الشعر كسلاح سياسي عابر للأزمنة

انهضوا من غفلتكم كما الأسود
بكثرتكم التي لن يهزمها أحد
انفضوا عنكم قيودكم كما تنفضون قطرات ندى
تجمعت عليكم أثناء غفوتكم
فأنتم كثرٌ وهم قليلون

تلك هي الأبيات الشعرية التي ألهمت شعار مانفستو حزب العمال الذي أعاد للعماليين ألقَهم المفقود.الأبيات التي يلامس عمرها القرنين يلقيها نجم السياسة البريطانيّة هذه الأيام وزعيم حزب العمال المعارض على جمهوره حيثما ذهب لتتحول إلى ترنيمة من غضب يحمل في أجندته وجع الناس وأحلامهم.
إنها كلمات عصيَّة على الموت والاندثار من قصيدة (قناع الفوضى) كتبها عام 1819 الشاعر الإنجليزي بيرسي بايشي شيللي (1792 - 1822) إثر مذبحة بيترلو التي واجه فيها فقراء مانشستر المتظاهرون العزّل قوة الفرسان الملكيّة وانتهت يومها إلى مقتل وجرح العشرات من المطالبين بإصلاحات برلمانيّة. وبينما نسي البريطانيون بيترلو ومتظاهريها وضحاياها أو كادوا، فإن أبيات شيللي المتوقدة بالغضب بقيت بعد مائتي عام وكأنها بيان ثوري هادر قادر على إلهاب القلوب ودفع الجماهير إلى الحراك من لحظتها.
القصيدة التي كانت روحَ شعار (من أجل الأكثريّة، لا من أجل القلّة)، وصارت رفيقة كوربن في مهرجاناته الخطابيّة أعادت إلى الأذهان تلك القوّة الهائلة التي يمتلكها الشعر ليأخذ الكلمات إلى مطارح لا تذهبها وحدها، وينقل اللغة إلى حدود المواجهة الفرديّة مع ذات المتلقي كي يتخذ موقفاً.
شيللي نفسه، في كتابه (دفاعاً عن الشعر) كان يرى «إن الشعراء هم الذين يشكّلون العالم من غير أن يلحظهم أحد»، وهو وإن لم يعش ليشهد بأم العين ماذا تفعل قصائده بالبشر، كان كعرّاف يطلّ من شرفته على مستقبل الأيام ويرى.
كثيرون ذهبوا إلى أن السياسة عندما تُقحم في الشعر هي تحميلٌ لما لا يُحتمل. بل إن فيلسوفاً مثل جيه. إل. أوستن في كتابه (كيف تعمل بالكلمات أشياء) ذهب إلى أن الشعر يتعارض حتى مع الجديّة: فهو موسيقى تطرب القلب وتتحدث للمشاعر بينما الجديّة تحتاج إلى العقل، لا سيما أن هموم السياسة قصيرة المدى ولحظيّة في غالبها مما يجعل القصائد المحملة بها عرضة لحكم الزمن الذي لا يرحم. لكن على الأقل، وفي المملكة المتحدة بالذات، فإن الشعر عاد على يد شيللي ورفاقه ليطرق الأبواب من جديد كسلاح سياسي ماض عابر للأزمنة. وقد نقلت إحدى المجلات البريطانيّة المتخصصة بشؤون النشر أن هنالك إقبالاً متزايداً خصوصاً بين الشباب على اقتناء دواوين الشعر قديمها وحديثها، وأن مبيعاتها تزداد على نحو لافت الآن بما لا يقل عن 15 في المائة سنوياً، متفوقة بذلك على نسب نمو أرقام مبيع نوع معظم الأشكال الأدبيّة الأخرى. والأمر بالطبع ليس مقتصراً على الكتب المطبوعة، إذ إن الإنترنت - التي كان يخشى الخبراء أن تُهمش الكتب والقراءة والشعر ضمناً - صارت فضاء تُزهر فيه القصائد وتجعل من كلمات يقولها شاعر جامايكي غاضب أسود في شارع خلفي بالبرونكس بالكاد يسمعها العشرات ربما، تنطلق مترددة في الفضاء الافتراضي كأنها موسيقى ناريّة تنتقل عبر الأثير للملايين، إذ إن هنالك مئات الآلاف من غرف النقاش ومجموعات القراءة والكتابة والمدونات العامة والخاصة التي لا هم لها إلا الشعر، هذا سوى ما يتداول على نطاقات واسعة في شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة. كما أن الإقبال غير المسبوق لحضور المهرجانات الشعريّة على ضفتي الأطلسي بالذات رغم كل سياسات التقشف الحكومي التي استهدفت ميزانيات الفنون والآداب، وفي هذه الأوقات المظلمة بالذّات، هو دليل لا لبس فيه على قدرة الشعر متفرداً بالتعبير عن مآزق عيش الناس وأشواقهم، بل وتأبيد قضاياهم. فكل شيء يذوي مع الأيّام، حتى الشاعر نفسه، لكن القصائد وحدها سرمدية البقاء.
من أين يأتي الشعر بتلك القدرة الاستثنائيّة على الحياة؟ لا أحد يعلم. إنه سحر الوجود ذاته. مات برتولد بريخت واندثر الرّايخ الثالث، لكن كلمات (الأزمنة المظلمة) بقيت كمنارة تشع كلما اقترب من شواطئنا فاشستي آخر. مات محمود درويش، وتاهت قضيّة فلسطين في دهاليز السياسة وحروب الإمبراطوريّات، لكن (سجّل أنا عربي) و(وطني ليس حقيبة) ستبقى تقض مضاجع الاحتلال الإسرائيلي ولو بعد ألف عام. مات بابلو نيرودا، ولم تقم دولة العمّال في تشيلي بعد سلفادور أليندي، لكن (نشيد إلى أمهات الشّهداء) بقيت تلهم كل مناهضي الفاشيّة عبر العالم. ونسي العالم أبا القاسم الشابي وتونسه، لكن كل عشاق الحريّة يرددون معه (إذا الشعب يوما أراد الحياة). هو الشعر وحده - هذا الذي يملأ الكلمات بالنور والنار، ويرسلها كنجمات مضيئة في السماء - قادر على إبقاء جذوة المشاعر الإنسانيّة الجمعيّة متقدة عبر الأزمنة والأماكن.
ليس الشعر ديوان العرب وحدهم. لقد كان الشعر وما يزال صوت كل الذين لا صوت لهم من الضحايا والمضطهدين والمهمشين والمستعبدين. وحده الشعر سجّل صوت الهنود الحمر الذين ذبحهم الرجل الأبيض بألف سيف وسيف، وزفرات آلام المهاجرين المكسيكيين والآسيويين إلى القارة الجديدة، ونهضة سود أميركا في وجه العنصريّة، وهموم الطبقة العاملة البريطانيّة، وغضب الآيرلنديين على محتلهم، وعناد المقاومين الإسبان الإيطاليين لحكم الفاشسيت، وحزن نساء السلفادور الذي لا يتسع له العالم. من غير الشعر، كانت كل هذه التراجيديات المخضبة بالدماء والآلام ستنتهي إلى صناديق النسيان المغبرّة التي لا يفتحها أحد. لا يحتاج الشعر حتى إلى كلمات كبيرة لينطق باسم المضطهدين. بل إن مؤرخي الثقافة الشعبيّة متفقون الآن في معظمهم على أن الشعر - سواء كان مباشرا في طرحه السياسي أو غير مباشر - هو في النهاية موقف سياسي محض بشكل أو بآخر. فقصيدة غزل قد تكون لسان حال ثورة مكبوتة، وكلمات امرأة عاشقة قد تكون تحديّاً لهيلمان البطركة كلها، وحتى طريقة استخدام ضمير المتحدث إعلان عن نهوض أمة.
وقد كتبت فيونا سامسون وهي باحثة اجتماعيّة بريطانيّة معروفة أنها وجدت بين المساجين، والمرضى في المستشفيات، ونزلاء المصحات عدداً من متعاطي الشعر يفوق بمراحل نسبة الشعراء بين الناس العاديين. عند سامسون فإن الشعر وحده كان قادراً على منح الكرامة لعواطف مكثفة يعيشها هؤلاء الراقصون على الهوامش بين الحياة والموت.
ولعله من سخريّة الأقدار أن أكثر من يدركون قدرة الشعر الهائلة هذه على تثوير الكلمات وإدانة الغاصبين هم أساساً الطغاة والمحتلون والغزاة أنفسهم، وهم على اختلاف دولهم ومشاربهم وأزمنتهم، اجتمعوا على قلب رجل واحد في مواجهة الشعر ومطاردة الشعراء بالذات كأنهم خطر ماحق، فاغتالوهم ولاحقوهم وصادروا دواوينهم وحاصروا كلماتهم. فكأن كل شاعر عندهم هو غارسيا لوركا آخر. الشعر سيبقى كما كان منذ أن وجدت اللغة، وقفة بطعم النور في صوت البشر الزائلين عند مواجهتهم الزمن والمألوف والطغاة. بالشعر غيّر هؤلاء العرّافون العالم ويغيرونه اليوم: بكلمات قصائدهم التي ما إن تنطلق من أفواههم حتى تتصاعد إلى السماء كنيازك مشتعلة. الشعر متآمرٌ أبدي مع الأكثريّة دائماً ضد القلّة. أسألوا عن ذلك جريمي كوربن.