بعض القراءات النظرية، أما في القراءة الإبداعية، حيث يكون المتلقي شريكا في النص، فمثل هذا التلقّي بمنأى عن هذا التقسيم الافتراضي، فبوحدتهما تكون القصيدة، وبهما موحدين تدخل إلى مملكة الشعر. إن تحولات القصيدة، منذ طفولتها الأولى حتى الآن، وفي جميع الثقافات واللغات، لا ينفصل فيها المبنى عن المعنى، وفي أي تحوّل يكون الجديد واحدا وموحدا. إن الشكل سواء كان في الشعر أو في مجالات الإبداع الأخرى ليس إطارا خارجيّا، يؤطر المعنى، بل هو بعض المعنى والمعنى بعض منه، والقصيدة هي أعلى حالات التكامل بينهما.
* الشعر الحقيقي هو الذي يبدع قراءه، هذه المقولة لك.. هل للشعر في زماننا مثل هذه القدرة الخلاّقة على تفعيل هذا الإبداع؟
- التجارب الشعرية، سواء تمثّلت في تجربة شاعر أو في شعر مرحلة أو في موجة شعرية جديدة، تتجاوز السائد والشائع والمألوف، بهذا القدر أو ذاك، وتؤسس لذائقة ووعي جديدين، وهذا التجاوز يضع حدا بينها وبين المتلقي الذي ألف ما كان، وصار من غير اليسير عليه مغادرة المألوف والاستجابة لما هو جديد.
غير أن التجارب المهمة، حتى وهي تغادر الشائع والمألوف وتبتعد عنه، وتأتي بما هو جديد وخارج محيط ما هو مألوف، تواجه المتلقي بالدهشة وتثير أسئلة تفتح مجالات الحوار، وقد تأخذه إلى إلفة أخرى معها. هذا ما أقصده، في ما قلت، بأن الشعر الحقيقي هو الذي يبدع قرّاءه، وهذا يحدث الآن كما كان في الماضي وربما سيكون في المستقبل أيضا، بل هذا ما حدث في جميع المتغيرات التي عرفها الشعر.
في بدايات التحوّل الذي عرفه الشعر العربي في النصف الأول من خمسينات القرن الماضي، من خلال نصوص الشعراء الرواد، كنّا نتجاوز ما ألفنا، وفي استجاباتنا لذلك الجديد من جهة، وفي صدامنا مع أولئك الذين هم في حالة قطيعة مع الأسئلة، مع ثباتهم على ما ألفوا من قبل، من جهة ثانية، فنكون بعض هذا التحوّل، وهكذا يبدع الشعر قراءه. ولم يحدث أن كان القارئ في توجهاته الجديدة ووعيه بالمتغيرات قد سبق النص الجديد ومتغيراته، ولو راجعنا تاريخ الأدب لوجدنا هذا الحوار الخلافي قد رافق كل حركات التجديد، وجميع المتغيرات الإبداعية.
* هل ما زالت الأوراق الجميلة والأقلام الجذابة ترافقك في مواصلة الكتابة؟
- يذكرني هذا السؤال ببيت شعري شهير للشاعر عمر بن أبي ربيعة:
«وذو الشوق القديم وإنْ تأسّى.. مشوقٌ حين يلقى العاشقينا».
وأقول: أبعدتني الظروف التي أعيشها في السنين الأخيرة، منذ أن غادرت بغداد بعد احتلالها، عن بعض ما يمكن أن يعدَّ ترفا، وتنازلت عن حاجات أساسية وغير أساسية، وغيّرت بعض ما كنت قد اعتدت عليه من متطلبات الحياة، وقاطعت أخرى. حتى ما أشار إليه السؤال بشأن الأوراق الجميلة والأقلام الملونة، أكاد أكتفي بما يتوافر لي منها، لكن ما إن أمرُّ بأحد محلات القرطاسية وأراها معروضة في الواجهة أو على الرفوف، فإنها تغويني وأكون ضعيفا أمام الرغبة في اقتناء ما يلفت نظري منها، فأضيفها إلى ما عندي، وهو كثير.
في الصيف الماضي رافقت حفيدتي «فاطمة» إلى إحدى مكتبات القرطاسية في شارع الغاردنز بعمّان، وهي مغرمة بتجميع الدفاتر والأقلام، وإذ كانت تختار من معروضات تلك المكتبة منها، وجدتني أنا الآخر أقتني بعض ما تقتنيه حفيدتي. وما زال ابني د.مصعب يجمع لي ما يعجبه من الدفاتر الأنيقة والأقلام الرشيقة، ويقدمها لي كلما التقينا. وفي حواراتي مع الشاعر الفلسطيني هشام عودة التي نشرها في كتاب «الشمعة والدرويش» وردت إشارة إليها، لذا وبعد صدور الكتاب وصلتني هدايا كثيرة من الدفاتر والورق والأقلام، لذا، ما زلت أكتب قصائدي على أوراق أنيقة وأفضّلها صقيلة، ولا يتجاوز حجمها حجم الكف، وبعدد من الأقلام الملونة. حتى حين أكتب مقالة أجدني أميل إلى اختيار أوراق صغيرة الحجم نسبيا، ولا أحب الكتابة على الأوراق كبيرة الحجم.
* دفترك الأخضر الذي سرقته امرأة مجنونة، أيام كنت صبيا، هل تتذكر بعض ما كتبت على صفحاته، وهل تحنُّ إليه؟
- يا لك من منقِّبٍ ماهر ومثابر، من أين لك هذه الحكاية؟ حكاية الدفتر الأخضر صارت جدّ بعيدة، حتى حين تحدثت عنها يوما كان ذلك قبل زمن طويل، ثم طوتها الأحداث والسنين. لكن سؤالك هذا يمنحني فرصة للحديث عنه:
حين التحقت بالصف الأول الابتدائي في عام 1948، كانت آثار الحرب العالمية الثانية ما زالت قائمة ومؤثرة - أدركت هذا طبعا في ما بعد - ولم يكن من اليسير الحصول على دفاتر مدرسية حسنة الصنع، وأذكر أن بعض الدفاتر التي كانت توزع التلاميذ الفقراء من قبل إدارة المدرسة تتمزق أوراقها بمجرد مرور القلم عليها، ولم أكن قد رأيت دفترا أنيقا ولا أتيح لي أن أحصل على قلم صالح للكتابة بيسر، ليس لأنني غير قادر على اقتنائها، ولكن لأن ما كان متوفرا منها في الأسواق من أردأ الأنواع.
لقد كنت في الصف الثالث الابتدائي يوم حصلت على دفتر أنيق بغلاف سميك أخضر اللون، وكان من الهدايا التي تقدمها إحدى شركات الدخان المحلية. لم أعد أتذكر كيف حصلت عليه، لكنني وفي الوقت ذاته حصلت على قلم حبر، وصرت أكتب على صفحاته ما كنت أستمع إليه من أغان وأهازيج وأبيات شعر، ثم بدأت أحاول تقليدها بالقدر الذي أستطيع، لكنني لا أتذكر الآن شيئا مما كتبته على صفحات ذلك الدفتر الأخضر، الذي سرقته منّي امرأة مجنونة، لم أستطع استرداده منها، مع أنني أتذكر غلافه وصفحاته بوضوح، بل أتذكر كتاباتي الأولى بقلم الحبر، ولم يكن خطي قد استقرّ بعد، إذ صرت في مرحلة لاحقة أكتب بخط «الرقعة»، واختياري خط الرقعة كان من دون توجيه، وربما لأن والدي كان يكتب بخط الرقعة، بجمال ووضوح. لقد بقيت أعواما طويلة أنتظر عودة الدفتر الأخضر وأحلم به، وكانت مخيلتي تبالغ في أهمية ما كتبت على صفحاته. أما الآن، فما عدت أنتظر عودته ولا أحلم به، بل ما عاد يخطر ببالي، لكنك بهذا السؤال أعدتني إليه وإلى زمانه.
* وفاطمة، أما زالت تنتظرك في بغداد.. ومن هي فاطمة، هل هي امرأة، أم أنها حلم؟
- كانت طفلة في عامها الرابع أو الخامس، تشارك الأولاد السباحة بشط الحلة، وتسبقهم وهي تعوم بثوبها الطويل والسميك، وربما كان ثوبها الوحيد، ثم غابت، ولم أعرف سببا لغيابها. لكنني كنت أتخيلها كلما اقتربت من النهر مساء، وكانت تكبر معي كلما كبرت، إذ بمرور الزمن كنت أتخيل تلك التي تخرج لي في المساءات من النهر، صبيةً وشابةً وامرأة. وكانت تمثل لي من ينتظرني وليس من أنتظره، ثم صارت رمزا لكل ما كان غائبا، وأبحث عنه. يا الله.. كم تمنيت أن تكون الآن في انتظاري ببغداد، لكنني أكاد أشكّ بأن مثل هذا اللقاء سيكون.
* الكاتب العراقي الراحل عبد الحميد العلوجي قال يوما: إن حميد سعيد يتغزّل بامرأة جميلة، ويوهمنا بأنه يكتب عن تأميم النفط!
- كان الراحل عبد الحميد العلوجي مثقفا موسوعيا وإنسانا جليلا، ساخرا ومحبّا ومتواضعا، وكنت أناكده باحترام ومحبة، إذ كلما سافرت وبخاصة إلى مصر وأقطار المغرب العربي، ووجدت كتابا من كتب الجنس ذات الطابع الشعبي، كنت أرسله إلى عنوانه في وزارة الثقافة والإعلام من دون أن أفصح عن مرسله، لكن حين نلتقي بعد ذلك يتجاهل أنني من أرسل له ذلك الكتاب، لكنه يحدثني عنه، عن تاريخه ومؤلفه وطبعاته وأخطاء النشر وما إلى ذلك مما يتعلق بذلك الكتاب. أما قوله الذي يشير إليه السؤال، فقد كان بشأن قصيدة «عن القصيدة» التي كتبتها بعد معاناة، عن انتصار العراق على الشركات الاحتكارية النفطية، في معركة تأميم النفط العراقي في نهاية ربيع 1972 وبداية صيفه، إذ ما اعتدت أن أكتب قصيدة في مناسبة وما كان مناسبا ألا أكتب قصيدة في انتصار وطني كهذا.
وقد كتبت عن هذه التجربة، في كتابي «الكشف عن أسرار القصيدة» بكثير من التفاصيل، لا أريد تكرارها، إذ بالإمكان العودة إليها في كتابي المذكور. نعم.. لقد كانت قصيدة مختلفة، غير مباشرة، وكانت استثنائية بين ما كتب من شعر عن ذلك الانتصار التاريخي، بل هي استثنائية في ما يكتب من شعر في المناسبات والمعارك الوطنية، وكان العلوجي، في ما قاله أيامذاك، يفصح عن طرافته وسخريته الراقية، من جهة، وعن وعيه، بل عن وعي المرحلة التي ينتسب إليها بشأن شعر المناسبات بعامة، والشعر الوطني بخاصة، فهو مثل كل أبناء تلك المرحلة، يصعب عليهم قبول كتابة قصيدة غير مباشرة في مناسبة من نوع الانتصار في معركة تأميم النفط العراقي على الشركات الاحتكارية التي تحكم العالم وتتحكم في مصائر الدول والشعوب.



جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).