بين فينة وأخرى، تشهد خشبات مسارح لندنية أعمالاً مسرحية، تتناول أوضاعاً تخصّ العراق كالاحتلال وأسبابه أو الوضع السياسي والاجتماعي فيه، كمسرحية «عشاء مع صدام»، و«شيء يحدث» التي تبحث في أسباب التدخل الغربي في شؤون ذلك البلد الذي غدا يوماً محطّ أنظار العالم واهتمامه... وآخر هذه الأعمال مسرحية «مخاطر المهنة» على مسرح هامستيد، عن رواية بالعنوان ذاته للمؤلف والسياسي روري ستيوارت مطبوعة عام 2006.
روري ستيوارت، وزير الدولة للتنمية الدولية عن حزب المحافظين حالياً، خريج مدرسة إيتون والرحالة المغامر الذي عيّن في عمر الثلاثين نائباً لمحافظ سلطة الائتلاف المؤقتة في محافظة العمارة عقب سقوط النظام. وكان يحلم، كأي بطل لورنسي، بإعادة بناء الديمقراطية وترسيخها وحل النزاعات بين الفصائل المتنازعة وردع الحرب الأهلية في العراق... شملت مسؤولياته آنذاك، إجراء الانتخابات البلدية وتنفيذ المشاريع الإنمائية، لكنه اضطر إلى التعامل مع مشكلات الحياة اليومية مثل أزمة الكهرباء ورواتب الشرطة، فأثار وجوده جدلاً بين المتنفذين في المدينة من عشائر ورموز دينية متشددة باعتباره صنيعة الاحتلال. وبما أن ستيوارت، بمثاليته الساذجة، كان غِرّاً وقليل الخبرة في أمور السياسة، وتحركه أوامر قوى التحالف، فقد وجد نفسه متورطاً في سياسة داخلية حساسة، وكان بالكاد يفهم حضارة وتقاليد بلد مختلف عن حضارته وتقاليدها، فواجه اضطرابات ومحاصرة ميليشيات التيار الصدري لقيادة مجمعه عام 2004. ولكن أقصى ما فعله هو دعوتهم للتفاهم مشيراً إلى لوح طيني سومري يدل على أول حضارة على أرض العراق، ابتكرت القوانين قبل بريطانيا وأميركا، كما قدّم لهم الشاي مع البسكويت والمربى، في محاولة للَمِّ شملهم بطريقة سلمية هادئة. وفي حين أن ستيوارت دعم في البداية حرب العراق، غير أنه وقت لاحق بدأ يميل للاعتقاد بأن الغزو كان خطأً، بعد عجز التحالف الدولي عن تحقيق دولة أكثر إنسانية وازدهاراً. وبدأ يطرح على نفسه السؤال الكبير التالي: هل بإمكان ديمقراطية تأتي من الخارج أن تؤسس لنفسها قيماً ونظاماً في بلد كالعراق؟ وهل فاقم الاحتلال المشكلات الطائفية والقبلية والاقتصادية والسياسية؟ وما الحق الأخلاقي للغرب في رسم سياسة دولة أخرى وتسييرها؟
ركزت المسرحية على شخصية كريم ماهود، وهو الشيخ عبد الكريم ماهود حطاب المحمداوي، أمين حزب الله في العراق، الذي كتب عنه بول بريمر في كتابه «سنتي في العراق» حيث لقّبه بـ«أمير الأهوار»، وأضفى عليه صفات بطولية أسطورية... ولقد تشكَّلَت علاقة معقدة بين الشيخ ماهود مع السيد حسين البطاط، أحد الرموز الدينية الصدرية في العمارة، تراوحت بين العداء والتنافس، والتعاون في تشكيل أول مجلس محلّي للمحافظة، إضافة إلى ظهور شخصيات أخرى كالمترجم الذي تقتله الميليشيات لتعاونه مع قوات الاحتلال، وشخصية المرأة المتحررة ابنة أستاذ التاريخ إبراهيم خالد الذي ينصح ستيوارت بأن يكون قوياً، قائلاً إن هذا البلد يبدو قوياً بسبب أن الحاكم يتظاهر للآخرين بحيازته على أسلحة في الوقت الذي لا يملك منها شيئاً... وكما نرى فإن الشخصيات الدرامية تستنبط تماماً من الواقع، في حين أن الدراما، على نحو ما، تعتمد على نزاع الأفكار لا على استعادة الأحداث الفعلية... وقد لجأ المخرج سايمون غودون، إلى الإسراف في السخرية من أغلب الشخصيات وجعل حوارها وخطابها صراخاً وأفعالها عراكاً وعنفاً، حتى إن أحدهم ظل يلطم على رأسه طويلاً في أحد المشاهد!
مُعِدّ المسرحية، ستيفن براون، صديق ستيوارت، بدا متردداً في حذف أي شيء من جوهر العمل الروائي ووقائعه، فبدلاً من تشكيل دراما مركَّزَة من مواده الأساسية، أبقى إعداده المسرحي، كما قال هو نفسه في أحد لقاءاته الصحافية، متماثلاً مع الحقائق والناس الحقيقيين، مع أن قراءة سريعة للرواية، تظهر لنا أنها تصوّر الحقيقة أفضل من الحقيقة نفسها «لأن دوامة العراقيين المتضاربة معرضة لخطر زخرفة حربهم وسخطهم ويأسهم»... ومع ذلك فإن امتلاك المسرحية التوثيقية - الرواية لحقائق مختبرية وميدانية يزيد من وعينا حول مخاطر الاحتلال الأجنبي ويثبت أنه «لا يمكن أن تكون ثمة ديمقراطية في البلاد عندما يكون لديك طغيان في المنزل»، وإن الإصرار على القيم البريطانية لدبلوماسية «الشاي والمربى» لم يفعل شيئا يُذكَر لتغيير العالم، و«كل انتخابات تفتح الباب أمام المتطرفين» بسبب تضارب مصالحهم، لا كما تبجّح به بريمر بالقول إن هدف الاحتلال كان من أجل قيام «دولة مزدهرة متعددة الأعراق، لا مركزية، تقوم على حقوق الإنسان».
جاء تصميم بول ويليس للديكور متمثلاً في الجدران الخرسانية القائمة والمتحركة على المسرح، ككشف عن الحالة القمعية الشائعة في المكان، مثله مثل إنارة الفلورسنت المقطوعة من حين لآخر، دلالة على ارتباك واضطراب الوضع الأمني وانقطاع التيار الكهربائي، غير أن الموسيقى التي صدحت بنغمات من غرب البلاد، تجاهلت الإيقاع الجنوبي وما تمثله الأهوار من موسيقى ريفية حزينة.
في نهاية المطاف، قد تثير المسرحية أسئلة عن جدوى احتلال العراق وعواقبه، والمنطق الذي يمكّن الأجانب، المدعومين من الدبابات البريطانية، من فرض «ديمقراطيتهم» على المنطقة التي تم التقليل من شأن تناقضاتها وتقاليدها ومفاصل الصراع بين أهلها؟ وهل جعل الاحتلال حال البلد أفضل؟ وإذا سلّمنا بالفشل، فهل يتوجب هذا العجز من الغرب أن يتخلى عن كل فكرة للتدخل في المستقبل؟ هذا هو السؤال الذي ختمت به المسرحية على لسان ستيوارت: «وصلنا مفكّرين بأننا الأبطال الخارقون، وها نحن نغادر»... غير أنهم غادروا وتركوا الفوضى خلفهم.
مسرحية «مخاطر المهنة».. دبلوماسية الشاي والمربى
تجربة وزير بريطاني كنائب محافظ لمدينة العمارة العراقية
مسرحية «مخاطر المهنة».. دبلوماسية الشاي والمربى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة