العلمانية... مفهوم سيئ السمعة

مرتبط في الأساس بالتاريخ الأوروبي والتجربة الكاثوليكية بالأخص

TT

العلمانية... مفهوم سيئ السمعة

تؤكد نظريات علم النفس أن الإنسان كثيراً ما يرتكب تلقائياً خطوات تؤدي لإنكار بعض تجاربه السلبية لإيداعها طرف النسيان فيما يعرف بالـ«Denial»، وهو أمر طبيعي لدى الفرد، ولكن خطورة الأمر تكون عندما يحدث هذا على مستوى العقل الجمعي؛ حينئذٍ نكون بحاجة إلى وقفة حقيقية أمام أنفسنا، وهو ما يحدث كل مرة نستخدم فيها مفهوم «الحكم المدني» في محاولة منا للتغلب على التناقض الداخلي الذي يولده استخدام لفظ «العلمانية» Secularism في القاموس الاجتماعي لدينا، فهو مفهوم سيئ السمعة يفسَّر لدى العقل الجمعي العربي والإسلامي على أنه المرادف لـ«الكفر» أو «ترك الدين»... إلخ. وواقع الأمر أن هذا المفهوم مرتبط في الأساس بالتاريخ الأوروبي، والتجربة الكاثوليكية بالأخص دون غيرها من المذاهب. واللفظ في واقعه اشتق من الصراع بين السلطة الزمنية وأطلق عليها لفظ «السلطة العلمانية»، وبين سلطة الكنيسة، وهو صراع تعرضنا لبعض أسسه في المقال السابق الخاص بحركة الإصلاح الديني في أوروبا، الذي نشب بسبب تدخلات الكنيسة الكاثوليكية في شؤون السياسة وسعيها للسيطرة التدريجية على مقاليد الأمور من خلال الاعتقاد الراسخ بأن البابا هو ممثل الإله على الأرض. ولكن سرعان ما تحول هذا الصراع إلى صراع دنيوي، بالتالي أصبح مفهوم العلمانية الدارج هو الاعتراف بالفصل بين الدين وإدارة الدولة، أو بين ما هو حق فردي مثل اعتناق الدين، والحق الجماعي مثل إدارة شؤون الدولة.
ويلاحظ هنا بوضوح أن هذا الصراع لم يمتد على سبيل المثال إلى كنيسة القسطنطينية، لأنها كانت خاضعة لسيطرة البلاط البيزنطي خضوعاً كاملاً، بالتالي فإن حسم الصراع بين السلطتين في الغرب الأوروبي بالأساس كان لصالح السلطة المدنية أو «العلمانية»، فصارت الكنيسة على هامش السياسة في أوروبا؛ على الأقل من الناحية النظرية، وبقيت المسيحية نسيجاً اجتماعياً وثقافياً في الأساس، بينما تدار الدولة من خلال الساسة ومؤسساتها، وقد كان للثورة الفرنسية وما تلاها من تطورات دور حاسم في تثبيت هذا الاتجاه إلى اليوم. ويلاحظ هنا بوضوح أن قيامنا باستيراد أو باستعارة هذا المفهوم في عالمنا الإسلامي السنّي في القرن التاسع عشر، جعلنا نصبغه بمفاهيم غير واقعية لنا؛ سواء بنعته بـ«الكفر»، أو البعد عن الله عز وجل، بوصفه مسعى لطمس الهوية الدينية، والتحلل من كتاب الله، ورفض كل ما هو إلهي والارتكان إلى كل ما هو خاضع للتجربة الإنسانية، بما في ذلك الإلحاد والعياذ بالله. وإمعاناً في الانحراف الفكري، تولد لدى العقل الجمعي مسعى للاستعاضة عن هذا المفهوم، وإلباسه معاني أكثر قبولاً؛ وهو «الحكم المدني». وحقيقة الأمر أنني عند دراسة العلوم السياسية لم أجد سنداً أكاديمياً لهذا المعنى، بل إنه صار مفهوماً للتفرقة بين الحكم العسكري وغير العسكري في الأساس، فنقوم بمطه اليوم لكي يجسد مفهوم الحكم بعيداً عن أي دور للسلطة الدينية، فذهب البعض ليقول إن حكم الخلافة الراشدة وما بعدها ما هو إلا حكم مدني، بينما المقصود في حقيقة الأمر هو أن نوعية هذه الحكومات أو السلطات لم تكن دينية الطابع بقدر ما كانت سياسية الإدارة، وحتى ذلك يشمل اختلافات فكرية وفلسفية واسعة لا مجال للدخول فيها هنا.
وإلى هنا؛ فإنني أتفهم تماماً حساسية هذا الأمر الذي لا أسعى للدخول فيه، ولكن ما يعنيني هنا صراحة هو أننا نسعى للمقارنة مع فكرة غير واردة في تاريخنا السنّي ولا مجال لها من الأساس، فحقيقة الأمر أننا لم نتعرض في تاريخنا الإسلامي بكل ما له أو ما يمكن أن يكون عليه لنموذج وجود سلطة دينية مؤسسية منفصلة عن سلطة الدولة. صحيح أن تاريخنا السنّي كان يتزخرف بمجالس علماء دين أو بمؤسسات دينية مثل الأزهر الشريف، لكنها كانت في النهاية جزءاً من مؤسسة الدولة أو الخلافة، وليست سلطة إكليريكية منفصلة عنهما؛ بالتالي، فإننا لسنا بحاجة إلى استيراد معارك فكرية ومفاهيمية غير واردة، فتاريخ الإسلام السياسي لم تكن فيه مؤسسة مثل كنيسة روما ليكون هناك صراع بين السلطتين. قد تكون هناك مؤسسية دينية في مذاهب غير سنّية قد ينطبق عليها هذا المفهوم وستحتاج معه للوصول إلى حل سياسي لهذا التناقض بين سلطتين، ولكن هذا الصراع غير موجود في تاريخنا، وهو ما يجعلني أقولها صراحة: إن مفهوم العلمانية لا ينطبق على العالم الإسلامي السنّي الذي يمثل الأغلبية في بقاع الأرض من المسلمين، وهو ما يدفعنا هنا إلى وقفة حقيقية لمحاولة فهم سبب الإصرار على أن نجعل من الفكر الأوروبي بوصلةً سياسيةً لنا، إضافة إلى أنني لا أتفهم حقيقة سبب محاولة البعض الاستعاضة بمفهوم «المدنية» عن مفهوم «العلمانية» المرتبط بتجربة غير تجربتنا؛ بل إن الأخطر من ذلك هو افتعال المعارك الفكرية والسياسية الوهمية كما لو أننا ليس لدينا من المشكلات ما يكفي. وإذا كان الغرب يعتز بتجربته؛ فهذا شأنه، أما قيامنا بافتعال أزمة ثقافية - سياسية حول العلمانية؛ فهو «الكفر» بتاريخنا والجهل بمسيرتنا، فالعلمانية لدينا مفهوم غير واقعي لسؤال غير مطروح!



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.