مهرجان آنسي الفرنسي... عزز السينما اليابانية وصفق لكوخ

على تعدد المهرجانات، وكثرة تلك المتخصصة في نوع أو في إطار معين من الإنتاجات السينمائية، ما زال مهرجان «آنسي» الذي يقام سنويا في الشمال الفرنسي (عند جبال الألب الفرنسية) أهم مهرجانات سينما الأنيميشن وكل أنواع الرسوم المتحركة. وهو أقيم أول مرة سنة 1985، وانتهت أعمال دورته الخامسة والعشرين في السابع عشر من الشهر الماضي.
مع وجود هذا التاريخ، كان من المفترض بدورته الأخيرة أن تحمل الرقم 31، لكن المهرجان لم ينشأ بصفته حدثا سنويا في مطلع الأمر، بل أقيم مرة كل عامين إلى أن تقرر إطلاقه سنويا بدءاً من سنة 1998، واعتمد هذا القرار إلى اليوم.
في كل سنة يلجأ إليه كل من لديه علاقة قريبة أو بعيدة بشغل سينما الرسوم. المحترفون والعشاق. القادمون والمحليون. وهو يبرهن على نجاحه باختياراته المثمرة من الأفلام القصيرة والطويلة داخل وخارج المسابقات المقامة، وبكثرة المعروض ووفرة ما يتلقفه من أفلام يتم الاختيار بينها.
* مدارس
كما الحال في مهرجانات الأفلام الحية، تتواجد الموضوعات المختلفة القادمة من أرجاء العالم. ما يضيفه فيلم الرسوم مما لا يستطيع الفيلم الحي (المصوّر بكاميرا وممثلين) توفيره هو الحرية الكبيرة، لا في اختيار الموضوعات فحسب، بل في صياغتها ورسمها وتحريكها، كما في كثرة وتنوع الأساليب التقنية المتبعة. السينما المرسومة التي وُلدت في مطلع السنوات العشر الأولى من القرن العشرين عبر أعمال أميركية حققها أولاً ج. ستيوارت بلاكتون في فيلم «الرسم الفاتن» (1900) وفرنسية (أعمال إميل كول الذي رسم نحو 250 فيلما قصيرا حتى العام 1908) شهدت تطوّرات متعددة، لكنها بعد حين أخذت تحافظ على مراحلها المختلفة، بينما تسعى في الوقت نفسه للاستزادة من التقنيات الحديثة. من الرسم الطبشوري (الذي لا يزال معمولاً به إلى اليوم وصولاً إلى الكومبيوتر غرافيكس الذي يسير على منواله عدد كبير من الأفلام الحديثة. بين المدرستين، هناك رسومات الطمي، والتحريك اليدوي، والمنهج الذي يعتمد على وفرة التفاصيل، وذلك الذي يحدد الحركات بأقل عدد ممكن (كاشفاً في معظمه عن ضعف ناصيته)، كما الناطق منها والصامت والملوّن منها والذي لا يزال يفضل العمل بالأبيض والأسود.
أما الدول المصدّرة، فهي متعددة، من جمهورية هوليوود السينمائية إلى مدارس اليابان واليونان وفرنسا وباقي أوروبا. ومن كندا إلى سوريا، ومن روسيا إلى الصين التي احتفت بها الدورة الأخيرة بصفتها بلدا مضيفا.
ما شوهد من هذه الأفلام كثير، لكن ما لم يُـشاهد هو أكثر بنسبة كبيرة؛ ذلك أن الأفلام القصيرة وحدها تتجاوز المائة والطويلة نحو نصف هذا العدد. تلك التي في المسابقة هي ثلث ما يعرض خارجها. رغم هذا، فإن ما شاهده هذا الناقد هناك أو عبر قنوات لاحقة كان دائماً ما يمنحه الوقوف عند تلك التعددية والتطوّرات التي تقع في محيط هذا الفن. والمتابعة سنة بعد سنة لما تنتجه المخيلات المبتكرة من حكايات وأساليب تعبير.
هذا العام حمل فيلم «يمان» للسوري عامر البرزاوي طموحاً حقق نصفه بمجرد اشتراكه في مسابقة الأفلام القصيرة. إنه فيلم متواضع القدرات الفنية حول صبي يبيع علب المحارم الورقية، ويحلم بأن يصبح مخترعاً. أربع دقائق من المزج بين الحي (الطفل) والرسوم (بدائية تتحرك حوله أحياناً) تبدو مثل ندب الحظ أكثر منها تفاؤلاً أو دعوة سياسية للتغيير. في أحد المشاهد يشكو من أن منزل والديه تم قصفه (رسم لطائرة تسقط قنبلة)، لكن الفعل على الشاشة يبدو استجداء للعطف أكثر منه تسجيل نقطة سياسية.
* روتوسكوب وڤان جوخ
من ألمانيا، وفي مسابقة الفيلم الطويل، قدّم المهاجر الإيراني علي زوزانده فيلماً من نحو ساعة ونصف الساعة بعنوان «طهران تابو» يرصد فيه مجتمعاً يعيش توتر العلاقات وكثرة الممنوعات لجانب الفساد وانتشار الرذيلة المستترة بعيداً عن الأعين. كلها، وسواها من ملاحظات المخرج حول الحياة في بلده الأم، مصوّرة عبر طريقة روتوسكوب وهي تقوم على تصوير الفيلم بشخصيات حيّـة ثم تحويلها إلى رسومات عبر تحويل فيلم الدجيتال إلى رسوم. الطريقة ذاتها، تقريباً، التي استخدمها الأميركي رتشارد لينكلتر في فيلمه A Scanner Darkly سنة 2006.
لم تنجل النتائج في هذه المسابقة عن فوز هذا الفيلم؛ كون هناك أعمال أفضل منه باستنتاج ما شاهدناه منها. أحد هذه الأعمال الفيلم الياباني الفائز بجائزة الفيلم الطويل الأولى، وعنوانه «لو فوق الجدار»، وفوزه يعيد لسينما الرسوم اليابانية بعض ذلك التتويج المستحق الذي كادت تفقده تبعاً للمنافسة القوية الآتية اليوم من الصين وكوريا الجنوبية في المضمار ذاته.
حكاية من ذلك التراث الثري حول الصبي الصياد الذي يعيش في قرية عند شاطئ البحر وحورية اكتشف وجودها وباتت صديقته. في السر مطلع الأمر، ثم علانية. لكن القرية تعيش في تقاليد صارمة، ومن بينها أن ظهور الحوريات مرتبط دائماً بحدوث كوارث غير محمودة العواقب. الفيلم مصنوع على الكومبيوتر (ببعدين) وممهور باسم مخرج يبدو جديداً في المهنة اسمه ماساكي يواسا.
السينما الصينية التي احتفى بها المهرجان لم تتوان بدورها عن تقديم بعض أفضل وأجمل الأعمال. من بينها «السمكة الكبيرة وبيغونيا»، والأسلوب الممارس هنا هو الرسم باليد، ثم تحويل الرسم إلى الكومبيوتر والنتيجة مذهلة في فضاءاتها وألوانها والدقة المتناهية في الإنجاز. قريب في الروح من فيلم Spirited Away للياباني الراحل هاياو ميازاكي، الفيلم الذي خرج بأوسكار سنة 2002.
إلى جانب ما سبق، أفلام أخرى أفلام كثيرة أخرى حظيت بالإعجاب، لكن التقدير كان إيجابياً من الجميع حول فيلم «في حب فنسنت» (Loving Vincent). فيلم بريطاني- بولندي مشترك شهد عرضه العالمي في هذا المهرجان وبيع لخمسين دولة قبل وخلال فترة إقامته. المخرجة البولندية دوروتا كوبيلا توفر هنا سيرة حياة وصورة شخصية للرسام فنسنت فان جوخ جديرة بفيلم حي. حقيقة أنها اختارت سينما الرسوم لا علاقة له بسهولة ما؛ ذلك أن ما تقدم عليه هو أصعب من مجرد التصوير الفيلمي المعتاد.
مدارس فن التحريك، كما ذكرنا، كثيرة، لكن هذا الفيلم مقام على توفير نحو 65 ألف كادر، كل واحد منها هو رسم باليد يستمد نوعه ومستواه من فن كوخ ذاته. إنه كما لو قام الواحد مناً برصف كل رسومات فان كوخ، ثم حركها بتواصل معين وبتقنية الرسام ذاتها ليسرد من خلالها لا الفن فقط، بل الفنان كذلك. بذلك هو أول سيرة بيوغرافية مرسومة في تاريخ سينما الأنيميشن.
فيلم آخر من أفلام الجوائز هو «بيت القنفذ» القادم من كرواتيا وكندا. رسم ثري لحكاية قنفذ يعيش في الغابة مقتنعاً بحياته البسيطة. يلبي دعوة ثعلب للعشاء، ثم يمشي ليلاً عائداً صوب بيته، وفي أعقابه الثعلب والدب والذئب والخنزير البري، متسائلين عما يخفيه القنفذ من سر. يجيب القنفذ في نهاية الفيلم بأن السعادة هي القناعة، وأنه إذ يرتاح في بيته راضياً بعيشته فإن لا شيء آخر يهم. رسالة أعجبت، كما فن رسمه، الجمهور فمنحه جائزته الأولى في مجال الفيلم القصير.