في ظل حالة التخبط واللامهنية التي تعتري بعض المنابر الإعلامية في مصر، خرجت مبادرة «ميدياتوبيا» ساعيةً لخلق مناخ إعلامي مثالي أو «فاضل» على غرار مدينة أفلاطون الفاضلة. أسس المبادرة الإعلامي المصري د. محمد سعيد محفوظ في فبراير (شباط) عام 2014 أثناء توليه إدارة معهد الأهرام الإقليمي للصحافة، وخلال الأعوام الماضية تحولت المبادرة من مجرد حلم إلى كيان مؤسسي مستقل، يبلور الشخصية الإعلامية لعدد من طلاب الإعلام من مختلف المحافظات المصرية، ويطمحون في تحول كبير في المشهد الإعلامي المصري والعربي بحلول عام 2020. وقريباً سوف تتسع المدينة الإعلامية الفاضلة للشباب العرب الراغبين في الانتماء لـ«ميدياتوبيا». «الشرق الأوسط» حاورت مؤسس «ميدياتوبيا» حول أهدافهم وطموحاتهم وتأثيرهم في المشهد الإعلامي الحالي.
يستند مؤسس المبادرة د. محمد سعيد محفوظ، على تاريخ مهني مضيء حيث عمل في قناة «بي بي سي» بلندن وأيضاً في قناة «سي بي سي» المصرية والقنوات المصرية المتخصصة و«أون تي في» وغيرها، كما عمل مديراً لمعهد الأهرام الإقليمي للصحافة وهو أستاذ للإعلام بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا.
جيل جديد
من الصحافيين المهنيين
يقول د. محمد سعيد محفوظ إن «الفكرة بدأت برغبة بعض طلاب الجامعة للذهاب في رحلة معاً، ففكرتُ في أن نحوِّل الرحلة لمعسكر تدريبي حول المهارات الإعلامية، وبالفعل أقمنا أول معسكر تدريبي في قرية فجنون بالجيزة، وهي مكان ملهم لإخراج الطاقات الإبداعية، ومع الوقت بدأنا نكرر المعسكرات في أماكن ومحافظات مصر مرتين سنويّاً». توسعت الفكرة ودَعَمَها عدد من كبار الإعلاميين والفنانين المصريين، ومنهم: الإعلامي القدير حمدي قنديل، والفنان الكبير محمد صبحي، وحصلت «ميدياتوبيا» على موافقة حكومية بكونها كياناً مؤسسياً يهدف إلى تدريب الشباب كمؤسسة غير هادفة للربح، وأصبحت تضم 200 شاب وفتاة من 17 محافظة مصرية.
يؤكد محفوظ أن «الهدف الرئيسي من (ميديا توبيا) خلق جيل جديد من الصحافيين المحترفين، والإعلاميين المهنيين، ليحققوا بحلول عام 2020 تغييراً إيجابياً في المشهد الحالي. ويضيف: «بالفعل نجحنا في أن ننال ثقة عدد من المؤسسات الإعلامية التي تلجأ إلينا لعمل دراسات إعلامية عن محتواها لتقييمه وتحسين جودته، بل أصبحوا يطلبون توظيف عدد من خريجي (ميدياتوبيا)، سواء في القنوات الفضائية أو المواقع الصحافية الإلكترونية، منها: قناة (النهار)، وموقع (مصراوي)، وجريدة (الوطن) ومجلة (الشباب)».
«فيروس» الانحيازات
وحول أهم المعايير والقيم التي يطبقها «ميدياتوبيا»، يوضح: «وضع المشاركون في المعسكر الأول للمبادرة ميثاقاً يمثل دستور (ميدياتوبيا) الذي يلتزم به الجميع، من أهم بنوده الالتزام بالموضوعية، والحياد، والقيم المهنية في نقل ونشر الأخبار والسعي للوصول إلى الحقيقة كاملةً لإيصالها للمجتمع والجمهور، وأن حرية التعبير لا تتجاوز حدود حريات الآخرين، بالإضافة إلى الشق الأخلاقي وضرورة الالتزام بالانضباط، والتواضع، والطموح، وتحمل المسؤولية.
وحول أهم شروط الالتحاق بمجتمع «ميدياتوبيا»، يقول مؤسسها: «نحن نرى أن مهنة الإعلام في مصر مريضة، ومرضها انتقل لجسد ووعي المجتمع، فإذا أردنا أن يتعافى المجتمع من أمراض العنف والاستقطاب والإرهاب الفكري، فعلينا أن نقضي فوراً على الفيروس الذي أصاب مهنة الإعلام، وهو فيروس المصالح والانحيازات والأجندات الشخصية والحزبية التي جعلت من هذه المهنة السامية مطيّة لأصحاب النفوذ والسلطة... شباب «ميدياتوبيا» هم الأطباء الذين أتمنى أن ينجحوا في علاج مهنة الإعلام، ولكي يقوموا بهذه المهمة على أكمل وجه، يجب أن يؤمنوا بهذا الواجب الإصلاحي، ويخلصوا له، وأن يكونوا على وعي بأخلاقيات وقيم المهنة، حتى يتمكنوا من حقن الجسد الإعلامي المريض بها، وأن تكون لديهم الخبرة الكافية التي تؤهلهم لتشخيص أمراض المهنة، ووصف الدواء المناسب لها، وهو ما يقتضي امتلاكاً لأدوات المهنة، يتأتى بالتدريب والممارسة، وإتقاناً للغة العربية، التي نعتبرها سلاح الإعلامي في أي تخصص، كما يجب أن يكونوا مطّلعين على تجارب الدول الأخرى، والأحداث المحيطة، وهو ما يتطلب منهم إلماماً بلغة أجنبية على الأقل».
ويضيف: «شروط الالتحاق بهذه المبادرة الإصلاحية تمثل الحد الأدنى الذي يليق بمهنة جليلة كالإعلام، ومهمة جسيمة كعلاجها مما أصابها من خلل ومرض... وهذه الشروط لا تعني أننا نبحث عن أساتذة مكتملي الخبرة، بل عن الشباب والفتيات الذين لديهم الاستعداد لتحمل هذه المسؤولية معنا، ويسعون بشكل جاد إلى تطوير قدراتهم ومهاراتهم، ولديهم موهبة حقيقية، ومؤمنون برسالة الإعلام، ولا ينظرون إليها على أنها مجرد فرصة للشهرة أو التربح».
ورش عمل
تنظم «ميدياتوبيا» ورش عمل متخصصة، مثل: غرف صناعة الأخبار، وصالات التحرير، وفنون التصوير، فضلاً عن نشرات إخبارية يقدمها شبابها عبر قناتها على «يوتيوب»، وعن كيفية تنظيم كل تلك الفعاليات والأنشطة دون دعم مادي مباشر وضخم من المؤسسات الإعلامية، كما أنهم يرفضون الحصول على الدعم إلا بشروط قاسية، يقول محفوظ: «لدينا معايير يجب أن تتوفر في الداعمين، على رأسها انتفاء المصلحة الشخصية، والسمعة الطيبة، والبعد عن أي انحيازات»، مضيفاً: «نرحب بأي دعم تنطبق عليه هذه المعايير إذا كان هدفه تشجيع الشباب وإصلاح المهنة، ولا يُشترط في الدعم أن يكون مادياً... بعض الجهات تدعمنا بتغطية احتياجات ضرورية، مثل توفير الخدمة الطبية المجانية من هيئة الإسعاف في معسكراتنا التدريبية، وتوفير طواقم الحراسة والتأمين لرحلاتنا ومعسكراتنا عن طريق وزارة الداخلية، وتوفير معدات التدريب في المعسكرات، كتلك التي قدمتها لنا وكالة الأهرام للإعلان، باعتبارها تابعة لمؤسسة ذات طابع حكومي... لكن لا شك نحن بحاجة لدعم مادي كبير يساعدنا على تحقيق حلمنا الأكبر، وهو إتاحة التدريب مجاناً، ومساعدتنا على الاستمرارية والتطور».
يحرص د. محفوظ على انتقاء المدربين بعناية وفقا لمسيرتهم المهنية وأخلاقياتهم وسماتهم الشخصية باعتبارهم شخصيات سوف تلهم الشباب المتدربين وتؤثر فيهم فهو ينتقي لهم نماذج تستحق أن يقتدوا بها.
الصحافي العصري
وبما أننا نتحدث عن المهنية في المجال الإعلامي التي تأثرت كثيراً بالضغوط التي سببتها التحولات التكنولوجية المتلاحقة، كان لا بد أن نتعرف على سلاح «ميدياتوبيا» في مواجهة هذه التغيرات المتلاحقة، يجيب محفوظ: «عام 2017 في (ميدياتوبيا) هو عام الصحافي العصري. في المعسكر السابق الذي انعقد في فبراير الماضي بمدينة الفيوم، تم تدريب المشاركين على الصحافة متعددة الوسائط (الملتيميديا)، من خلال توفير بيئة عمل عصرية تحاكي مثيلاتها في المؤسسات الإعلامية متعددة الوسائط، مثل (بي بي سي)، وقام المتدربون أثناء المعسكر بتصميم وتحرير وإطلاق ستة مواقع إلكترونية متنافسة، فاز فيها موقعان بالمركز الأول مناصفة، وترأس لجنة التحكيم الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز... أما في المعسكر المقبل، الذي سينعقد في مدينة دهب من 9 إلى 13 سبتمبر (أيلول)، فسيغوصون أكثر في كيفية توظيف الملتيميديا في الإعلام التقليدي، وذلك عن طريق تعريف المتدرب باللغة المتداولة في سوق العمل الخاص بمجالي الملتيميديا والإعلام التقليدي، وتدريبه على كل الاستخدامات المحتملة لفنون الملتيميديا في الإعلام السمعي والبصري، وفي النهاية يتم تشجيع المتميزين في المعسكرات بفرص تدريبية في المؤسسات الإعلامية الشريكة لـ(ميدياتوبيا)».
أما عن أهم التحديات التي تواجه «ميدياتوبيا» في عامها الرابع، فيشير إلى أن هذا مشروع الذي يكبر تدريجيّاً يقوده شباب في بداية طريق الاحتراف، قائلاً: «هذا سلاح ذو حدين، فهو يضمن ولاءهم وإخلاصهم للفكرة، كونهم من أسسها منذ البداية، وفي الوقت ذاته يجعل معدل التطور بطيئاً، لأن خبرتهم ما زالت وليدة. أما التحدي الآخر الذي نواجهه هو اضطرارنا لرفع الرسوم في بعض الأحيان لتغطية أجور المدربين ونفقات المؤسسة بعد إشهارها في وزارة التضامن الاجتماعي، وقبل كل شيء لدينا تحدٍّ خاص، وهو الحفاظ على ثقة الشباب في (ميدياتوبيا)، وتعزيز مصداقيتها، وضمان المعيارية في اختيار الأعضاء الجدد، وتطوير قدرات الأعضاء الحاليين، ليصبحوا من أفضل الكوادر الإعلامية في مصر والعالم».
تدريب بقالب ترفيهي
وحول سعي «ميديا توبيا» للتوسع الإقليمي في ظل إقبال الشباب وعدد من الفئات العمرية الأخرى الراغبة في الانضمام لمجتمعها الإعلامي، يكشف د. محفوظ الخطوات المستقبلية التي ستحقق حلم «ميدياتوبيا» بالتوازي مع توفير فرص عمل للمنتمين إليها، قائلاً: «نحلم بتأسيس شركة تستوعب أفكار الشباب الهادفة للربح، وهذه الشركة ستفتح آفاق نشاطها خارج الحدود، وأول المشروعات التي نجهز لها هو معسكر (ميدياتوبيا) العرب، الذي سيستضيف صحافيين من كل الدول العربية، ويقدم المحتوى التدريبي في قالب ترفيهي سياحي، لنحقق هدفي الإفادة والمتعة... كذلك نحلم بتوظيف أصحاب المهارات المتميزة في (ميدياتوبيا) في تحقيق حلمهم بتأسيس شركة للإنتاج البرامجي، تعبر عن طموحات الشباب، وتعكس أفكارهم الإبداعية... ومن المدهش أن لدينا موهوبين ومبدعين من ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين أثبتوا لنا أن المجتمع الذي لا يدرك مواطن القوة في أبنائه جميعاً، ويساعدهم ويطورهم دون تمييز، هو الذي يعاني الإعاقة، وليس العكس».
وحول تقييمه لمساهمة «ميدياتوبيا» في تغيير المجتمع في ضوء أهدافها المستقبلية، يقول: «الهدف القريب والكبير لـ(ميدياتوبيا) أن نقدم لمهنة الإعلام بحلول عام 2020 ثلاثمائة إعلامي عصري بمواصفات نموذجية: مهنياً وثقافياً وأخلاقياً... وهؤلاء هم من سيتولى تغيير المجتمع للأفضل!»