غسل الأدمغة والأيدي التائهة

TT

غسل الأدمغة والأيدي التائهة

بعد عمليتَيْ جسر لندن، وانتحاري مانشستر، قالت تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية: «إنّ هؤلاء الشبان محتاجون إلى عمليات غسل للأدمغة تقومُ بها الأُسَر ويقومُ بها المجتمع». واستخدام غسل الأدمغة بهذا المعنى غير مألوف في سياقات كبح العنف ومنعه. فقد كان المتعارَفُ عليه في استعمالات اللغة الحديثة اعتبار غسل الدماغ تعبيراً عن التضليل والتغطية وإزالة الكوابح وإطلاق العنف دون رادع عقلي أو أخلاقي. ومرةً أخرى فإنّ الاستعمال العربي الكلاسيكي لمفرد عقل يعني أنه يعقل ويمنعُ ويحول دون التصرفات الرعناء، وهو بذلك يقترب مما أرادته السيدة ماي من وراء غسل الأدمغة. لكنه من جهةٍ أخرى مُثير للإحباط لأنه يعني أن التلوث حصل، ولا بد من تدبيراتٍ للتخلُّص منه.
إنّ الواضح من تعبير رئيسة الوزراء البريطانية أنّ هناك حَيرةً هائلةً تلفُّ العالم بشأن العنف باسم الإسلام. وقد انتشرت تفسيراتٌ سهلة تاريخية وجغرافية لظاهرة أو ظواهر العنف باسم الدين هذا. فكان هناك مَنْ قال إن الإسلام في أصوله ونصوصه ناصرٌ للعنف وداعٍ إليه. كما كان هناك من قال: بل إنّ أسباب العنف اقتصاديةٌ واجتماعية، ولا علاقة لها بالدين إلاّ بشكلٍ رمزي، أو أنها معاذير للفعل بعد وقوعه.
إنّ الذي أذهبُ إليه بعد طول تأملٍ للظاهرة أنها بالفعل يُشبهُ أن تكونَ مرضاً أو وباءً مُعدياً، وكما أن فيها جانباً يشي بالكآبة واليأس، فإنّ فيها جانباً «تحررياً»، إذا صحَّ التعبير، بمعنى أنها تُحررُ من المسؤوليات الأخلاقية، ومن الأعراف العامة، والمُواضعات السائدة. ولستُ أقصدُ بذلك أحداث مانشستر ولندن الأخيرة بالذات، بل أقصدُ الظاهرة بشكلٍ عام. فالأحداثُ المذكورةُ سببُها المباشر الضيق والحصار والفناء الذي ينزل بـ«داعش» والأشكال الأخرى من القاعديات. ويعتقد هؤلاء المرتكبون أنّ الطعن والدهْس والانتحار المباشر، هي بمثابة انتقام لما نزل وينزل بالإرهابيين في النواحي التي سيطروا عليها، وفرضوا أحكامهم فيها. وهكذا فإنّ السؤال الملحاح هو: لماذا يعتبر هؤلاء الشبان (خصوصاً الذين وُلدوا ونشأوا بالغرب) «القاعدة» و«داعش» مثالين يستحقان الإعجاب والاتّباع، مع أنّ تجمعات الإرهاب هذه لا تشكّل مناطاً للإعجاب بأي مقياس، في نظر مَنْ يملك مسكةً من عقلٍ أو دين أو خُلُق؟!
ماذا تستطيع المجتمعاتُ والأُسَرُ أن تفعل، لكبْح ظاهرة استسهال العنف أو استشرائه؟
لقد قلتُ من قبل في مقالاتٍ أخرى إنّ الـ«main Stream» أو التيار الرئيسي أو السواد الأعظم عاد للظهور والفعالية. وهذا الظهور ذو دلالةٍ لسببين: تحديد صحيح الدين أو ثوابته الحائلة دون استخدام العنف لأي سببٍ كان، والضغط القوي الذي تشكّله الكثرة الساحقة ومواضعاتُها وقيمها بشأن التعامل مع الآخر المختلف والعيش معه. وقد كان الأمر الثاني (أي الضغط الاجتماعي) موجوداً بحدودٍ معينة. أما الأمر الأول، فكان ضعيفاً أو غير موجود. فخلال عدة عقودٍ جرى تقديس العنف باسم الدين، للتصدّي للاستعمار والتغريب ومظالم السلطات. وهذا ما سميتُهُ في مقالاتي عمليات تحويل المفاهيم من جانب الإسلام السياسي والآخر «الجهادي». وقد اعتبرتُ أنّ للمؤسسات الدينية دوراً ينبغي أن تؤديه في هذا المضمار، لإعادة تعريف وتحديد ثوابت الدين، ولممارسة التأثير على شبان الأجيال الجديدة الذين نالهم شُواظ التطرف المتجلّي باستسهال العنف، إحقاقاً أو استحقاقاً أو تحرراً واستخفافاً بالمسؤولية. وللدين جانبان، أحدهما الجانبُ الردعي، الذي استخدم بإسرافٍ في السنوات الأخيرة، بسبب تفاقُم الظاهرة. أما الجانبُ الثاني الذي ينبغي الاهتمام به بحقٍّ فهو جانب الثقة والسكينة والطمأنينة، الذي يبعثُ عليه الدين أو ينبعثُ منه. وقد كان الماركسيون، وخلال أكثر من قرنٍ ونصف القرن، يردّدون مقولة ماركس إنّ الدين أفيون الشعوب، لاعتقادهم أنّ التدين يدفعُ للاستسلام للظلم والاستغلال. وهذا غير صحيح على إطلاقه، بدليل أنّ الأديان بعامة (وليس الإسلام فقط) أظهرت في الأزمنة الحديثة جوانب شائكة أو غير معهودة وتميل للتمرد والانسياح، وليس للاستسلام كما يزعمون. وما أقصده أنّ السكينة الدينية هي غير الاستسلام، كما أنها مناقضةٌ للتمرد العبثي أو الانتحاري. إنها الحالةُ التي يكونُ فيها الفرد مطمئناً إلى ربِّه من خلال العبادات، وإلى أُسرته ومجتمعه من خلال التعامُل المسالم والواثق. وفي الإسلام، أكثر مما في غيره من الأديان جوانبُ اجتماعيةٌ ومظهريةٌ تنتج عقلاً أو وعياً جماعياً بالترابط، بحيث يصعُبُ التمرد أو الخروج على تلك الأعراف والمواضعات. وقد نبَّه بعض الدارسين الميدانيين إلى ظواهر التفكك الأُسَري المستجدة، بما يعني أن الشاب الذي لا يطمئنُّ إلى أُسرته، لن يجد طمأنينةً في المجتمع الأوسع، أو دُور العبادة. على أنّ حالة الشاب الليبي الأصل الذي فجّر في جمهور مانشستر، تشير إلى تعقيداتٍ مزيدة. فوالد الشاب متشددٌ، وشباب الأسرة كانوا شديدي الارتباط به. وقد قبضت عليه الشرطة البريطانية، للإحساس بأنّ الأب قد يكون عاملاً من عوامل الدفع بأبنائه أو أحدهم للانتحار! فالتفكك الأُسَري قد يكونُ بين عوامل التشدد أو التمرد أو العنف، لكنّ والد الشاب الليبي فيما يبدو كان مسيطراً في أوساط أولاده، وقد يكون هو الذي دفع أحدهم لارتكاب الجريمة. وهنا يردُ تعبير رئيسة الوزراء البريطانية عن غسل الأدمغة، أي تطهير الأذهان والأنفُس من تلوثات تحويلات المفاهيم الدينية، ومن المرارات التي تراكمت في العقول والأعصاب نتيجة ما يعتبره هؤلاء الحساسون نازلاً بالمسلمين في العالم، وأنه يكون من الواجب عليهم دينياً التصدي له بقتل النفس والآخر.
إنّ السكينة الدينية هي حالةٌ أو موقفٌ للثقة بالأهل والاحتضان من جانبهم، كما أنها احتضانٌ من جانب الجماعة الصغيرة والكبيرة تُعطي الشعائر واحتفالات المناسبات معاني غامرةً من الود والأُنس والإحساس بأنّ الأمور على خيرٍ، وأنّ القِلقَ والمتردد سيلقى ما يبعثُ في نفسه الطمأنينة والراحة والشعور بالجماعة ودعمها وتضامُنها. وهذا معنى «العقل عن الله» عند المحاسبي وعز الدين ابن عبد السلام، إذ هو يعني العقل أو الصدور عنه باعتباره غريزةً يتساوى فيها الناس وهي شائعةٌ فيهم، أو بعبارةٍ أخرى فإنّ عقل الغريزة والآخر المكتسب إنما هما أصلٌ وأداة لعقل الجماعة أو وعيها بذاتها ودورها.
ولنعد إلى فاتحة المقال: غسل الأدمغة أو تنظيفها من التلوث هي مهمة علماء المؤسسات، والمثقفين والسياسيين والحكم الصالح. ولا بد من السير فيها من دون إبطاءٍ، لكي تكونَ لنا حياة وتكون حياةً أفضل! فالقدسية بحسب القرآن «ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا» هي للحياة وليس للموت. وبسبب هذه القدسية يصبح الواجب الديني والأخلاقي الحفاظ على الحياة بأي ثمن.



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.