«صانع المتاهات» يفتح كنوز بورخيس

محمد آيت العميم يجمع حوارات الكاتب الأرجنتيني ومقالات عنه في كتاب

بورخيس في مكتبه
بورخيس في مكتبه
TT

«صانع المتاهات» يفتح كنوز بورخيس

بورخيس في مكتبه
بورخيس في مكتبه

بعد «بورخيس أسطورة الأدب»، يعيد الناقد والمترجم المغربي محمد آيت العميم تناول سيرة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، تحت عنوان «بورخيس صانع المتاهات»، مبرراً ذلك بقيمة الرجل بين الكتاب العالميين، من جهة، وحاجتنا، عربياً، إلى حيازة هذا الأديب للغتنا العربية عبر ترجمة أصيلة لأعماله، لذلك كتب في مقدمة كتابه: «يُعد الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس من أهم الكتاب العالميين في القرن العشرين من خلال قصصه ومقالاته وحواراته وقصائده، ذلك أنه استطاع استيعاب الموروث الإبداعي والفكري والفلسفي للحضارات المختلفة، حيث سبك كل المعارف التي تشربها في سبيكة جديدة. فالمعرفة مختلفة ومتنوعة لكنها تُسقَى عنده بماء واحد. إنه الخيال الخلاق. لقد تم الاهتمام ببورخيس منذ أن اكتشفه الغرب، خصوصاً في فرنسا، أيما اهتمام، فترجمت أعماله إلى لغات كثيرة. ومع الأسف فترجمته العربية لم تشفِ غليلاً ولم تداوِ عليلاً، رغم جودة الترجمة التي أنجزت حول بعض قصصه - في المغرب - من لدن المترجم والناقد إبراهيم الخطيب «المرايا والمتاهات - الدنو من المعتصم»، لكن هذا المجهود المحمود غير كافٍ للتعريف بهذا الأديب العملاق، فنحن اليوم في حاجة ماسة إلى حيازة هذا الأديب - الذي يشبه أسلافنا – إلى لغتنا العربية عبر ترجمة أصيلة لأعماله كلها من اللغة الإسبانية مباشرة، وهو الذي كان يكتب في بداية أمره بأسماء مستعارة اختار من بينها «المعتصم المغربي» و«أبو القاسم الحضرمي».
يشدد آيت العميم على أننا «اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى النموذج البورخيسي، فهو نموذج يشتبك مع أسئلة الراهن، خصوصاً سؤال الحوار الثقافي والحضاري بين الشعوب. فبورخيس من خلال أعماله القليلة، لكن العميقة، جسد حوار الحضارات، من خلال سفره الدائم والمستمر في ثقافات الشعوب، بطريقة ديمقراطية حيث ترك كل لغات العالم تتحاور وتتجاور في إبداعه. وقد كانت الحضارة الإسلامية بالنسبة إليه ميراثاً أساسياً في الحضارة الكونية».
في هذا السياق، يرى آيت العميم أن المفكرين اليوم «يحتاجون إلى ذكاء بورخيس، فهو كاتب يورّث الذكاء، والقصاصون محتاجون إلى أن يتعلموا منه كيف يبنون عوالم قصصهم التخييلية ويقولون من خلالها فلسفاتهم وأفكارهم، والفلاسفة يحتاجون إلى ريبته وقلقه الدائم، والأدباء والكتاب والقراء في حاجة إلى موسوعيته وقراءاته، إذ بورخيس قارئ أكثر مما هو كاتب، والمتحذلقون يحتاجون إلى تواضعه وخجله الفطري». لذلك، يشير آيت العميم إلى أن بورخيس ما إن أطل علينا من شرفات كتابته المختلفة وعوالمه الساحرة والمغايرة للمألوف، حتى «شرع الكُتّاب في العالم يتناهبونه ويستلهمون صنعته في طرائق الكتابة وشساعة عوالمه ورؤاه، وبدأت كتابته وأفكاره تلبي حاجات القراء والمفكرين والفلاسفة وتجيب على آفاق انتظارهم».
لقد سعى آيت العميم أن يجمع بين دفتي مؤلفه مقالات، إما كتبها بورخيس أو كتبت حول أعماله وحوارات هي بمثابة «مقاليد لفتح كنوز بورخيس»، مشيراً إلى أن «القارئ اللبيب سيجد بين ثنايا الكتاب كيف أن كل كتاب يحمل نقيضه في داخله»، قبل أن يضيف: «قد بنَيْتُ هذا الكتاب بطريقة بورخيسية، حيث حاورت زوجته مباشرة لأثبت الحضور الفيزيقي لبورخيس من خلال عيون زوجته، وأنهيت الكتاب بمقالة تشك في وجود بورخيس. فهذه اللعبة حول الشيء ونقيضه، حول تواري الواقعي خلف الوهمي، هي لعبة أثيرة لدى بورخيس».
ويضم المؤلف، الصادر عن المركز الثقافي العربي، بالدار البيضاء، حواراً أجراه الكاتب مع ماريا كوداما، زوجة بورخيس، عام 1996، حين التقاها بمراكش، أعطاه عنوان «(جامع الفنا) في مراكش كان تجسيداً لأحلامي»، فضلاً عن حوارات أُجرِيَت مع بورخيس ومقالات كتبها المبدع الأرجنتيني، من قبيل «الاستعارة» و«الزمن»، أو مقالات كتبها حوله كتاب معروفون، من قبيل «حول شعر بورخيس» لبيترو تشيتاتي، و«التأثيرات الشرقية في شعر بورخيس» لماريا كوداما، و«بعض فضائل الخيانة في الترجمة» لأندريه كبيستون، و«العالم كتاب والقارئ مبجل» لألبرتو مانغويل، و«التاريخ الأدبي من منظور بورخيس» لليلى بيرون موازي، و«بورخيس والحكاية التخييلية» لبيير مارشي، و«غرف موصدة ومتاهات» لجون أروين، و«بورخيس... سرفانتيس والتراث الشرقي» لخوان غويتيسولو، و«بورخيس وابن رشد» لعبد الفتاح كيليطو، و«التماهي والتباعد» لآرون كيبدي فارغا، و«بورخيس وقلقي من تأثيره» لأمبرطو إيكو، و«هل وجد بورخيس فعلا؟» لأنطونيو تابوكي.
يشدد آيت العميم على أن «لعظمة بورخيس تجليات كثيرة»، هو الذي لم يتبرم من العمى، بل «قبل به دون أسى»، كما «لم يكن يفخر بالصفحات التي كتب، بل بالصفحات التي قرأ»، منتهياً إلى أن بورخيس «هو فيلسوف الريبة والقلق، وهذه الحالة ليست بعدمية، وإنما هي آلية لرفض كل نموذج جاهز ومكتمل، فالشك لديه شك فعال، لا يركن إلى المعطى الجاهز، من هنا انفتاحه الدائم على استقبال النماذج الفنية والثقافية والمعرفية الجديدة، إنه فيلسوف العوالم الممكنة، ولديه نظرة تنبؤية نفاذة، لقد تحققت رؤية بورخيس للمكتبة الكونية متعددة اللغات في مكتبة بابل والمكتبة المتاهة العنكبوتية من خلال قصته (الحديقة ذات السبل المتشعبة) في شبكة الإنترنت، فالإنترنت هو التجسيد التقني للمكتبة البورخيسية»، مشيراً إلى أن «للعالم - من وجهة نظر بورخيس - سمات كثيرة، فهو يضم الكتب جميعها، ليس فقط تلك التي كانت في السابق، بل كل صفحة في أي كتاب ستكتب في المستقبل، وكل ما يمكن أن نتخيل كتابته، فالمكتبة تنطوي على جميع اللغات المعروفة، وعلى تلك التي انقرضت أو التي ستأتي في المستقبل».



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».