هاكان فيدال.. كاتم أسرار أردوغان

رئيس الاستخبارات التركية.. «الشاويش» المتدين متهم بدعم المنظمات الراديكالية في سوريا

هاكان فيدال.. كاتم أسرار أردوغان
TT
20

هاكان فيدال.. كاتم أسرار أردوغان

هاكان فيدال.. كاتم أسرار أردوغان

خلال الأسبوعين الماضيين، حفلت الصحافة الغربية بسلسلة مقالات ذات طابع سلبي عن الدور التركي في المنطقة، كان قاسمها المشترك واحدا، وهو رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، الذي اتُّهم بدعم المنظمات الراديكالية في سوريا وتنمية نفوذها، وصولا إلى تسليم جواسيس إسرائيليين لإيران.. لكن تركيا تصرفت على أساس أن هذه الانتقادات تتخطى فيدان ودوره لتطال رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان.
المعروف عن فيدان أنه قريب جدا من أردوغان إلى درجة أن البعض حار في توصيفه على أنه الرجل الثاني بعد أردوغان، أو الثالث في تركيا بعد أردوغان والرئيس عبد الله غل.
الوصف الذي اختاره له أردوغان كان.. «إنه حافظ أسراري. إنه حافظ أسرار الدولة»، بينما يقول الكاتب التركي المعروف جنكيز قاندار إنه بمثابة «كعب أخيل» لأردوغان، في إشارة إلى أن استهدافه غربيا هو استهداف لدور أردوغان.
يشير قاندار إلى الأهمية التي تعاملت فيها تركيا مع هذه الأخبار التي وردت في مقالات متعددة في صحيفة «وول ستريت جورنال» في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث تحدثت الصحيفة عن الدور المهم لفيدان في دعم المنظمات الراديكالية في سوريا، ثم في صحيفة «واشنطن بوست» في 16 أكتوبر التي تحدث تقريرها عن تسليم فيدان 10 جواسيس إسرائيليين لإيران، تلاه في 18 من الشهر ذاته تقرير لـ«نيويورك تايمز» يتحدث عن تراجع التعاون التركي - الإسرائيلي بسبب مخاوف من تسريب فيدان المعلومات إلى الاستخبارات الإيرانية وإلى المجاهدين في سوريا.
وعلى الرغم من أن تركيا كانت عند نشر التقارير في عطلة عيد الأضحى، فإن الردود انهمرت من كل حدب وصوب، فتحدث نائب رئيس الوزراء بشير بوزداغ دفاعا عن فيدان، مؤكدا أن ولاء ووطنية رئيس الاستخبارات التركية «هاكان فيدان» ليست موضوعا للنقاش. وقال بوزداغ: «على الجميع أن يعي هذه الحقيقة، وأن حكومة حزب العدالة والتنمية هي من وضعت فيدان على رأس عمله، ولن تعزله ولن تسمح لأحد بعزله».
أما وزير الخارجية أحمد داود أوغلو فقال إن «هذه المعلومة الخاطئة تظهر مدى امتياز العمل الذي يؤديه فيدان»، منددا بهذا «الافتراء» الهادف إلى تلطيخ «السمعة المحترمة»، التي تحظى بها تركيا.
وبينما تبارت الصحف الحكومية، أو تلك القريبة منها، في الرد على الاتهامات، مذكرة - كصحيفة «صباح» - بالأصول الأرمينية للكاتب الأميركي ديفيد إغناتيوس، وصف مسؤولون في أنقرة تقرير الصحيفة بأنه جزء من محاولة لتشويه سمعة تركيا من جانب قوى خارجية لا تشعر بالارتياح لتنامي نفوذ تركيا في الشرق الأوسط.
ويرى البار بيردال رئيس تحرير جريدة «صول» المعارضة، أن الحملة التي تشن الآن من أميركا وإسرائيل على فيدان هي «نتاج لبداية توسيع الهوة في وجهة النظر بين أميركا وتركيا حيال ما يجري في الشرق الأوسط».
ويقول بيردال لـ«الشرق الأوسط»: «لو نظرنا إلى الفترة التي بدأت بها الحملة لرأينا أنها أتت مباشرة بعد الادعاءات باستخدام سوريا السلاح الكيماوي، ومن ثم الاتفاق بين روسيا وأميركا على حل الأزمة السورية بالطرق السلمية، مما أدى إلى وقوع فراغ كبير وخيبة أمل من قبل حزب العدالة والتنمية، الذي كان يعد العدة للحرب على سوريا وابتلاعها، ولهذا بدأ أردوغان الانتقاد اللاذع للولايات المتحدة، وبدأ الخلاف يظهر على الساحة». ويستنتج أن «الولايات المتحدة التي بدأت تشعر بالقلق من تصرفات وتصريحات أردوغان اختارت هاكان فيدان، ليكون عنوانا لتوجيه انتقاداتها وهجومها لأردوغان».
وإذ يعترف بيردال بوجود «خلاف بين الحكومة والجماعات الدينية (في تركيا) حول اقتسام المناصب»، فهو يشير إلى أن «جماعة فتح الله غولان تعمل بأوامر من واشنطن، ولهذا لا أستغرب أن تكون الجماعة شنت الحملة على فيدان، ولكن لا أعتقد أن هناك تعاونا أو تنسيقا بين الجماعة ومخابرات دول أخرى»، مشددا على أن الولايات المتحدة «تريد أن توصل رسالة إلى أردوغان وطاقمه مباشرة، وسنرى تأثيراتها في الانتخابات المقبلة».
أما الكاتب إمري أوصلو من جريدة «طرف»، فيرى أن فيدان يعتبر الرجل الثاني في تركيا بعد أردوغان، في إدارة العمليات العسكرية والاستراتيجية، ومن الطبيعي أن يهتم الإعلام والشارع بهذا الرجل الغامض الذي يدير أهم العمليات في تركيا، ولا يظهر للإعلام مباشرة، مثل رئيس الوزراء أو الوزراء الذي نشاهدهم كل يوم، كما أن هذا الشخص هو المسؤول عن أهم العمليات التي تقوم بها تركيا في منطقة الشرق الأوسط، كما أنه هو الشخص الأكثر تأثيرا على أردوغان، وهو الذي يوجه في أغلب الأمور، خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط، سواء كانت هذه المعلومات أو هذا التوجيه على صواب أم على خطأ».
وإذ يستبعد أوصلو وجود حملة غربية ضد فيدان، يقر بوجود حملة إسرائيلية يضعها في إطار «الصراع بين الاستخبارات التركية والموساد»، ملاحظا أن «بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية تعدت حدود المتعارف عليه إعلاميا، وهددت بتفجير سيارته».
تزامن بروز فيدان على الساحة التركية مع سياسة «العودة إلى الجذور» التي اتبعها رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان وعرابها وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، صاحب نظرية «العمق الاستراتيجي» وسياسة «صفر مشكلات» مع دول الجوار، التي تُرجمت بعودة تركيا إلى العالم العربي، بعد انقطاع طويل فرضته سياسة التتريك، التي أطلقها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال وسياسة الاتجاه غربا التي عمل عليها.
لم يكن فيدان بعيدا عن داود أوغلو؛ فهو من المقربين منه، وكذلك من أردوغان الذي احتضن «ضابط الصف» المتدين الذي لم يكن لأحد أن يتوقع له هذا البروز، باعتبار أن «الشاويش» لا مستقبل عسكريا له.
ولد هاكان فيدان في العاصمة أنقرة عام 1968. درس وتخرج في مدرسة قوات المشاة المحاربة عام 1986، ومن ثم درس في مدرسة اللغات التابعة للقوات المشاة. كذلك فإن لديه خبرة عملية في ميدان الاستخبارات، وعمل بين عامي 1986 و2001، في «وحدة التدخل السريع» التابعة للحلف الأطلسي، وعمل في صفوف فرع جمع المعلومات السريعة في ألمانيا. وفي تلك الفترة نال إجازة في العلوم السياسية من جامعة ميريلاند الأميركية، قبل أن ينجز الماجستير والدكتوراه في جامعة بيلكنت في أنقرة، مسقط رأسه. ويلقي أوصلوا بمجموعة من علامات الاستفهام حول دور فيدان، الذي كان «شاويشا»، وهو منصب لا مستقبل له في الجيش التركي، لأنه لن يترفع كثيرا من خلاله مهما طالت مدة خدمته، مشيرا في هذا الإطار أيضا إلى أن فيدان ذهب للخدمة في قواعد «الناتو» لمدة أربع سنوات، وكان يُعرف عن هاكان فيدان أنه متدين، ولكن في تلك الفترة كان المتدينين يطردون من الجيش التركي، فكيف يكافئ متدينا ويرسل للعمل في أهم مؤسسات «الناتو»؟ وهنا تكثر الشبهات حول فيدان، لأن الفترة التي أرسل بها هاكان إلى ألمانيا كانت تركيا تعيش فترة انقلاب 28 فبراير (شباط)، ولهذا بالنسبة لي يبقى إرساله على أساس أنه متدين إلى ألمانيا محلا للسؤال والشك!
ويضيف: «ولكن الذي يثير اهتمامي أن هاكان فيدان بعد الاستقالة مباشرة بدأ العمل في السفارة النمساوية في أنقرة كمستشار سياسي. واللافت للنظر هو أن هناك شخصين مهمين الآن في تركيا أيضا كانا قد عملا مستشارين للسفارة النمساوية في أنقرة، أحدهما وزير المالية محمد شمشيك، والآخر سعاد كينيكلي أوغلو، وهو عضو في اللجنة المركزية للعدالة والتنمية وعضو برلمان عن الحزب وأيضا من أصول عسكرية».
وتابع: «السؤال الذي يطرح نفسه هل الجهات التي فتحت لمحمد شمشيك وسعاد كينيكلي أبواب السفارة النمساوية هي التي فتحت أبواب السفارة لهكان فيدان؟».
وبعد أن أنهى فيدان فترة خدمة استمرت 15 عاما في صفوف القوات المسلحة استقال عام 2001 وهو برتبة ضابط صف، والتحق مباشرة بوزارة الخارجية مستشارا سياسيا واقتصاديا، ومن ثم عُيّن رئيسا لإدارة مؤسسة التعاون والتنمية التابعة لرئاسة الوزراء، وفي الوقت نفسه مساعدا لمستشار لرئاسة الوزراء، ومن ثم عين مستشارا للمسؤول عن السياسة الخارجية والأمن الدولي، ومن ثم عمل موفدا خاصا لرئاسة الوزراء.
وفي تلك الفترة، كان يرافق مستشار رئاسة الوزراء للسياسة الخارجية أحمد داود أوغلو في رحلاته الإقليمية، كما كان يعمل عن قرب ويرافق نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية آنذاك عبد الله غل في رحلاته الخارجية، كما كان يشارك في كثير من الوفود التي ترافق أردوغان في زياراته لخارج تركيا، أو عند استقباله للضيوف الأجانب من رؤساء ومسؤولين.
وبعد أن اعتلى غل منصب رئاسة الجمهورية، كان فيدان من بين المرشحين لرئاسة السكرتارية في القصر، لكنه عين في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2008 لعضوية وكالة الطاقة الدولية. كما كان عضوا في منتدى التعاون والتنمية بين الشعوب التابع للأمم المتحدة، وعضو في هيئة إدارة جامعة أحمد يوسفس التركية في كازاخستان، وعضو في هيئة إدارة جمعية يونس أمري. عمل كثيرا من الأبحاث والدراسات في الأمن الدولي وفي التنمية الدولية والسياسة الخارجية التركية، كما قام بتدريس مادة العلاقات الدولية في جامعة حجة تبا وبلكنت.
ولم تكن الاستخبارات بعيدة عن طموحات فيدان، الذي كانت أطروحته لنيل الدكتوراه تحمل عنوان: «دراسة مقارَنة بين أنماط عمل أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية والتركية»، ومن ثم عين مساعد لمستشار المخابرات التركية.
وقبل تعيينه في 27/ 5/ 2010 مستشارا للمخابرات التركية، حصلت حادثة أظهرت النفوذ الذي يتمتع به فيدان. فقد استدعى قاضي التحقيق في قضية التنظيم السري لحزب العمال الكردستاني المحظور (بي كي كي) فيدان للتحقيق معه كمشتبه به مع أربعة من قيادات جهاز المخابرات، بعد الاشتباه في تقديمه الدعم للحزب الكردستاني المحظور، أو غض بصره عن معلومات مسبقة عن عمليات مسلحة وهجمات نفذها الحزب ضد رجال الأمن في تركيا، لكن حكومة أردوغان عمدت فورا إلى إرسال قانون يعطي الحصانة لرجال المخابرات من الإدلاء بأقوالهم أمام المحاكم الجنائية. وواجه القانون، الذي جرى إقراره خلال 48 ساعة فقط، انتقادا شديدا من المعارضة.
وفيدان هو المستشار الثاني الذي يعتلي ذلك المنصب من خارج المؤسسة الاستخباراتية، حيث كان تبتان جوسال هو المستشار الأول الذي عُيّن من خارج المؤسسة عام 1992. المعترض الأول على تعيينه كان «الموساد» الإسرائيلي؛ فحينها نشرت صحيفة «هآرتس» تقريرها عنه، ونقلت فيه مخاوف «الموساد» إزاء تعيينه، وذلك بسبب دوره في تنظيم «أسطول الحرية»، وبسبب قربه اللصيق من رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم («العدالة والتنمية»)، ولدفاعه عن المصالح النووية الإيرانية.
لكن أردوغان كان يريد (وفق الصحف التركية) من تعيين الرجل المقرب منه المزيد من تحديث «وكالة الاستخبارات الوطنية» ومأسستها، وإبعادها عن سطوة العسكر، بما أنه لا يزال 50 في المائة من موظفيها من سلك الجيش. فعمل فيدان على تقسيم الاستخبارات إلى جهازين، أحدهما للداخل، والآخر للخارج، على غرار مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية، لتعزيز حضور الاستخبارات التركية في المناطق الساخنة، ولتلبية حاجات دور تركيا المتنامي، بدءا من الشرق الأوسط وجيرانها الروس والقوقاز وآسيا وأفريقيا وحتى الأميركيتين وأوروبا وإسرائيل.
بعد دوره البارز في كثير من الملفات، تصاعدت أصوات في تركيا توحي بوجود «دور مستقبلي» لفيدان في السياسة التركية الداخلية، لكن بيردال يستبعد أن يكون الأمر عبارة عن «تلميع» لصورة فيدان لإعداده لمنصب رئيس الوزراء أو وزير الخارجية في المستقبل، كما تردد في بعض الأروقة التركية. ويقول: «المتابع للسياسة التركية يرى أن الأمور لا تسير بهذا الشكل؛ فأردوغان يحكم قبضة على الحزب بكل قوة، وفيدان هو فقط رجل من رجال طيب أردوغان الذين يعتمد عليهم ويثق بهم، والدليل على هذا أن استخرج من أجله قوانين تحميه من ملاحقة القضاء له»، معتبرا أن «ما يجري الآن في كواليس السياسة هو مستقبل أردوغان، وليس مستقبل فيدان».
وإذ يدحض أوصلو «نظريات المؤامرة»، التي تتحدث عن تحضير فيدان لدور سياسي قد يكون رئاسة الوزراء، يشير إلى أن فيدان نفسه قد يعمل من أجل هذا من تلقاء نفسه. ويربط أوصلو مصير فيدان بمصير مرحلة الحل مع الأكراد، مشيرا إلى أنه إذا «نجحت الحكومة في إنجاح مرحلة الحل، فإن جميع الإيجابيات ستُسجل في خانة فيدان، وسيقوم الجميع بتقديره، وإذا عمّ السلام في الجنوب التركي فإن فيدان من الأوفر حظا للترشيح لرئاسة الوزراء لأن نجاحاته ستكون هي الدافع له، ولكن إذا عاد حزب العمال الكردستاني لحمل السلاح، وفشلت مرحلة الحل، إلى جانب الفشل الذريع الذي نالته الحكومة في سوريا وعلاقة الحكومة مع مصر التي لا تبشر بالتفاؤل، وبما أن فيدان لعب دورها في الثلاثة محاور، فإن الفاتورة سيدفعها فيدان، أي هو الآن على كف عفريت».



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT
20

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين