الاختباء من الموتى... شعرياً

يلعب الشاعر أسامة بدر في ديوانه الجديد «لا يمكنك الاختباء من الموتى» على مرايا الأصدقاء وظلالهم، ويتخذ منها محوراً فنياً لتنويع مناخات الفعل الشعري ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، فكأنهم الأحياء الموتى، أو الموتى الأحياء. وفي كل الحالات لا يمكن تحاشيهم أو الاختباء منهم، ليس فقط لضرورات الحياة، بل لضرورة الشعر أيضاً، من أجل أن يتلصص الشاعر على ذاته بطفولة مغوية في النص، ويمنح الآخر الحق نفسه بمحبة الشعر، حتى لو كان تحت وطأة الضجر ولعنة الفقد أحياناً... فها هو يلوح بصفات هذه الصفقة، في نص بالعنوان نفسه قائلاً:

«الآن في الأسواق
يباع الصديقُ الواحد براتب عام كامل
غالٍ جداً
ومليء بالعيوب أيضاً
لا يمكنه تحملَ دمعة ثقيلةٍ
تسقط فجأة نتيجة حزن عابر
ولا يؤنس وحدتك المزمنة
ثم إنه يطعنك في قلبك بعد يومين على الأكثر
زماااان.. يا الله!
كان الواحد يجد صديقاً جيداً
لا يطعنه من الخلف
مقابل أشياء بسيطة
مثل ضحكة رائقة
أو وردة بيد لا تخبِّئ الخناجر».

يقع الديوان في 145 صفحة، وصدر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومنذ العنوان ينأى الشاعر بنفسه، عن محاولة التصالح بين شتى المتناقضات، ففي الوقت الذي ينفي فيه عن الفعل إمكانية تحققه في الواقع، يطلق له عنان الخيال ليبدو وكأنه واقع آخر في الواقع نفسه، بل يصبح معادلاً للصورة والمرآة معاً. يعزز ذلك إحساس مرهف بالمفارقة كمقوم فني، فتأتي واخزة ومباغتة، من نسيج النص نفسه، من حيوية اللغة وسلاسة الصورة الشعرية، وليست مقحمة وناتئة من الخارج.. ومثلما يقول على سبيل المثال: «سأبني مقبرة وأسميها وطن / حين يطردني الغزاة منها أعود حيّا» أو حين يمازح الموت بقلب الشاعر ويكتب «ربما أسامح الموت إن لم يمر الليلة / أعرف أن ثمة أحزاناً لم أعشها بعد / سأطهو بعضها للعشاء.. وأنتظر».
ومن ثم، لا تقتصر دلالة هذا الاختباء المراوغ على مرايا الأصدقاء أو صورة الأب والأم والحبيبة وأجواء العائلة، بل تتسع لتشمل اللعب مع الطبيعة والعناصر والأشياء، وعلى نحو خاص اللعب مع الطفولة، باعتبارها الماضي المتجدد دائماً في فضاء الذاكرة والحلم... فالأشياء ليست مكتفية بذاتها، وإنما تسعى إلى ذلك عبر علاقتها بنظائرها، ويتم ذلك عبر توظيف ضمير الغائب الذي يحتل المساحة الأوسع من اللعب بالضمائر في الديوان، حيث يتم الاتكاء عليه كحلقة وصل بين مساحات الحضور والغياب، بين مفاصل الذاكرة والحلم، ليستعيد كلاهما الآخر بروح جديدة، تنعكس على اللغة وإيقاع المشهد والحالة الشعرية، فتبدو كأنها محاولة شفيفة لاستحضار الملامح القصية أو المفتقدة الهاربة من الذات الشاعرة نفسها، كما نحس تحت مظلة هذا الضمير أن ثمة حكاية أو ظلاً لها، قادرة على إثارة الدهشة والأسئلة، بحيوية النص نفسه، وما يتخلق في نسيجه من دلالات ورؤى وأفكار.
يتناثر هذا المنحى في أغلب قصائد الديوان، ونلاحظ أن فعل الكينونة، بكل صيغه مشدود صوب الماضي، بينما يتبدى الحاضر كظل له، وأحياناً يتحول إلى شرك، مشكلاً نوعاً من الحصار أو المطاردة للذات والزمن معاً.. (كان يقسِّم قلبه بشكل متساوٍ ويوزعه على الشحاذين في الطرقات / والشعراء في المقهى)، (كانوا مسرعين.. لا شك / لم يكن لديهم وقت للقراءة جيداً / بالطبع لم يكن هذا قبري / مضحك أنهم توقفوا / عند قراءة: هنا يرقد حزيناً كما عاش.. وحيداً كما أراد / ولا ينتظر دمعة من أحد)، (لم يكن لاعب أكروبات ماهراً / رغم ولعه الشديد بالحبال والتحليق وتسلق الجدران / والرقص بالفتيات النحيلات / ولم يحاول أيضاً بسبب الروماتيزم، أو وزنه الثقيل المفرط / ربما لم يجد سيركاً مناسباً بساريةٍ مرتفعة كما ينبغي).
هذا التنوع في اللعب بضمير الغائب، وما يرافقه من إيهام أحياناً، لا يعطل فعالية الضمائر الأخرى، أو يضعها في نقطة محايدة على مستويي الوظيفة والدلالة، فالضمائر بكل أشكالها من التخفي والتجلي تستقي فعاليتها من النص نفسه، وتحيل إليه، كما أن أية مرجعية خارجية لها تظل مشتبكة به، ولا يمكن النظر إليها بمعزل عنه، فزمن ما قبل النص يذوب في زمن النص الراهن. زمن الكتابة بكل تبدياتها صعوداً وهبوطاً؛ ما يضفي على فعل الاختباء من الموتى غلالة أشبه بقناع الأسطورة.
وعلى عكس ضمير الغائب المسكون غالباً بصور من رحلوا، أو ضاعوا، أو فقدوا، أو صورة الذات الشاعر نفسها في مرآة ماضيها وطفولتها، يبدو فعل المخاطب في الديوان، بشقيه المؤنث والمذكر، متعلقاً بفكرة الرغبات المشتهاة، سواء في سياقها الخاص العاطفي، أو في سياقها ذي الطابع الإنساني بشكل عام.
ونلاحظ أن وتيرة التوتر والوجع ترتفع هنا في هذه الدائرة، وتقترن بمشاعر متباينة من اليأس والإحباط والخوف، بل فقدان الأمل في الحياة، كما يبتغيها الشاعر أن تكون. فعلى المستوى العاطفي الخاص، لا تخلو فكرة الحب من مخاطرة ما، تصل إلى الإحساس بالألم حتى في أوج توهجها، وربما درءاً لكل هذا يتمنى الشاعر من حبيبته أن تصطحب قلبه بشكل مغاير، يمتزج فيه نزق السريالية بشطح الخيال، قائلاً في نص بعنوان «قلبٌ أليف»:

«اصطحبي قلبي كقط أليف
إنه طيب ومستأنس
بريء.. لم تلمسه امرأة قبلك
نظفيه فقط من دخان السجائر
وغبش الأصدقاء
قُصي أعشاب الغربة الضارة
التي تملأ الحواف
يمكنك أن تناديه: رفيقي
سوف يملأ ظمأ الوقت
سيكون معولاً لتحطيم جدرانك الصدئة
دعيه بين يديك برهة.. سيطهر

ويأخذك في نزهة إلى الغابة»
وهكذا... هناك دائماً الشيء وظله في الوقت نفسه، هناك حلم وظلٌّ لحلم، هناك ماضٍ، وظلٌّ لماض، هناك حب، وظلٌّ لحب، وكأننا إزاء حالة من التسامح أو الصفاء الداخلي بين الذات الشاعرة والعالم والأشياء من حولها، حالة تظل قادرة على إثارة الألفة، حتى وهي تدين فجاجة العالم وما ينطوي علية من مآس وخراب.
لكن الجميل وسط هذا النسيج المتشابك في عقد وفواصل الـ«مع» والـ«ضد» أن الشاعر قادر على التعبير عن نفسه، والتقاطها في أبسط وأصغر الأشياء، وإيقاظها، وكأنها حلم ممتد باتساع الأفق، تبني الطبيعة فيه أعشاشها، ويبني الشعر مقدرته الفائقة على مواجهة الحياة والموت والزمن، وكأنها أنجم صغيرة تنطفئ وتضيء في قدميه، وفي حاجة دائماً لأن يحتويها الشعر ويعبر عنها، حتى تصغي إلى نفسها، وأيضاً تجعله قادراً على أن يتكئ على نفسه، في مواجهة العتمة والقبح، وغيرها من الشرور التي تجتاح العالم.. في نص بعنوان «قدم في وجه العالم» نجد ملامح من هذه الحقيقة، مجدولة بشعرية لها طعم خاص، وبنبرة من التحدي والسخرية الشيقة كأنها ضربات فرشات شجية على مسطح لوحة تشكيلية.. يقول الشاعر:

«في يوم ما
لن أكون مديناً لهذا العالم بشيء
سألقي بنفسي على كرسي مريح
أسند ظهري المتعب
وأمدِّد قدمي خارج النافذة
في وجهه تماماً
حتى أن عصافيرَ، وطيوراً جارحة
ستبني أعشاشاً بينهما
ويمكن لغيمة أن تمشي من قدم إلى قدم آمنةً
لا تخاف صحراء أو ريحاً غادرة
ويمكن للهواء أن يمر.. كصديق».

لقد كان ديوان الشاعر الأول في عام 2001 بعنوان «قمر يغامر باستدارته»، وها هو في هذا الديوان يغامر بسمائه أيضاً، مخلفاً متعة شعرية، تجعلك كثيراً ما تصغي إلى نفسك بحب، وأنت تقفز كفراشة من نص إلى آخر.