«حدوتة مصرية» - 1982 الفيلم الثاني «والأفضل» في ثلاثية شاهين الذاتية

واحد من الأسباب التي ميّزت المخرج يوسف شاهين عن سواه من المخرجين المصريين، ما جعله سينمائياً مرموقاً محلياً وعالمياً (بحدود المهرجانات الدولية التي اشترك بها على الأقل)، اختياره أسلوب سرد غير سائد بين باقي أترابه الذين مالوا، ولا يزالون، إلى تأليف أساليبهم من نساج طبيعة الإيقاع من حولهم والسلوكيات السائدة.
«حدوتة مصرية»، هي مناجاة ذاتية من شاهين إلى شاهين. هو الطفل الذي يفتح صفحات المستقبل، وهو الرجل الذي يقرأ صفحات الماضي. وكل هذه الصفحات عنه وعن أحلامه وذكرياته كما عن الواقع والوقائع التي حدثت له ومعه حين أصبح مخرجاً معروفاً. يريد، في هذا الفيلم، أن يتحدّث عن حياته الأولى وحياته اليوم، وعن ذكريات الأمس ومشكلات الحين، وعن الرقابة والسياسية والمهرجانات العالمية والنظرة الغربية الفوقية وعن عواطفه تجاه زوجته وتجاه أمه وباقي الناس والأقارب. بل هو فوق ذلك كلّه، يريد أن يتحدث عن نفسه صبياً وشاباً ورجلاً، وأن يربط هذه المراحل بلغة سينمائية متطورة لا تعرف التسلسل لكن عليها أن تعرف السلامة والوضوح.
سابقاً في أفلام مثل «الاختيار» و«عودة الابن الضال»، حقّق نجاحاً أقل على صعيد مراجعة الذات. أعماله تلك تميزت بغموضها، وسيناريوهاته بدت مشوشة الأفكار. كان شاهين دائماً توّاقاً لأن يقول كل شيء في الفيلم الواحد، ومن الفيلم إلى المشهد ومن المشهد إلى اللقطة المفردة. لكن ربما هو غياب المنظور الشامل من أمامه، أو قد تعثره في التعبير (أو كليهما) ما كان يحجب إيصال رسالاته ببلاغة وبوضوح.
في «حدوتة مصرية» (الواقع بين «إسكندرية ليه؟» و«وداعا يا بونابرت»)، تخلّص شاهين من كثير من هذه العوائق. كشف فيلمه بوضوح كل ما تعرّض إليه. إنّه فيلم جريء للغاية على الصعيد الشخصي. ففي السينما العربية (أو حتى في الرواية أو المسرح)، لم يسجل وقوف فنان - مؤلف ليقول أشياء يعتبرها الآخرون مهينة أو معيبة. في مشهد وصول يحيى (نور الشريف) إلى غرفته في الفندق بالعاصمة البريطانية، لندن واستلقائه وحيداً في الغرفة، من ثمّ إمساكه بطاقة السائق الخاص الذي كان ودوداً ولطيفاً في حديثه، واتصاله به، أكثر ما يستطيع مخرج الإيحاء به عن طبيعة علاقاته. أيضاً في كل مواقف يحيى (الذي يعبّر عن شخصية يوسف شاهين، كما هو مقصود وواضح)، تجاه عائلته وتجاه الجنس الآخر، ما لم يذهب إليه مخرج عربي آخر.
عمد السيناريو الذي كتبه شاهين بنفسه (عن فكرة ليوسف إدريس)، إلى معالجة شخصية المخرج داخل الفيلم (نور الشريف)، وهي تقف في مواجهة شخصيته صغيراً (كما أداها محسن محيي الدين). عبره فتح شاهين نافذة تواصل ليتكلّم عن الجانب الآخر من التأثير العائلي على الإنسان صغيراً وكبيراً. عن تسلُّط الأم والأخت والزوجة. وعن الشعور الدّفين الذي في ذات ذلك الإنسان بأنّه ينتمي إلى الآخرين أكثر من انتمائه إلى نفسه. ذلك الشعور الذي يقرّر، وهو على سرير عملية القلب الجراحية التي أجريت له، نبذه والانطلاق. إذا ما عاش. في حياة جديدة مستقلة، يعود فيها إلى براءته ويعاشر طموحاته الأولى التي خانها.
هناك الكثير من الحقائق التي مرّت في حياة شاهين، واختار عرضها على الشاشة في ثلاثيته الذاتية الشهيرة (بدأت بـ«الإسكندرية ليه؟» 1979، وانتهت بـ«الإسكندرية كمان وكمان»، 1989)، لكنّ ليس كلّ ما عرضه صادق بالضرورة. كما أن ليس كل مشهد نفّذه هنا، لا بد أن يعبّر تماماً عمّا دار في الواقع.
شاهين ترك بعض الخيوط غير المترابطة هنا، لكن على الرغم من ذلك، صنع أحد أفضل أعماله التي كان من بينها ما هو أضعف سياقاً من هذا العمل، بما فيها الجزآن الأول و(خصوصاً) الثالث من ثلاثيته.