بريطانيا «الكئيبة» تباشر مفاوضات «بريسكت»... ووضع ماي على المحك

من المقرر أن تبدأ بريطانيا، اليوم (الاثنين)، مفاوضات تاريخية للخروج من الاتحاد الأوروبي، بعد انتخابات تشريعية أضعفت الحكومة، بينما لا تزال البلاد تلملم جراحها بعد الكآبة الناجمة عن الاعتداءات الإرهابية الأخيرة والحريق الضخم الذي طال برجاً سكنياً في وسط لندن.
ويتوجه وزير «بريكست» ديفيد ديفيس إلى بروكسل للقاء كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي ميشال بارنييه، من أجل إطلاق مفاوضات خروج معقدة، يتوقع أن تستمر أقل من سنتين. ومن المقرر أن تنطلق المفاوضات على الساعة 11:00 صباحاً بجولة أولى مدتها 90 دقيقة بين ديفيس وبارنييه، يليها غداء عمل بينهما يتبعه مؤتمر صحافي. وستركز فرق العمل على ثلاثة مواضيع رئيسية هي وضع الرعايا الأوروبيين المقيمين في بريطانيا، وفاتورة «طلاق» بريطانيا مع الاتحاد، ومصير الحدود بين آيرلندا الشمالية وآيرلندا العضو في الاتحاد. وليس هنالك اتفاق بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بشأن تراتبية المواضيع، مع إصرار لندن على مناقشة مستقبل العلاقات التجارية بالتوازي مع مناقشة الطلاق، الأمر الذي ترفضه بروكسل.
وكانت بريطانيا قد صوتت بنسبة 52 في المائة، العام الماضي، في حدث غير مسبوق، على إنهاء عضويتها التي استمرت لعقود في تكتل الدول الثماني والعشرين، على خلفية القلق حيال أزمة الهجرة وفقدان السيادة، في استفتاء شكلت نتائجه زلزالاً سياسياً في الداخل وصدمة كبيرة في العالم. ووضعت الحكومة استراتيجية «بريكست صعب» لخفض أعداد المهاجرين المقبلين من الاتحاد الأوروبي على حساب عضوية بريطانيا في السوق الأوروبية المشتركة والوحدة الجمركية. إلا أن تساؤلات بدأت تُطرح بشأن هذه المقاربة عقب الانتخابات التشريعية التي جرت في يونيو (حزيران) الحالي وخسرت بنتيجتها رئيسة الوزراء تيريزا ماي الغالبية التي كان يحظى بها حزب المحافظين. وبدأ البريطانيون العاديون يشعرون بتبعات «بريكست»، مع ارتفاع كلفة التصدير بسبب تدهور سعر الجنيه والقلق المتزايد لدى الشركات من خسارة أسواق تجارية.
وتمسَّكَت ماي بالسلطة عقب الانتخابات ولكنها فشلت حتى الساعة في التوصل إلى اتفاق مع «الحزب الوحدوي الديمقراطي» في آيرلندا الشمالية من أجل تأمين غالبية تخولها الحكم، ما يضعها في موقع ضعف. وفاز حزب المحافظين بـ317 مقعداً في مجلس العموم من أصل 650 مقعداً، وهو بحاجة إلى دعم الحزب الوحدوي الديمقراطي الآيرلندي، الفائز بعشرة مقاعد، لتأمين غالبية ضيقة. ومن المقرر أن تقدم الحكومة برنامج عملها الأربعاء المقبل خلال جلسة افتتاحية للبرلمان، ستليها جلسة أخرى في الأيام اللاحقة للتصويت على الثقة.
ورأت الملكة إليزابيث الثانية أن حالة من «الكآبة» تخيم على بريطانيا التي شهدت كذلك ثلاثة اعتداءات إرهابية خلال ثلاثة أشهر وحريقاً في برج سكني في لندن قد ترتفع حصيلة ضحاياه إلى 58 قتيلاً. وأسهم ضعف الحكومة البريطانية في تأجيج الانتقادات لمقاربتها آلية الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا أن آمال الناشطين المؤيدين للاتحاد بإعادة النظر في سياسة «بريكست» لم تحقق أي نتيجة حتى الساعة.
وقاد وزير المالية البريطاني فيليب هاموند المؤيد لـ«مقاربة براغماتية»، حملة للمطالبة باستراتيجية «بريكست» أكثر ليونة تعطي الأولوية للاقتصاد. ودعا هاموند، أمس، خلال حديثه لإذاعة «بي بي سي»، إلى آلية خروج «بلا صدامات» تسمح بحماية الوظائف والنمو من خلال «هيكليات انتقالية». لكنه شدد في المقابل على أن تطبيق «بريكست» يعني الخروج من «السوق الموحدة» ومن «الاتحاد الجمركي».
من جانبه، شدد ديفيد ديفيس على أنه «لم يتغير أي شيء» في الوقت الحاضر بالنسبة إلى خط الحكومة.
كذلك دعا أعضاء آخرون من فريق حكومة ماي إلى مقاربة أكثر شمولية لاستراتيجية «بريكست» تسمح للأحزاب المعارضة بإسماع صوتها، وتتيح الأخذ بآراء اسكوتلندا وآيرلندا الشمالية اللتين صوتتا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي. وقالت روث ديفيدسون زعيمة حزب المحافظين الاسكوتلندي الفائز بـ13 مقعدا في اسكوتلندا إن على بريطانيا أن تعطي الأولوية لـ«حرية التجارة ونمونا الاقتصادي».
وتعتبر المفاوضات الأكثر تعقيداً في تاريخ بريطانيا لا سيما أنها تسعى لتفكيك عضوية 44 عاما في الاتحاد، وأثار تلويحها بالخروج دون التوصل لاتفاق قلق العواصم الأوروبية. وأعلنت الحكومة أول من أمس أن البرلمان سيعقد دورة خاصة على مدى سنتين تنطلق هذا الأسبوع لتمكينه من تعديل تشريعات الاتحاد الأوروبي. وجاء في بيان الحكومة: «سنبني أوسع إجماع ممكن حول خططنا لـ(بريكست)، ما يعني منح البرلمان أطول وقت ممكن لمراجعة هذه القوانين عبر فتح دورة برلمانية لسنتين».
ويتوجه وزير التجارة ليام فوكس اليوم إلى واشنطن في محاولة لاستكشاف إمكانيات إقامة روابط تجارية جديدة، على الرغم من أنه لا يمكن إطلاق أي مفاوضات رسمية قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن قبل إغلاق باب الاتحاد الأوروبي، كشف استطلاع للرأي أجراه معهد «سورفيشن» وصحيفة «ميل أون صنداي» أن 53 في المائة من البريطانيين يؤيدون التصويت على الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه.
وذكرت صحيفة «صنداي تلغراف» نقلاً عن مصادر بارزة في حزب المحافظين أن ماي ستواجه تحدياً فورياً لزعامتها من مشرعين متشككين في الاتحاد الأوروبي من داخل حزبها إذا سعت للتساهل في خطتها للخروج من الاتحاد الأوروبي.
ونقلت الصحيفة عن وزير سابق لم تذكر اسمه قوله: «إذا رأينا إشارة قوية على تراجعها فأعتقد أنها ستواجه صعوبات كبيرة (...) المسألة هي أنها لم تعد شخصاً يتفق عليه الجميع. لقد أثارت حنق أعضاء الحزب في البرلمان لأسباب معروفة، ولذلك أخشى أن أقول إنه لم تعد هناك نيات طيبة تجاهها».
ونقلت الصحيفة عن وزير سابق آخر قوله: «إذا تساهلت (ماي) فيما يتعلق بالخروج من الاتحاد الأوروبي، فسينهار العالم، وتفتح أبواب الجحيم».
بدوره، قال جياني بيتيلا رئيس كتلة الأحزاب الاشتراكية والديمقراطية في البرلمان الأوروبي، إن نواب الكتلة يشعرون بالارتياح لقرب بدء مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد بعد طول انتظار. وأضاف: «لقد أهدر الكثير من الوقت منذ المقامرة الانتخابية في بريطانيا». وقال متحدث باسم نواب الكتلة السياسية في البرلمان الأوروبي، في بيان وزع، أمس، إن نتائج الانتخابات في بريطانيا أظهرت أن استراتيجية ماي المبنية على مبدأ «عدم التوصل إلى اتفاق أفضل من التوصل إلى اتفاق سيئ»، هي استراتيجية لا يمكن أن تستمر طويلاً، وقد انتهت بالفعل وأصبح من الواضح الآن أن ما يحدث هو أسوأ سيناريو لكل من بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
من جهته، قال رئيس البرلمان الأوروبي أنطونيو تاياني إن «اهتمامنا الأول يتمثل في أن تكون لدى بريطانيا حكومة مستقرة، نجري معها مفاوضات تقود المملكة المتحدة للخروج من الاتحاد الأوروبي»، وألا تكون «حكومة قلقة بشأن الحاجة إلى البحث عن توافقات على ضوء الانتخابات». وأضاف تاياني في تصريحات لوسائل إعلام أوروبية أن «استقرار بريطانيا يهمنا، لأنه يعني أن يكون هناك محاور يمكن إبرام اتفاق معه، ولذا أعتقد أن خروج بريطانيا القوي من الاتحاد الأوروبي قد تكبد هزيمة». وذكر المسؤول الأوروبي أن «المحافظين لم يحظوا بالنجاح الذي كان متوقعاً، وربما بدأ البريطانيون يدركون أن الخروج من الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية الموحدة ليس شيئاً جيداً لحماية مصالحهم».