حكاية «داعش»: نهاية «دولة الخرافة»

بلغ التنظيم في عام 2014 قمة قوته... ونهايته في الباديتين العراقية والسورية

حكاية «داعش»: نهاية «دولة الخرافة»
TT

حكاية «داعش»: نهاية «دولة الخرافة»

حكاية «داعش»: نهاية «دولة الخرافة»

أتى تدمير تنظيم «داعش» للجامع النوري الكبير في مدينة الموصل، قاعدة شمال العراق، قبل وصول القوات العراقية إليه، ليعلن رسمياً نهاية «دولة» التنظيم التي كان أعلن عنها من على منبر الجامع نفسه في التوقيت ذاته تقريباً من عام 2014. إذ استطاع النفاذ من التعقيدات الدولية المحيطة بالمنطقة لينطلق في مغامرة «الدولة» التي سماها خصومه «دولة الخرافة» السائرة «عكس السير»، وذلك قبل أن يفرض المنطق نفسه، ويعود إلى مرحلة التنظيم، تمهيداً للاختباء تحت الأرض في منطق «حرب العصابات»... و«الذئاب المنفردة».
تشير كل المعطيات إلى أن تنظيم داعش المتطرف دخل في أطواره الأخيرة، كقوة ذات تأثير. إذ إن تمويله الهائل يكاد ينضب جراء التضييق الدولي والإقليمي عليه، وكذلك قدرته على استقطاب المقاتلين واستثمار الموارد الطبيعية، جراء الحملات العسكرية التي يشنها عليه أكثر من طرف دولي وإقليمي ومحلي. وبالتالي، بات مصطلح «دولة الخرافة» أقرب إلى الواقع الذي عاشه التنظيم خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
ويرى الباحث في شؤون الجماعات المتشددة، عبد الرحمن الحاج أن قدرة «داعش» على استقطاب الأجانب ضعفت إلى حد كبير، مشيراً إلى أن قدراته العسكرية تراجعت وموارده المالية أيضاً، كما قتل عدد من قادته العسكريين الذين لعبوا دوراً في تمدده. ويوضح الحاج لـ«الشرق الأوسط» أن أبرز الخيارات التي يلجأ إليها التنظيم اليوم تتمثل في «الانكفاء نحو المناطق الحيوية بالنسبة للتنظيم، ومحاولة تأخير الانكسار الكامل، ولهذا لن يدافع بشراسة عن مناطق ليست مهمة له كمدينة الرقة، فيما قد يستميت في بعض المناطق الأخرى، كالعراق الذي يعتبره حاضنة»، لأن قيادييه السياسيين من العراق. أما الخيار اللاحق فهو الذهاب نحو البادية، كما حصل سابقاً في العراق، حيث تكون ملاحقة قيادييه أكثر صعوبة في المناطق الصحراوية، كما فعل في العراق في وقت سابق.

إعادة تموضع شاملة
التنظيم بدأ فعلياً في إعادة تموضع شاملة، ففي سوريا، أخلى مناطق واسعة في جنوب شرقي سوريا والقلمون الشرقي، موجهاً قواته باتجاه البادية السورية، حيث تخوض قوات المعارضة معارك ضده، بموازاة استكمال انسحاباته من قرى ريف محافظة حلب الشرقي، حيث يخوض النظام هجمات ضده. وهو ما يشير إلى أن التنظيم ينفذ «إعادة تموضع» في سوريا، بالنظر إلى أن بعض المناطق التي انسحب منها، لم تشهد عمليات عسكرية عليه، وتطرح أسئلة عن مرحلة «ما بعد الرقة».
ويحول التنظيم المتطرف قواته باتجاه البادية السورية التي تمتد من جنوب الرقة شمالاً، باتجاه ريف محافظة حماة الشرقي وريف محافظة حمص الشرقي وشرق محافظة ريف دمشق وريف محافظة دير الزور المتصل بالحدود العراقية، وأيضاً المنطقة الصحراوية العراقية. ويقوم النظام السوري بملاحقته في تلك المنطقة الخالية، إذ انسحب التنظيم من أكثر من 7 آلاف كيلومتر مربع إثر المعارك مع النظام وحلفائه.
و«إعادة التموضع» في العلم العسكري، تعني أن الوضع الميداني والعملياتي لم يعد لصالح القوة العسكرية، فتجبر على إعادة تموضع لخوض معركة دفاعية، وانتشار جديد. ويؤكد خبراء أن استعادة الرقة السورية وتلعفر والموصل في العراق «لا تعني عسكرياً انتهاء التنظيم عسكرياً، بالنظر إلى أنه سيكون قد هُزم، لكنه سيعود إلى تطبيق الاستراتيجية المفضلة له وهي (سمكة الصحراء)، أي أنه سيذوب في بادية الشام وصحراء الأنبار ويستغل الطبيعة القاسية للمنطقة تحضيراً لشن حرب عصابات على كل من يعاديه».
وحقاً، انحسر نفوذ «داعش» في سوريا إلى أقل من ربع المساحة الجغرافية للبلاد، إثر الهجمات المتواصلة ضده التي أبعدته عن معظم المدن والمراكز الحيوية إلى البادية السورية، بينما يتواصل تراجعه إثر المعارك المتواصلة ضده في معقله في الرقة، وفي البادية، تحت غطاء جوي دولي. ويقول مدير «المرصد السوري لحقوق الإنسان» رامي عبد الرحمن لـ«الشرق الأوسط»، إن مواقع سيطرة «داعش» في سوريا تراجعت إلى نسبة تتراوح بين 22 و25 في المائة من مساحتها، وتتركز في معظمها في مناطق خالية في البادية. ويشير إلى أن التنظيم «خسر كثيراً من مناطق نفوذه إثر إغلاق الحدود التركية بعد حادثة شارلي إيبدو في فرنسا، وافتقاده إلى المقاتلين الأجانب الذين شكلوا رأس الحربة في عديد التنظيم العسكري، فضلاً عن الإنشاءات الحيوية التي كانت توفر له المال، إضافة إلى الضربات الجوية الأميركية والروسية التي استنزفته، وأفقدته السيطرة على شريط حدودي حيوي في تل أبيض وغيرها من المواقع الجغرافية الحيوية».

تضعضع في صفوفه
وإثر الضربات، يعاني التنظيم من «تضعضع» في صفوفه، وفقدان السيطرة على قواته الموجودة في الميدان العسكري، إثر انقطاع تواصلهم مع القيادة. وحسب كلام مصدر سوري معارض في شرق سوريا لـ«الشرق الأوسط»، فإن «داعش»، ومنذ اغتيال قيادييه الكبار، «فقد السيطرة بين القيادة المركزية والقادة الميدانيين، وخسر كثيراً من نقاط القوة العسكرية والإعلامية، وهو ما أدى إلى فقدانه ميزة أساسية امتاز بها في البداية وأسهمت في توسيع سيطرته».
ووفق المصدر نفسه، فإن التنظيم «تمدد في خواصر رخوة حين كانت القوات المتحاربة في سوريا تتقاتل، وبدأ ينحسر بفعل الهدنات والاتفاقات التي حيدت المعارك الجانبية ودفعت الأطراف لتركيز جهودها على التنظيم»، لافتاً إلى أن الدعم الدولي من التحالف لميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، والدعم الروسي للنظام السوري «أسهما في إضعافه بشكل كبير في الميدان».
ويذكر أن التنظيم استطاع عام 2014 تشكيل 8 ولايات توزعت على 9 محافظات سورية هي دمشق وحمص وحلب والرقة ودير الزور وحماة والحسكة وريف دمشق والسويداء، بالإضافة لوجود جيش مبايع له في حوض اليرموك بريف محافظة درعا الغربي، ووصلت مساحة سيطرته لنحو 90 ألف كيلومتر مربع من الأراضي السورية بنسبة نحو 50 في المائة من مساحة البلاد. إلا أنه عاد في العام الثالث ليخسر مساحات واسعة من المناطق التي كانت خاضعة لسيطرته تبلغ عشرات آلاف الكيلومترات، حيث خسر آخر منافذه مع العالم الخارجي، بعد دخول تركيا في عملية «درع الفرات»، وعشرات القرى والبلدات والمدن من ريفي حلب الشرقي والشمالي الشرقي لحلب، ولم يتبقّ له سوى قرى متناثرة في ريف حلب الجنوبي الشرقي، بالقرب من طريق حلب - خناصر - أثريا.
كذلك خسر المساحة الممتدة من معبر تل كوجر على الحدود السورية - العراقية في مثلث الحدود السورية - العراقية - التركية، وصولاً إلى ريف الشدادي الجنوبي وإلى الغرب من منطقة مركدة، وصولاً إلى ضفاف الفرات الشرقية، فضلاً عن مساحات واسعة من ريف الرقة الجنوبي الغربي وكامل الريف الغربي للرقة ومساحات واسعة من البادية السورية بما فيها منطقة اللجاه بريف درعا الشمالي الشرقي، مروراً بتدمر والقريتين والبادية السورية، وصولاً إلى جنوب محطة «التي تو» بريف دير الزور الجنوبي الشرقي، إضافة لخسارته كامل وجوده في محافظة حلب باستثناء وجوده في ريف حلب الجنوبي الشرقي.

وضعه في العراق
أما في العراق، فلم يعد «داعش» يسيطر سوى على 6.8 في المائة من مساحة العراق بعدما كان استولى على 40 في المائة من البلاد عام 2014. ووفق العميد يحيى رسول المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة في مؤتمر صحافي في بغداد، فإن «المساحة المسيطر عليها (من التنظيم) لغاية 31 مارس (آذار) 2017 تبلغ 6.8 بالعشرة من مساحة العراق بعدما كانت تبلغ 108.405 ألف كلم مربع، أي 40 في المائة من مساحة العراق بعد تمدده في العاشر من يونيو (حزيران) 2014». ويرى الحاج أن انكسار التنظيم في العراق وسوريا «سيؤثر عليه بالتأكيد، لكن أي انتصار قد يحققه في المناطق الأخرى قد يفتح له باب التجنيد مجدداً»، مشيراً إلى أن العمليات التي يقوم بها في الغرب تهدف إلى التأثير على المضطهدين اجتماعياً واستقطابهم إلى دائرته. ولا يسقط احتمال انتقال التنظيم إلى دول أخرى مثل إيران ومصر وليبيا، لافتاً إلى أن العملية الأخيرة التي نفذها في طهران «توضح وجود مسار في هذا الاتجاه يهدف إلى تجنيد السنة الإيرانيين المضطهدين من النظام الإيراني، وعملية طهران تشي بأنه بدأ التواصل مع هؤلاء».
ويرى الباحث في شؤون الجماعات المتشددة حسن أبو هنية أن «داعش» سيتجه لتطبيق الاستراتيجية التي طبقها تنظيم القاعدة في العراق في عام 2008. ويقول: «هناك نموذج سابق في العراق 2008، حيث نفذ تنظيم القاعدة خيارين؛ أولهما هو العودة إلى حرب العصابات وإعادة التموضع في الصحراء والقرى البعيدة، بينما يتمثل الخيار الثاني في إعادة التموضع في المدن المكتظة من خلال الوجود الأمني على شكل خلايا نائمة، وهو ما سهل اقتحام الموصل في عام 2014 لدى إعلان دولته المزعومة في العراق والشام».
ويشير أبو هنية إلى أن عودة «القاعدة» في ذلك الوقت إلى الصحراء «قلصت العمليات الانتحارية، لكن لم تلغها، رغم انخفاضها للنصف، ذلك أن القدرة التشغيلية للتنظيم حافظت على مستوى عملياتي لها، حيث تواصلت الاغتيالات والتفجيرات العمليات الانتحارية والانتقامية». ويضيف: «انطلاقاً من تلك التجربة، فإن خيارات (داعش) اليوم واضحة، مثل خيارات (القاعدة)، وقد أعلن عنها في وقت سابق المتحدث باسم (داعش) أبو محمد العدناني في آخر خطاب له قبل مقتله، حين أشار إلى أن التنظيم جاء من الصحراء، وسيعود إليها». ويؤكد أبو هنية أن «داعش» عراقي في الأساس «مر في تجربة بناء قامت على يد أبو مصعب الزرقاوي، وكانت تلك تجربة استثنائية، لكن اليوم باتت له نواة صلبة في قلب المنشأ في العراق»، مشدداً على أن «البنية الصلبة له هي البنية العراقية، بينما استخدم قضية الخلافة بهدف التحشيد واستقطاب 35 ألف مقاتل أجنبي إليه».

لا حروب مدنية
وعن الاستراتيجية التي سيتبعها التنظيم، يتوقع أبو هنية أن التنظيم «سيتخلى عن حروبه المدنية، لأنها باتت مكلفة عليها، وسيستعيض عنها بحرب العصابات والحروب الهجينة. لكنه في هذا الوقت سينتظر خللاً آخر، كما حصل إبان حكومة المالكي، وسينتظر تفكك التحالفات السياسية لإعادة استنهاض نفسه»، لافتاً إلى أن «المنطقة حبلى بالخلل، وأسباب استنهاض التشدد ذلك أن مرحلة ما بعد (داعش) ستكون أسوأ من مرحلة ما قبله على صعيد البنية التحليلية المسببة لقيامه، ومنها التهميش».
ويضيف أبو هنية: «الأمور معقدة. يشكل (داعش) الآن نوعاً من الفضيلة بالنسبة للأقطاب السياسية التي اتفقت على محاربته، فهو يحصر الصراعات والعداءات به. وإذا اختفى، ستنفجر كلها دفعة واحدة»، لافتاً إلى أن هناك أسباباً كثيرة «من بينها وجود الحشد الشعبي بعد مرحلة القضاء على (داعش)، في وقت لا توجد فيه حلول حقيقية في سوريا، وهناك تنازع، مما يعني أن الظروف الموضوعية لاستنهاض نفسه في سوريا والعراق لا تزال حاضرة وتزداد سوءاً». ويتابع الخبير الأردني: «أميركا خلقت مناخاً معقداً بعد غزو العراق في 2003، أسهم إلى حد كبير في نشوء التطرف، وباتت الجهادية العالمية جزءاً من بنية العراق بعد الغزو، حيث يستثمر المتطرفون بخطاب المظلومية السنية لجلب المقاتلين». ومع ذلك، يؤكد أبو هنية أن «التنظيم عراقي، وستبقى قيادته عراقية في إعادة تموضعه الجديد، حتى لو لم يبقَ أبو البغدادي زعيماً له». ويرى عبد الرحمن الحاج أن التنظيمات المتشددة الأخرى تنظيمات «نخبوية»، فيما أن التنظيم حاول أن ينقل نفسه من منطق النخبة إلى الشعبوية، لأنه لم يكن يشترط إيماناً معقداً، بل مجرد الولاء.

«داعش»... صعود وهبوط
أسس أول أشكال التنظيم المتطرف في عام 2004، عندما أنشأ الأردني «أبو مصعب الزرقاوي» تنظيم «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين»، وقاد حملة دموية ضد الحكومة العراقية والقوات الأميركية، نفذت سلسلة من التفجيرات الانتحارية بواسطة شاحنات محملة بالمتفجرات أدت لمقتل الآلاف.
وفي يونيو 2006، قتل الزرقاوي في غارة جوية أميركية قرب بعقوبة عاصمة محافظة ديالى شمال بغداد، وحل مكانه في قيادة التنظيم «أبو أيوب المصري» الذي أعلن تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق» في محاولة لاسترضاء سنّة العراق الذين بدأوا في ملاحقة عناصر «القاعدة» في العراق من خلال «الصحوات» التي ساعد الأميركيون في تشكيلها. لكن «المصري» قتل في أبريل (نيسان) 2010 عندما فجر حزاماً ناسفاً كان يرتديه بعد وقوعه في كمين نصبته القوات الأميركية والعراقية، وتولى قيادة التنظيم من بعده العراقي «أبو بكر البغدادي».
ودخل التنظيم بقوة على ملف الأزمة السورية، مستغلاً حالة الفوضى القائمة في المنطقة، فأعلن في 9 مايو (أيار) 2013 عن اندماج «الدولة الإسلامية في العراق» وفرع القاعدة في سوريا «جبهة النصرة» لتشكيل «داعش» (الدولة الإسلامية في العراق والشام).
كان عام 2014 فترة ذهبية للتنظيم، فقد احتل في 4 يناير (كانون الثاني) مدينة الفلوجة التي تقع على بعد 43 ميلاً إلى الغرب من العاصمة العراقية بغداد بعد عدة أيام من القتال. وفي المقابل استولى التنظيم في 14 يناير على مدينة الرقة السورية بعد معارك مع جماعات سورية معارضة أخرى وتحولت المدينة إلى مقر قيادة التنظيم.
ومع اتضاح خطورة المشروع، طردت المعارضة السورية في 20 يناير التنظيم من مدينة حلب وريف حلب الغربي. وبعدها انفصلت «النصرة» عن التنظيم. وأعلن زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في 3 فبراير (شباط) فك الارتباط بـ«داعش» وأن لا صلة للقاعدة بهذه الجماعة ولم تستشر القاعدة في تأسيسها.
وفي 10 يونيو، احتل التنظيم مدينة الموصل بعد فرار آلاف الجنود العراقيين منها. وفي اليوم التالي احتل التنظيم مدينة تكريت، مسقط رأس الرئيس العراقي السابق صدام حسين وفر نحو 50 ألف مدني من المدينة.
منتشياً بانتصاراته هذه، خرج البغدادي من مخبئه، وأعلن تسجيلاً مصوراً للناطق باسم التنظيم «أبو محمد العدناني» في 29 يونيو إقامة «الخلافة الإسلامية» وتنصيب البغدادي «خليفة للمسلمين» وحذف كلمتي العراق والشام من اسمها وإلغاء الحدود بين العراق وسوريا. وفي 4 يوليو (تموز)، ظهر البغدادي علناً لأول مرة ملقياً خطبة في الجامع النوري في الموصل للإعلان الرسمي.
بعدها بدا الحراك لوقف زحف التنظيم الذي «كسر الحدود» بين العراق وسوريا، فأعطى الرئيس الأميركي باراك أوباما في 7 أغسطس (آب) الإذن بشن غارات جوية لوقف زحف التنظيم إلى مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، ولكسر الحصار الذي فرضه مسلحو التنظيم على جبل سنجار الذي فر إليه آلاف الإيزيديين هرباً من عمليات القتل الجماعي. وتكرر الأمر نفسه في 19 سبتمبر (أيلول) لوقف زحف التنظيم نحو بلدة عين العرب (كوباني) السورية الشمالية التي حاصرها لمدة 4 أشهر وكانت فيهما بداية نهايته العسكرية.

مرحلة القصف الجوي
في 22 سبتمبر 2015 بدأت الولايات المتحدة ودول عربية في مقدمتها المملكة العربية السعودية والإمارات والأردن والبحرين بحملة قصف جوي على أهداف التنظيم في سوريا، كانت أولى نتائجها فك الحصار عن مدينة عين العرب وتراجع التنظيم فيها. لكن التنظيم لم يعترف بتراجعه، فباشر حملة ذبح واسعة النطاق للرهائن الغربيين والعرب.
ويذكر أنه في 17 مايو 2015 سقطت مدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار العراقية في يد التنظيم رغم تدخل الطيران الأميركي ومشاركته في المعارك إلى جانب القوات العراقية. وفي 21 مايو سقطت مدينة تدمر السورية الأثرية بيد التنظيم بعد معارك مع النظام السوري، وهكذا بات التنظيم يسيطر على نصف مساحة سوريا بما في ذلك كل الحدود بين سوريا والعراق بعد الاستيلاء على معبر التنف بين البلدين. وفي اليوم التالي، 22 مايو سجل أول هجوم انتحاري للتنظيم في السعودية أدى إلى سقوط أكثر من 20 شخصاً خلال صلاة الجمعة.
في المقابل، يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 استعاد مسلحو البيشمركة الأكراد مدينة سنجار بشمال العراق من قبضة التنظيم بمساعدة طيران التحالف، وشهدت العاصمة الفرنسية باريس هجمات دامية أسفرت عن مقتل 129 شخصاً وتبناها التنظيم. ويوم 28 ديسمبر (كانون الأول) استعادت القوات العراقية مدينة الرمادي من قبضة التنظيم ورفعت العلم العراقي فوقها.
كعادته مع كل ضربة يتعرض لها، بدأ التنظيم بالمشاغبة، فدمر في 20 يناير 2016 دير مار إيليا، أقدم دير بالعراق، ويوم 22 مارس نفذ سلسلة هجمات في العاصمة البلجيكية بروكسل أسفرت عن مقتل 30 شخصاً.
وتواصل مسلسل الهزائم الداعشية، ففي 26 يونيو، أعلن الجيش العراقي استعادة مدينة الفلوجة وتحريرها بالكامل. ثم في 8 أغسطس طردت ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» التي يشكل المقاتلون الأكراد عمودها الفقري التنظيم من مدينة منبج بعد معارك استمرت 73 يوماً. ويوم 25 أغسطس دخلت تركيا على خط وراثة مناطق نفوذ التنظيم، فأطلقت عملية عسكرية باسم «درع الفرات» ودخلت مدينة جرابلس الحدودية وطردت التنظيم منها بسرعة.
وفي 30 أغسطس من العام نفسه، تلقى التنظيم ضربة موجعة، إذ قتل الناطق باسم التنظيم «أبو محمد العدناني» في غارة جوية أميركية قرب مدينة الباب السورية، وبعدها بأسبوعين قتل «خليفته» وائل عادل سليمان الملقب بـ«أبو محمد فرقان»، مسؤول الدعاية في التنظيم وإنتاج الأفلام الدعائية بغارة أخرى.
كان عام 2017 الأسوأ على التنظيم، حيث بانت نقاط ضعفه، وعزل عن الحدود التركية. وفي 23 فبراير منه أعلنت تركيا السيطرة على مدينة الباب وطرد التنظيم منها بعد معارك دامية قتل فيها عشرات الجنود الأتراك. وفي 14 أبريل، قتل «مفتي» التنظيم في غارة جوية بالموصل. ويوم 21 يونيو، فجر «داعش» الجامع النوري في الموصل ومئذنته «الحدباء» الشهيرة، إيذاناً بدخول القوات العراقية آخر معاقله فيها.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.