«الشرق الأوسط» في مهرجان كان (10): خلطة من الأفلام ذات المصادر الأدبية... من سيكون الرابح الأكبر؟

مع إسدال المهرجان دورته السبعين هذا المساء

واكين فينكس في «لم تكن حقاً هنا» - إيمانويل سينجر في «قصة من الواقع»
واكين فينكس في «لم تكن حقاً هنا» - إيمانويل سينجر في «قصة من الواقع»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان كان (10): خلطة من الأفلام ذات المصادر الأدبية... من سيكون الرابح الأكبر؟

واكين فينكس في «لم تكن حقاً هنا» - إيمانويل سينجر في «قصة من الواقع»
واكين فينكس في «لم تكن حقاً هنا» - إيمانويل سينجر في «قصة من الواقع»

يسدل مهرجان «كان» هذا المساء الستار على دورة وصفها كثيرون بأنها، في أفضل الأحوال وبكثير من اللطف، إشكالية.
دورة عرض فيها نسبة أعلى من الأفلام المتسابقة غير المميّزة. ودورة واجه فيها جمهور المنتقدين لقيامه بإدخال أفلام من شركتي «نتفلكس» و«أمازون» غير المصنفتين كمؤسستين سينمائيّتين، بل قام باختيار أعمال تلفزيونية لتقديمها، ولو خارج المسابقة.
مع عرض آخر أفلام المسابقة أمس (السبت) فإن المهرجان، الذي ما زال لديه فيلم واحد خارج المسابقة لكي يعرضه بعد توزيع الجوائز هذا المساء (فيلم تشويقي جديد للمخرج رومان بولانسكي)، أظهر أنه لم يكن جاهزاً بأفلام متميّزة كثيرة، ناهيك أن تكون متميّزة لدورة أريد لها أن تحتفي بمرور 70 سنة على إقامته.
مدير المهرجان، تييري فريمو، أوحى بأن الأفلام التي أرادها، ومن بينها «دنكرك» للأميركي كريستوفر نولان و«أنيت» للاوس كاراكس و«فيكتوريا وعبدل» لستيفن فريرز، لم تكن كلها متوفرة وقتما حان موعد إغلاق الانتساب. وربما يؤكد ذلك أن فيلم لين رامزي الذي هو آخر أفلام المسابقة المعروضة بدا كما لو أنه لم يسعه الوقت الكافي حتى لإضافة أسماء العاملين به في النهاية.
* استيحاءات هيتشكوكية
الفيلم هو «أنت لم تكن هنا حقاً» وهو مأخوذ عن رواية قصيرة للكاتب جوناثان آمس أرادت المخرجة رامزي نقلها بإيقاعها وجوانبها الحادة. هي غير مكتوبة كسرد كلاسيكي وفيها أحداث تختلط بأحداث وأخرى تقفز فوقها، وهكذا الفيلم مع إضافة أن الكثير من مشاهد الاستعادة (فلاشباك) تظهر في غير موضعها، كما لو أن المخرجة كانت فعلاً بحاجة لمزيد من الوقت للقيام بتوليف الفيلم على نحو أجدى.
إنها حكاية قاتل مأجور اسمه جو (يواكين فينكس) يعيش اليوم بأوجاع الأمس الدفينة. شخصية مرتبكة وحادة يطلب منها البحث عن فتاة في الرابعة عشر من عمرها تم خطفها من قبل عصابة تتاجر بالفتيات الصغيرات في عالم موحش يسوده الفساد بين النافذين وأصحاب الثراء. الفكرة بحد ذاتها مقبولة وإن لم تكن منفردة، وهناك ما يذكرنا بأن مهمّة روبرت دينيرو في «تاكسي درايفر» سنة 1976 لم تكن مختلفة باستثناء أنه لم يكن قاتلاً مأجوراً بل سائق تاكسي يغشوه الضباب دافعاً به لمحاولة تصفية أشرار مشابهين.
جو لديه أسباب أهم من أسباب شخصية دينيرو في ذلك الفيلم، وبعضها لا يعود فقط إلى ماضيه البعيد حين كان لا يزال ولداً صغيراً. فهو شارك في المجهود الحربي الأميركي كمجند والتحق بالمخابرات المركزية بعد ذلك، وفي الحالتين قتل ما يكفي لكي يزيده ذلك اضطراباً. هناك مشاهد منجزة بتفاصيل بصرية رائعة، لكنها لا تمنح العمل إلا حسنة واحدة في هذا السياق، وهو الذي كان يحتاج إلى قدر من التأني وبعض الإيضاح الممنهج جيداً.
الفيلم الذي سبقه، وذاك الذي سيختتم الدورة هذه الليلة كلاهما تشويقي أيضاً.
الفيلم السابق هو «عشق مزدوج» للفرنسي فرنسوا أوزون المقتبس من رواية أيضاً هي «حياة توأم: عشق مزدوج» للكاتبة الأميركية جويس كارول أوتس صاحبة أكثر من 40 رواية منذ مطلع الثمانينات وإلى اليوم. الماضي يلعب هنا دوراً مهماً، فالفيلم حول طبيب نفسي اسمه بول (جيرومي رنيير) الذي يعالج امرأة شابة (مارين فات) لجأت إليه لأنها باتت تعتقد أن أوجاع معدتها ناتجة عن حالة نفسية وليس بدنية (كما أكد كذلك الأطباء). كليو تجذبه وسريعاً ما يبدآن علاقة قبل أن تعلم بأن للطبيب شقيقا توأما ولو أن ماضيه (أو ماضيهما إذا أحببت) يبقى خارج قدرتها على الإلمام.
لويس (شقيق بول) هو أيضاً طبيب نفسي وهي تعرض مشكلتها الصحية عليه وتجد أن حلوله ليست متطابقة مع تلك التي وفرها بول. والأمور تتعقد من هنا وصاعدا وتتسع لمزيد من المتاهات التي يعالجها أوزون جيداً لكنه يستعير من هيتشكوك ودي بالما (من الأخير مبدأ المرايا الرامز لتعدد الشخصيات)، ولو أنه يفتقد قدرتهما على إبقاء التشويق خالياً من عيوب الرغبات الشخصية التي لديه.
* عودة بولانسكي
أفضل منه فيلم رومان بولانسكي الذي يأتي ليختتم الدورة السبعين، والمرء يتمنى لو كان اختير للافتتاح فلربما منح الحضور طمأنينة لم يستطع «أشباح إسماعيل» المتوعك توفيرها.
بولانسكي في «قصة من الواقع» مبني أيضاً على مزيج من سينما هيتشكوك وسينما دي بالما. موسيقى ألكسندر دسبلات ليست بعيدة الشبه بموسيقى برنارد هرمان لفيلم ألفرد هيتشكوك «فرتيغو» (1958) وحياكة قصّة تتناغم ومعطيات علاقة صراع بين امرأتين، وتقترب ثم تنزوي بعيداً عن المثلية الجنسية، تشبه تلك التي أقدم عليها الأميركي دي بالما في فيلمه الفرنسي (أنتجه طاق بن عمّار) «شهوة» (2012) ولا حتى فيلم ألان كورنيو «جريمة حب» (2012)، وهو أيضاً مقتبس عن رواية أدبية وضعتها دلفين دي فيغان قبل بضع سنوات.
يفتح الفيلم على كاتبة ناجحة اسمها (أيضاً) دلفين (إيفا غرين) وهي توقع كتابها الأخير في حفل أدبي. هناك تتعرف على امرأة تتقدم منها في نهاية صف طالبي التوقيعات اسمها «هي» Elle، كما تقدم نفسها‪.‬
«إل» (إيمانويل سينجر) تعمل كاتبة في الظل وتمنح دلفين أسباباً سريعة للتواصل معها. «أستطيع مساعدتك على كتابة روايتك المقبلة»، تقول لها. لكن «إل» لا ترغب في المساعدة بقدر ما ترغب في التسلط على حياة دلفين وإدارتها كما ترغب. في مكان ما من منتصف الفيلم، وبعد أن انتقلت «إل» لتعيش في البيت ذاته الذي تعيش فيه دلفين، تدرك الأخيرة أنها أصبحت في خطر السقوط في حفرة المرأة الأخرى وهي تسقط فعلاً إنما على سلم منزلها الباريسي ما يصيبها بكسر في الساق. هنا لم يعد هناك إمكانية عدم اتكالها على «إل» خصوصاً أن صديقها (فنسنت بيريز) غائب في رحلة إلى الولايات المتحدة.
سيبقي الفيلم مشاهديه مستمتعين معظم الوقت. فيه بعض التشويق وفيه بعض الحيل وبعض التاريخ الغامض للشخصيات، لكن النظرة الأعمق تكشف عن سيناريو مرتب ليقود مشاهده من وضع لآخر بفعل الصدف والاختيارات المنتقاة من المفارقات على الرغم من احتمالات أخرى يتم إلغاؤها.
إذا ما كان مدير المهرجان تييري فريمو يعتقد أن المهرجان المنسدل أدّى دورة ناجحة، فإن المنتج والموزع الفرنسي تييري لانوفل يكشف في حديث بيننا أن المسألة انتقلت بالفعل من مهرجان يقصد دعم السينما عموماً إلى مهرجان صناعي يكثّف وجود السينما الفرنسية:
«ليس كل السينما. هل شاهدت فيلماً فرنسياً فنياً أو مستقلاً هنا في السنوات الخمس الأخيرة مثلاً؟ غير ممكن».
* موضوع متواصل
إلى ذلك يشير إلى أن ما تم عرضه من أفلام فرنسية لم ينل معظمها تقدير غالبية النقاد هو أفضل ما تقدّمت به شركات التوزيع: «هل شاهدت أفلاماً من باتيه وغومون مثلاً؟» وعند الإجابة بالنفي أضاف: «لأنها لا تملك أفلاماً جديرة بالتقديم حتى ضمن هذا الحيز المحدود من الفن».
السوق، حسب رصد المجلات الأميركية والفرنسية المتخصصة بالصناعة والإنتاج، مثل «ذا هوليوود ريبورتر» و«فيلم فرنسيس» و«فاراياتي»، كانت ضعيفة. الصفقات إما عقدت قبل الحضور إليه أو أنها لم تكن بالمبالغ العالية التي كانت سائدة حتى 8 سنوات مضت.
وخلال الساعات الأخيرة من المهرجان طفت إلى السطح مجدداً عقدة «نتفلكس» التي عرضت فيلمين من إنتاجها هما «حكايات مايروفيتز» و«أوكيا» بنجاح نقدي محدود. ما أعاد القضية إلى الظهور بيان من «اتحاد السينمات الأوروبي» (UNIC) يمثل 36 سوقاً أوروبية، شدد على أن كل الأفلام عليها أن تكون صالحة للعرض في صالات السينما.
هذا الاتحاد القوي من شأنه أن يحبط أي مسعى لنتفلكس أو لمنافستها أمازون في عرض أفلامها في أي مهرجان أوروبي، وربما آسيوي إذا ما أصدر اتحاد مشابه مثل هذا المشروع.
وهذا ما يعارضه المخرج رومان بولانسكي الذي صرّح تعليقاً على البيان وعلى التجاذبات التي سادت المهرجان منذ إعلانه اشتراك هذين الفيلمين في المسابقة، بأن لا خطر على السينما من وجود العرض المنزلي المباشر. قال:
«الناس لا تذهب إلى صالات السينما بسبب تقنيات الصوت الأفضل ولا بسبب المقاعد الأكثر راحة فقط، بل لأنها تريد أن تشاهد الأفلام معاً». ثم أضاف: «الجمهور يحب مشاهدة الأفلام على نحو جمعي. إنها تجربة متأصلة تختلف كثيراً عن تجربة مشاهدة الأفلام في المنزل وحيداً».
وبينما ترفض هذه المسألة أن تُطوى قبل أن يسدل «كان» ستار النهاية، فإن الحديث الجامع والأهم هو من الذي سيفوز بالجائزة في هذه الدورة؟
هناك عدة حقائق قد تضعنا أمام الأفلام الأعلى احتمالاً بالفوز أهمها أن المميّز فعلاً محدود وقليل. معظم الأفلام المشتركة في هذه الدورة ذات عجينة متشابهة من المواد البصرية والفنية ما يجعلها متشابهة في مستوياتها الإبداعية.
* صوب النتائج
كما تقدّم هناك الفيلم الروسي «بلا حب» الذي نال التقدير الأعلى بين النقاد في هذه الدورة. إنه جديد مخرج يوفر لمشاهديه الأسلوب والعين الناقدة اسمه آندريه زفينتسيف وفيلمه الجديد، وإن كان ليس الأفضل بين أعماله السابقة، ما زال يحمل هاتين المتعتين في الشكل والمضمون.
وكان يمكن له أن يبقى في سدّة الترجيحات وحيداً لولا فيلم آخر حمل قوّة شبه مساوية عنوانه «مخلوق رقيق» لمخرجه الليتواني سيرغي لوزنيتسا. إنه فيلم يدور بكامله حول امرأة تعيش في بلدة روسية (فاسيلينا ماكوفتسيفا) تسلمت طرداً كانت أرسلته لزوجها السجين. لا تعرف لماذا أعيد إليها ولم يوفر لها أحد أي تفسير، فتقرر أن تقطع المسافة الطويلة بين قريتها وبين السجن الكامن في مقاطعة روسية بعيدة لعلها تحظى بالجواب. حال وصولها تجد نفسها ممنوعة حتى من الدخول من بوابة السجن الخارجية.
ستسعى وستصد أكثر من مرّة وستقضي ليلتها الأولى في بيئة من السكارى والثانية ما بين الشارع وغرف انتظار، هذا قبل أن يلتوي الفيلم 90 درجة جانبية ليدخل في عالم من الفانتازيا في فصل طويل وغير متصل فعلياً بما سبق يمكن لصقه بأي فيلم آخر ليؤدي ذات الهدف غير المحدد.
روسيا في هذا الفيلم بلد من العاهرات والسكارى والفساد الاجتماعي. لكن المشكلة هنا هي أنه بوجود استثناء واحد عن هذه القاعدة (هو الزوجة المصرّة) فإن هذا الموقف يقتنص نفسه. يقلل من قيمة النقد لعدم امتثاله للواقعية ولخلوه من عنصر آخر (ولو واحد) يقدّم تنويعة ما.
أسلوبياً، يحمل ذات ما حرص المخرج عليه في أفلامه التسجيلية والروائية معاً وهو توظيف كل مشهد يحمل أكثر من شخص واحد فيه، للاستماع إلى حكايات متبادلة بين الشخصيات حتى وإن لم تكن متصلة بالأحداث. مشهد مثل انتقال بطلة الفيلم في مقطورة مزدحمة بينما تتناهى إلى مسامعنا ما يتبادله باقي الركاب من حوار كما لو أن مهمّة الفيلم سرد الحكاية الأساسية، وكل حكاية أو موقف ممكن، سرعان ما يخضع الفيلم لرتابة غير مقبولة.
على ذلك قد يفوز هذا الفيلم بجائزة ما. كذلك فيلم تود هاينس «ووندرستراك» لكونه يلتقي في صميمه مع ما يتعامل وإياه رئيس لجنة التحكيم المخرج الإسباني بدرو ألمادوفار من قضايا في أفلامه: الماضي العابق بمشاكل نفسية وعاطفية تؤدي إلى حاضر من اللون نفسه.
في المقابل، فإن ما يخرج من الاعتبارات المبدئية هو أكثر مما يدخلها، وفي هذا الصدد فإن الرأي المنتشر هنا أن فيلمي صوفيا كوبولا «المنخدعات» وميشيل هنيكه «نهاية سعيدة» لا يستحقان الفوز، ما يرفع من احتمال فوز «ووندرستراك» أيضاً أو فيلم التركي - الألماني فاتح أكين «في الاختفاء».
وبما أن المهرجان فرنسي ومعظم أفلامه مبللة بتمويل فرنسي (حتى لو تحدثت بلغة أخرى)، فمن غير المستعجب خروج أحدها بجائزة ولو في مدار جوائز لجنة التحكيم.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».