بالرياح الشمالية، المنازل والبيوتات القديمة التي ترتدي الأبيض والأزرق وغيرهما من الألوان الزاهية، هكذا تستقبلك «أنفة» مع دواليب الهواء الزرقاء التي تذكرنا بأيام الطفولة.
فبعد جبيل والبترون، تأتي هذه القرية اللبنانية، من قرى قضاء الكورة في محافظة الشمال، لتُكمل سلسلة المناطق الساحلية السياحية التي يتميز بها لبنان. تقع على بعد 65 كيلومترا إلى الشمال من بيروت، و15 كيلومترا إلى الجنوب من طرابلس، ويبلغ عدد سكانها نحو 6500 نسمة.
تحتل أنفة اليوم مكاناً في المراتب الأولى كوجهة سياحية مفضلة في لبنان، نظراً إلى طبيعتها الجميلة وحفاوة أهلها وإنتاجها من الأسماك، خصوصاً شاطئها الجميل الذي يطلق عليه اسم «تحت الريح». وسطع نجم أنفة في السنتين الماضيتين، حيث أصبحت وجهة أساسية للبنانيين، والسياح المتوافدين من بلاد الاغتراب.
*لماذا «تحت الريح»؟
هو الاسم الذي منحه أهالي أنفة الأقدمون للشاطئ، بسبب رأس القرية وشكلها على الخريطة الذي يشبه المرفأ الطبيعي. ذلك لأن طبيعتها الجغرافية محمية من الرياح الغربية - الجنوبية، وهي بالإضافة إلى ذلك، وبحكم موقعها الجغرافي، محمية أيضاً من التيارات التي قد تحمل إلى شواطئها النفايات. من هنا يحافظ المكان على نظافة استثنائية... لا يكذّبها غطاس.
* من قرية عادية إلى واجهة سياحية مهمة
تحول شاطئ «تحت الريح» في أنفة، منذ سنوات قليلة إلى ملتقى يجمع العائلات الأنفاوية على اختلافها، حول نشاطات رياضية بحرية وفكرية، وتمكن من رسم لوحة اجتماعية تعمل على تقريب المسافات بين أبناء البلدة، وتقوية أواصر العلاقات بينهم، وصهرهم في عائلة كبيرة واحدة.
لم تكن تلك القرية العريقة بحضارتها وتراثها معروفة لدى اللبنانيين، غير الشماليين، فكيف سطع نجمها؟
تعود الشاليهات القائمة على شاطئ «تحت الريح» إلى العام 1973. يعد تاريخ صدور مرسوم تصنيف الشاطئ معلماً أثرياً. توقف العمل باستثمار الملاحات التي تحوّلت، إثر الحرب الأهلية، إلى شاليهات متواضعة.
إلا أنها مؤخراً، لبست حلة جديدة تتصف بالبساطة والألوان الباعثة للأمل والفرح، عبر المنازل والنباتات والأزهار المزروعة داخلها، فبدأ الزوار بتشبيه الشاطئ بجزيرة «سانتوريني» اليونانية، وإطلاقهم لقب «أنفوريني» على المكان.
زاد من جمالية «تحت الريح» إعادة «هيئة تراث أنفة وجوارها»، وضع دواليب الهواء، إحياء للتراث الأنفاوي، وتحويلها منزلَي شحادة فوز والمهندس زياد خباز الأثريين إلى بيتين للضيافة.
*البداية
يروي لنا أول من انطلق بمشروع تحويل شاطئ أنفة إلى مقصد سياحي، وسيم نجم، قصة صعود شاطئ «تحت الريح» إلى قمة قائمة الوجهات السياحة اللبنانية.
بدأ نجم، صاحب مطعم «وسيم على البحر» المشروع عام 1999. فقام بتنظيم سهرة وداع لعائلة لبنانية مهاجرة إلى أميركا، حيث اجتمع نحو 300 شخص على مأدبة عشاء قبالة الشاطئ. ومن هنا، بدأ الناس يتداولون سحر وجمال هذا المكان، وانطلق نجم بتحقيق هدفه، لجعل الشاطئ واجهة سياحية مميزة. «لم يكن هذا الشاطئ معروفا إلا من قبل أهل أنفة، فالأراضي هنا أملاك بحرية تابعة للدولة، ولم يفكر أحد باستثمارها من قبل. بعد أن أكملت دراستي الجامعية، أُجبرت على ترك الشاطئ رغم حدة تعلقي به، وسافرت إلى دبي، محاولا السعي وراء لقمة العيش. لكني لم أتحمل فكرة بُعدي عن المكان، فعدت وبدأت بتطوير شاطئ القرية، وها نحن الآن!» هكذا يشرح نجم عن تجربته، ويضيف: «ساعدتني سيدة تدعى ناتالي صابونجي، فقامت بتصميم ديكور مميز للمكان، وعلاقاتي مع الصليب الأحمر الدولي وشركات كثيرة، أسهمت في صعود المطعم إلى قمة قائمة المتنزهات السياحية المائية بسرعة فائقة».
وبما أن اللبناني معروف بحبه للحياة والتجارب الجديدة، يؤكد نجم أن شهرة المكان ازدادت عبر تداول اسم أنفة و«وسيم على البحر» بين الناس، ذلك قبل أن يلجأ إلى وضع إعلانات على الطرقات ومواقع التواصل الاجتماعي.
«بعد أن بدأت العائلات من مختلف المناطق اللبنانية بالتوافد إلى أنفة، تشجع أشخاص عدة وقاموا بتجهيز مطاعم قريبة لنا، وأولها كان مطعم (عند فؤاد)، الذي يقدم ميزات لبنانية وأطباق الثروة البحرية».
أما لدى «وسيم على البحر»، فتشرف والدة نجم على تجهيز الطعام، حيث تقدم لجميع الوافدين «لقمة بيت» شهية وصحية، تتناسب مع الجو الجميل و«القعدة» التي تلامس أطراف البحر بهدوء وثبات.
*أشغال أنفة تكشف آثاراً مدفونة
ما كادت تنتهي أعمال الحفريات في أنفة منذ سنتين، لمدّ شبكة مياه الشفة، مع ما رافقها من اكتشافات لبعض الأماكن الأثرية والمغاور الصغيرة المدفونة تحت الأرض، حتى عادت الاكتشافات تظهر من جديد مع أعمال حفريات الصرف الصحي.
فتم اكتشاف الكثير من المدافن المحفورة في الصخر في الحارة الشرقية بالقرب من «مدرسة جبران مكاري الرسمية»، ومغارة تحوي الكثير من الفخاريات الأثرية في حي القديسة كاترينا.
وفي كل مرة تحضر بعثة من مديرية الآثار وتكشف على معالم الاكتشافات، وتحتفظ بكل ما تجده ذات قيمة أثرية، أما بالنسبة للمواقع فتعمل في أحيان كثيرة على إيقاف الأشغال فيها لاتخاذ التدابير المناسبة، حفاظاً على أهميتها التاريخية.
ذلك وما تزال «جامعة البلمند» تعمل بدعم من البلدية وبالتنسيق مع المديرية العامة للآثار على اكتشاف آثار بلدة أنفة وجوارها، وإبراز معالمها التاريخية والأثرية والإنسانية.
تقول رئيسة «هيئة حماية البيئة والتراث في أنفة» رشا دعبول إن أنفة «تملك من المقومات السياحية ما يجعلها تلعب دوراً سياحيا بارزاً ليس على المستوى المحلي فحسب وإنما العالمي كذلك».
ففي البلدة أيضاً منزل قديم يعود إلى القرن الثامن عشر بني في الفترة العثمانية، وكان مقصداً للرسميين والوجهاء الذين كانوا يقصدون البلدة، ويسمى اليوم منزل الخوري جرجس، وقد تعاقبت على المنزل أربعة أجيال من الكهنة، وما زال قائماً حتى اليوم.
أما السراي القديم، فأصبح مركزاً للبريد ومدرسة للبنات، بعد أن كان في زمن المتصرفية مركزاً شتوياً لقائمقام قضاء الكورة.
*قلعة أنفة
بموجب قرار صادر عام 1973، اعتبرت قلعة أنفة ضمن الأبنية الأثرية، وهي تتميز بالخندق المحفور بكامله في الصخر والذي يبلغ طوله نحو خمسين متراً ويبلغ عرضه عشرين متراً ويبلغ ارتفاعه عشرين متراً، ويشكل نوعاً من «ترعة» تصل المياه بالمياه من وسط الرأس الحجري. والجدير ذكره أن الخندق بكامله نقش بالمطرقة والإزميل.
ورد ذكر أنفة في رسائل تل العمارة بين ملك جبيل وملك مصر منذ 3400 سنة، وفي النقوش الأشورية في الألف الأول قبل الميلاد. سماها الفينيقيون «آمبي»، وتعني الأنف، وسماها اليونان ترياريس، أي السفينة، وسماها الصليبيون نيفين. فالبلدة غنية بآثار حقب تاريخية متعددة التي لا تزال ماثلة للعيان عند رأس أنفة الصخري. وبعد «أيام العز» القديمة التي عايشتها، تعود اليوم لتتصدر لائحة الوجهات السياحية المائية، فتنافس الشواطئ اللبنانية والمتوسطية الأخرى. وما كان للجمال أن يزيد جمالا، إلا عندما قررت اليونان بأن تمر بشاطئ «تحت الريح»، لتضفي عليه ما يفتقده من سحر وإبداع.
«أنفوريني» حين تمر اليونان من أنفة اللَبنانية
«أنفوريني» حين تمر اليونان من أنفة اللَبنانية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة