بادية الشام... مسرح مواجهة واشنطن وطهران

في ضوء القرار المشترك بالتصدي لتوسع إيران في المنطقة

بادية الشام... مسرح مواجهة واشنطن وطهران
TT

بادية الشام... مسرح مواجهة واشنطن وطهران

بادية الشام... مسرح مواجهة واشنطن وطهران

لم تسرق حتى الساعة أي جبهة الضوء من جبهة البادية السورية التي شهدت قبل أكثر من أسبوع حركة أميركية لافتة بإطار التصدي لدفع إيران بمجموعة من الميليشيات للسيطرة على معبر التنف والوصول إلى الحدود العراقية وبالتالي تأمين ممر بغداد - دمشق ومن خلفه بيروت - طهران. ولعل ما نتج عن القمة العربية - الإسلامية - الأميركية التي شهدتها الرياض نهاية الأسبوع الماضي، لجهة القرار المشترك بالتصدي لتوسع إيران في المنطقة، جعل الأنظار تتركز أكثر على البادية السورية التي قد تتحول مسرحا لمواجهة أميركية - إيرانية مفتوحة، خاصة في ظل المعلومات عن تعزيزات وصلت إلى قاعدة التنف العسكرية بالتزامن مع استكمال الميليشيات التابعة لطهران تقدمها باتجاه «الخطوط الحمراء» التي رسمتها واشنطن وأبلغت بها موسكو.
في جنوب شرقي سوريا، استنفار متواصل منذ أكثر من 10 أيام. الفصائل المدعومة أميركيا تتحضر لمعركة «بركان البادية» لطرد الميليشيات الموالية لطهران من المناطق التي تقدمت إليها مؤخرا في بادية الشام، في حين تواصل عناصر هذه الميليشيات محاولات التقدم، ولقد باتت بالفعل على مشارف «الخط الأحمر» الذي رسمته واشنطن، وهو يبعد 40 كلم عن القاعدة العسكرية في التنف؛ حيث تتحصن قوات أميركية وبريطانية ونرويجية تدرّب مقاتلين معارضين ينضوون بشكل رئيسي ضمن إطار «جيش مغاوير الثورة».
ويبدو أن هذه الميليشيات ستكون وفق خبراء، في حال قررت خرق «الخطوط الأميركية الحمراء»، على موعد مع ضربات جوية جديدة تنفذها واشنطن، على غرار الضربة التي استهدفت قبل 10 أيام قافلة لمقاتلين تقودهم طهران، كانوا في طريقهم إلى قاعدة التنف العسكرية في جنوب سوريا قرب الحدود مع العراق والأردن.
ومن جانب آخر، وعلى الرغم من إعلان نظام دمشق في حينه أن القصف الجوي الذي نفذته طائرات التحالف الدولي قرب الحدود الأردنية استهدف «إحدى النقاط العسكرية للجيش (النظامي) السوري» في شرق البلاد، أكّد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» مقتل ثمانية أشخاص «معظمهم غير سوريين». كذلك نقلت شبكة «سي إن إن» عن مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية قوله إن واشنطن أرسلت طائرتين «استعراضا للقوة» لإرغام المركبات السورية على العودة، وأضاف: «لكن المركبات لم تتوقف، ما أدى إلى التصعيد من استعراض للقوة إلى غارة جوية». ووفقاً للمسؤول الأميركي، اخترقت ثلاث عشرة مركبة «منطقة نزع السلاح» حول قاعدة التنف، وهي المنطقة التي أبلغ التحالف الروس بضرورة الابتعاد عنها. وقال المسؤول إن 5 من المركبات كانت على بعد 29 كيلومتراً من القاعدة عند منتصف ليلة الخميس عندما تم إرسال الطائرات الأميركية.
في هذه الأثناء، يترقّب خبراء بالملف السوري وبسياسة واشنطن الخطوة الأميركية. ويتوقع هؤلاء أن تنخرط الولايات المتحدة أكثر في ميدان العمليات السوري من خلال تأمين الدعم الجوي للمجموعات السورية البرّية التي تدعمها، وكذلك زيادة أعداد عناصرها من خبراء ومستشارين وقوات خاصة، المنشورين في المنطقة. وفي هذا السياق، يقول رياض قهوجي، رئيس مركز «الشرق الأوسط والخليج للتحليل العسكري» (إنيغما): «تشهد سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط تغييرات كبيرة على عدة صعد، على أن تبقى سرعة هذه التغييرات ومدى دراماتيكيتها رهن حنكة الإدارة ونجاحها في تسويقها وتنفيذها داخلياً وخارجياً».
ويؤكد قهوجي، في مقال بموقع «منتدى الأمن والدفاع العربي» أن هذا ما خلصت إليه اجتماعات وحلقات حوار مع مسؤولين في الخارجية الأميركية ووزارة الدفاع (البنتاغون) ومراكز الأبحاث في واشنطن. وهو ينقل عن مسؤول رفيع في الخارجية الأميركية أن «سياسة أميركا نحو إيران ودول الخليج ستشهد تحولاً بنسبة 180 درجة». ويلفت الخبير الاستراتيجي اللبناني - الذي يتخذ مركزه من دبي مقراً له - إلى أن «أهم هدفين للإدارة الأميركية الجديدة فيما يخص طهران هما إيقاف أو الحدّ من تطور برنامج الصواريخ الباليستية، وحصر الانفلاش الإيراني في المنطقة، وتحديداً عبر منعها من فتح ممر برّي يصل حدود إيران الغربية بالبحر المتوسط عبر العراق وسوريا، وهذا مع التركيز على إنهاء وجود إيران وحلفائها من المناطق المحاذية للجولان».
* القضاء على «داعش»
من جهة ثانية، حسب مسؤولين عسكريين أميركيين سيبقى موضوع القضاء على تنظيم داعش الإرهابي المتطرف على قمة أولويات الإدارة الأميركية الجديدة، ولكن من منطلق آخر وغايات مختلفة عن تلك التي كانت تبنّتها إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. وفي هذا الإطار، يوضح قهوجي: «هدف محاربة (داعش) والمجموعات المرتبطة بتنظيم القاعدة سيكون ضمن سياسة الحد من نفوذ إيران والنظام السوري اللذين يستغلان الحرب ضد هذه الجماعات لتوسيع مناطق نفوذهما في سوريا والعراق». وعليه، فهدف الحرب على «داعش» وأتباعه، حسب الإدارة الجديدة في واشنطن، لن يكون للقضاء عليه فحسب، إنما السيطرة على أراضيه ومنع إيران وحلفائها من احتلالها واستخدامها في بناء الممر البري نحو الساحل السوري.
ويرجّح قهوجي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن تكون المعركة الكبيرة والرئيسية في محيط مدينة البوكمال ثاني كبرى مدن محافظة دير الزور، المتاخمة للحدود العراقية، «حيث سيسعى الإيرانيون لتلاقي القوات التابعة لهم والآتية من الحدود العراقية مع تلك المقاتلة داخل الحدود السورية»، ويضيف أنه «إذا نجحت القوات المدعومة أميركياً بالوصول إلى هذه المنطقة وقطع الطريق على تلاقي الميليشيات الإيرانية، فستكون قد أفسدت الخطة والطموحات الإيرانية، وسنشهد عندها فرض واقع جديد وتدخل أكبر من الجانب الأميركي». ويتابع قهوجي: «الأمور ستتبلور وتتحرك في بداية الشهر المقبل، بعيد انتهاء جولة الرئيس الأميركي في منطقة الشرق الأوسط واجتماعات حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقمة مجموعة الدول السبع (G7)».
* «جيش مغاوير الثورة»
على صعيد آخر، برز في الآونة الأخيرة دور «جيش مغاوير الثورة» بقيادة العقيد مهند الطلاع كذراع أساسية لواشنطن في المنطقة الشرقية من سوريا، على غرار اتخاذها في الشمال السوري ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) - ذات الغالبية الكردية - حليفا أساسيا لها، على الرغم من كون الأول لا يزال متواضعاً من حيث العدد والإعداد والقدرات إذا ما قورن بـ«قسد». وأظهرت دراسة حديثة أعدها مركز «جسور» للدراسات أن «جيش مغاوير الثورة»، الذي من المتوقع أن يخوض معركة دير الزور هو الفصيل المعارض الذي يسيطر على أكبر مساحة جغرافية، تتمثل بشكل رئيسي في منطقة البادية (بادية الشام)، وهو ما اعترض عليه مسؤولون في فصيل «أسود الشرقية» الذي يقاتل في المنطقة أيضاً ويعمل ضمن مشروع غرفة «الموك» (مقرها الأردن).
حالياً، تتركز وجهة «مغاوير الثورة» على مدينة دير الزور على طول الحدود الشرقية الممتدة من التنف على مثلث الحدود السورية - الأردنية - العراقية، وشمالاً باتجاه دير الزور. وقد تطوّرت من ميليشيا «جيش سوريا الجديد» التي أُعلن عنها في الصيف الماضي وتعرّضت لانتكاسة إثر ضربة جوية يُعتقد أنها روسية استهدفت معسكراً لهم في المنطقة، إلى «جيش مغاوير الثورة»، ولم يسجل لها أي احتكاك مع قوات النظام. أما ميليشيا «أسود الشرقية» المدعومة من غرفة «الموك»، فيقتصر دعم الغرفة لها على الدعم اللوجيستي والتسليحي، من غير مشاركة في القتال إلى جانبها. وتنتشر هذه القوة في بادية جنوب شرقي السويداء وتمتد شمالاً حتى القلمون الشرقي، ولقد استطاعت أن تحرز تقدماً كبيراً منذ مارس (آذار) الماضي على حساب «داعش».
ووفق الباحث الاستراتيجي والخبير العسكري الأردني الدكتور فايز الدويري، فإن ما تشهده منطقة البادية ليس مواجهة إيرانية - أميركية مباشرة بل أشبه بـ«حرب بالوكالة» تخوضها ميليشيات محسوبة على طهران وفصائل مدعومة أميركياً.
* «حرب بالوكالة»
ويؤكد الدويري في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن الميليشيات التي تتقدم باتجاه التنف محصورة بـ«كتائب الإمام» و«سيد الشهداء» وهي ميليشيات عراقية، نافياً انضمام ميليشيا «حزب الله» أو ميليشيات فلسطينية للقتال على هذه الجبهة. ويضيف: «في المقابل يقاتل (مغاوير الثورة) و(أسود الشرقية) و(أحرار العشائر) وقوات (أحمد العبدو) بطرف الفصائل المحلية المدعومة أميركياً». ويشير الدويري إلى أن واشنطن «تتدخل بشكل مباشر عند الضرورة وهو ما شهدناه قبل 10 أيام حين استهدفت قافلة لكتائب (سيد الشهداء) كانت تقترب من معبر التنف»، مستبعداً أن «تلعب إيران أي دور مباشر في المعركة هناك، فتكتفي بإرسال الميليشيات العراقية التي تقحمها في سياسة حافة الهاوية».
وفي السياق ذاته، تردد في الأيام القليلة الماضية، أن مجموعات من «لواء القدس الفلسطيني»، التي كانت موجودة في حلب، انتقلت للمشاركة في معارك بادية تدمر وفي العملية العسكرية التي تهدف قوات النظام السوري من خلالها إلى التقدم نحو الحدود الإدارية لمحافظة دير الزور. ويُعتبر «لواء القدس الفلسطيني» الذي أسس عام 2013 من أبرز المجموعات الفلسطينية التي ساندت نظام الأسد في مدينة حلب وريف محافظتها، ومعظم مقاتليه من مخيمي النيرب وحندرات. وكانت ميليشيات شيعية عراقية جديدة يطلق عليها اسم «الأبدال» قد نشرت صوراً لعناصرها الأسبوع الماضي على الطريق المؤدية إلى معبر التنف، وقالت إنها سيطرت على نقطة مهمة في المنطقة. أما وكالة «فارس» الإيرانية التابعة لـ«الحرس الثوري»، فقد أعلنت أن طهران سترسل 3000 مقاتل من «حزب الله» إلى معبر التنف «لإحباط» ما سمتها «المؤامرة الأميركية»، وذلك بعد الضربة العسكرية التي استهدفت رتلا لقوات النظام في المنطقة، الأسبوع الماضي.
يذكر أن النظام السوري وحلفاءه أعلنوا في الثامن من مايو (أيار) الحالي فتح معركة الوصول إلى الحدود العراقية، وبالتالي تأمين ممرّ بغداد - دمشق، ثم ممر بيروت - طهران، وذلك بالتزامن مع ما سبق تداوله عن حشود عسكرية على الحدود الأردنية مع سوريا تمهيدا لعملية تدعمها واشنطن في الجنوب.
وتجنّدت وسائل الإعلام التابعة للنظام و«حزب الله»، في حينه، للتحذير من «تحركات لقوات أميركية وبريطانية وأردنية باتجاه الأراضي السورية». بل إن «الإعلام الحربي» التابع لـ«حزب الله» وجه يومذاك على لسان مصدر فيه «تهديداً مباشراً» لواشنطن قائلا: «ليعلم الأميركيون وحلفاؤهم أنهم سيدفعون الثمن غالياً، وسيكونون أهدافاً جراء استباحتهم الأرض السورية».
أما قناة «الميادين» اللبنانية، المقربة من النظام السوري و«حزب الله»، فتحدثت بدورها عن «رصد تحرّكات عسكرية ضخمة تشير إلى اقتراب ساعة الصفر على الحدود السورية مع الأردن». ولفتت إلى «تجمّع حشود عسكرية أميركية وبريطانية وأردنية على الحدود الجنوبية لمحافظتي السويداء ودرعا من تل شهاب إلى معبر نصيب، وإلى منطقة الرمثا وانتهاءً في خربة عواد (بأقصى جنوب محافظة السويداء) ووجود كتائب دبابات بريطانية ثقيلة من نوع (تشالنجر) مع 2300 مسلح وعدد من طائرات الهليكوبتر العسكرية من طرازي (كوبرا) و(بلاك هوك)». ووفق ادعاءات القناة فإن «قرابة 4000 مسلح ممن دُرِّبوا في الأردن موجودون في منطقة التنف داخل الحدود السورية». ولكن في مقابل ذلك، لم يصدر أي تعليق رسمي أردني أو أميركي بخصوص أي تحضيرات لعملية عسكرية مرتقبة في الجنوب السوري. والأرجح أن التعزيزات اقتصرت على المشاركة في مناورات «الأسد المتأهب» لعام 2017 التي شاركت فيها 23 دولة خلال الفترة الواقعة من 7 حتى 18 مايو. وهو ما أكّده الدويري، مشددا على أن كل ما تم تداوله عن حشود على الحدود الأردنية - السورية للمشاركة في معركة كبيرة في الداخل السوري، تبين أنّه لا يعدو «زوبعة في فنجان»، باعتبار الأردن لا يجد نفسه معنياً أبدا بفتح جبهة مع سوريا وإن كان لن يتردد في دعم فصائل معارضة في معركتها لتأمين حماية حدوده.
* إيران... وأميركا
وفق المعطيات الراهنة، لا يبدو أن الطرف الإيراني بصدد الاستسلام قريباً للإرادة الأميركية بما يتعلق بممر التنف الذي يُعتبر غاية في الأهمية لطهران. وهذا ما يشدد عليه الباحث المتخصص بشؤون الجماعات المتشددة عبد الرحمن الحاج، الذي يشير إلى أن «الإيرانيين لن يتوقفوا عن المحاولة للسيطرة عليه، لكن هل سيسمح لهم الأميركيون بذلك؟ ليس هناك ما يؤشر إلى أي تهاون مع تقدم قوات موالية للإيرانيين».
ويرى الحاج في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «هذا سيكون في الواقع أول امتحان لصدق النيّات الأميركية بخصوص ما أعلنه ترمب في قمة الرياض، علما بأن للمسؤولين الرئيسيين في إدارة الرئيس دونالد ترمب تجربة سيئة في العراق مع إيران، كما أن وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس يحمل تصورا متشددا تجاه طهران... وإذ كان قد استقال في عهد أوباما على خلفية الاختلاف معه في هذا الموضوع تحديدا».
ويعتبر الحاج أنه «ليس من مصلحة أي دولة في المنطقة وجود ممرات عسكرية لإيران نحو البحر المتوسط عبر سوريا، كما يمكن الحديث عن مصلحة مشتركة إقليمية - دولية في إغلاق ممرات الإرهاب من إيران والعراق مصلحة إقليمية ودولية». ويستبعد الحاج أن تقرر إيران الدخول في مواجهة مباشرة مع الأميركيين لتأمين هذا الممر، من منطلق ألا قدرة لها أساسا على ذلك، وإن كانت ستستمر بالمحاولة ما لم تظهر الولايات المتحدة ردا حاسما.
كذلك يستبعد الحاج أن تلجأ الولايات المتحدة للاعتماد على قوات أميركية برّية للقتال في الشرق السوري، لافتا إلى أنها «مضطرة للاعتماد على مقاتلين محليين حيث يصعب أن يكون لدى الأكراد إمكانية بشرية للقتال هناك». ويتابع: «لهذا تقوم الولايات المتحدة بدعم وتجهيز قوات محلية بالتعاون مع الأردن وبريطانيا ليقوموا بهذا الدور فيطردوا (داعش)... بدءا من الحدود الجنوبية لسوريا ووصولا لدير الزور والرقة وشرقا نحو الحدود العراقية».
* أين الدور الروسي؟
هنا، اللافت أن الدور الروسي يبدو شبه منعدم في معركة التنف، إذ اقتصر رد فعل موسكو على الضربة الجوية التي نفذها التحالف الدولي في المنطقة بوقت سابق على الاستنكار. فلقد حذّر غينادي غاتيلوف، نائب وزير الخارجية الروسي، من أن أي عمليات عسكرية تؤدي إلى تصعيد الوضع في سوريا، تؤثر حتما على سير العملية السياسية في آستانة وجنيف. وأردف: «لا سيما مثل هذه الخطوة التي استهدفت القوات المسلحة السورية».
إلا أن الدور الروسي يتفعل في المعركة المتوازية التي يخوضها النظام عبر خط تدمر - السخنة - دير الزور، على الرغم من تأكيد خبراء أن موسكو ليست بصدد الدخول في مواجهة مع واشنطن «في الوقت الحالي»، وإن كانت لن تتردد في مسابقتها إلى دير الزور.
ومن جهتها، تتابع المعارضة السياسية عن كثب التطورات في المنطقتين الجنوبية والشرقية، وتعوّل على «متغيّرات كبيرة» بعد القمة الإسلامية - العربية - الأميركية التي عقدت في الرياض، لجهة تعاظم الدور الأميركي في التصدي للتمدد الإيراني. وفي هذا الإطار، يتحدث أحمد رمضان، رئيس الدائرة الإعلامية وعضو الهيئة السياسية في «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية» عن «محاولة إيرانية مستمرة للتمدد نحو الحدود السورية مع العراق، وإبقاء خط الإمداد من بغداد مفتوحاً لحساب نقل الأسلحة والذخائر والإمداد لنظام الأسد»، ويقول في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إنه بات «من المعروف أن نظام بغداد وقّع في زمن نوري المالكي عام 2012 اتفاقاً مع النظام الإيراني يقضي بعبور الشاحنات من إيران إلى سوريا مروراً بأرض العراق من دون تفتيش، وهذه كانت مخصّصة لنقل الإمدادات العسكرية والمرتزقة، أما الآن فهناك قرار من التحالف الدولي بقطع هذا الطريق، وفرض رقابة على عمليات النقل الجوي، ما يعني محاصرة الميليشيات الإيرانية في سوريا والتضييق عليها». ويرجّح رمضان أن «يواصل الحرس الثوري الإيراني محاولة فتح طرف الإمداد الخاص به عبر أكثر من وسيلة»، مستدركاً «لكنني أعتقد أن تلك المحاولات لن تنجح، لأن ميليشيات إيران في سوريا ستكون هدفاً في المرحلة المقبلة».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.