وهم الدولة اليهودية بشرق بلاد العرب

أماني ساقتها أحلام الطبيب الروسي اليهودي روثستين

نسخة الكترونية من الرسالة التي بعث بها م. ل. روثستين للسفير البريطاني في باريس اللورد فرانسس بيرتي سنة 1917
نسخة الكترونية من الرسالة التي بعث بها م. ل. روثستين للسفير البريطاني في باريس اللورد فرانسس بيرتي سنة 1917
TT

وهم الدولة اليهودية بشرق بلاد العرب

نسخة الكترونية من الرسالة التي بعث بها م. ل. روثستين للسفير البريطاني في باريس اللورد فرانسس بيرتي سنة 1917
نسخة الكترونية من الرسالة التي بعث بها م. ل. روثستين للسفير البريطاني في باريس اللورد فرانسس بيرتي سنة 1917

ربما تبادر لذهن راصدي الشبكة العنكبوتية ووسائط التواصل الاجتماعي، أن المكتبة البريطانية العريقة تخلت عن وقارها واحتشامها، فشاركت الجمهور احتفاء بحلول الربيع بنشر »كذبة أبريل» التقليدية وإشاعتها، عندما أطل من موقعها الإلكتروني في أوائل أبريل (نيسان) خبر مثير بعنوان: »الدولة اليهودية في شرق بلاد العرب». وبمجرد ظهوره، انتشر كما حريق الغابات في المواقع بكل أطيافها، عربية وإسرائيلية وما يقع بينهما، وشاركتها صحف ومنها جريدة «الشرق الأوسط»، حيث كتب الأستاذ عبد الرحمن الراشد في عموده اليومي بعنوان «بلفور وإسرائيل والنفط والأحساء 12 أبريل 2014».
ولم تستقر سفينة التقوال على شاطئ حتى الآن.
كان الأمر برمته يدور على محتوى رسالة يتيمة مغمورة، ظلت حبيسة في غياهب النسيان طيلة قرن مضى، وهي الفترة التي غبرت بين زمن كتابتها ولحين إثارتها من رقادها. ورغم طول السبات ومهما كانت الأسباب، فإنه لا توجد فترة في التاريخ تدعو إلى الملل.
وهنا، تكمن مفارقة على درجة فائقة من الأهمية، تثير التساؤل، مفادها: هل كانت للأمر علاقة باحتفالية مئوية الحرب الكونية الأولى التي تستعد لها أطراف بريطانية رسمية، ومنها المكتبة نفسها، أو منظمات شعبية تشارك في انطلاقها، مرفقة مع حملة إعلامية مدعومة بالخبر والصور، إضافة لبرامج تلفزيونية لعرض أفلام ومقابلات وثائقية؟ أم أنها رسائل دعائية تديرها المكتبة البريطانية، للإعلان عن مشاركتها في مشروع ثقافي لرقمنة مخزونها الوثائقي الهائل الخاص بإقليم الخليج العربي؟ ومهما يكن، فالأمران كلاهما حقيقة واقعة وليس «كذبة» وإن جاءت في «أبريل»، يقول البيت العربي القديم:
مفتاح علمك منذور لقائله
والحق يقبع بين القيل والقال
تذكرت هذا البيت وأنا أقرأ مقدمة ما عرضه موقع المدونة لباحثي وموظفي المكتبة البريطانية وليس موقعها الرسمي كما اعتقده البعض، وقد صرح لي بذلك شخصيا دانييل لو (DANIEL LOWE) الذي كتبه، إذ يقول:
«في 12 سبتمبر (أيلول) 1917، تسلم السفير البريطاني في باريس اللورد فرانسس بيرتي رسالة تحمل عرضا غير عادي، قدمه الدكتور م.ل. روثستين الطبيب الروسي اليهودي. وقد كشف بيرتي عن مضمون ذلك الاقتراح إلى وزير الخارجية آرثر جيمس بلفور بأن يحشد جيشا - بقيادته - تقوم القوى المتحالفة بتجهيزه وتنظيمه لاحتلال منطقة الحسا (الأحساء) التركية (السعودية حاليا) وهي واحات تقع على الساحل الشرقي لبلاد العرب، لغرض إقامة دولة يهودية».
وأوضح روثستين اقتراحه - كما جاء في رسالته - قائلا: «سأقوم خلال الربيع المقبل بجمع فرقة عسكرية مقاتلة يهودية قوامها مائة وعشرون ألف جندي من الرجال الأشداء الذين لم يجر تجنيدهم، وسيتضاعف عدد هذه الفرقة التي ستتعاون، وبسرعة، وفق بعض الشروط، مع القوات المتحالفة».
ويواصل دانيال لو عرضه: «مبدئيا، لا توجد هناك شواهد وثائقية أو معلومات شخصية تعود إلى روثستين، كما أننا نعتقد أن خطته لا تشكل جزءا من حركة معلنة تتمتع بتأثير أو قوة، كما أننا لا نعرف عن الأسباب التي قادته إلى ترتيب اقتراح غريب لا يتلاءم مع الاستراتيجية البريطانية الإمبريالية المعلنة والمسيطرة على الإقليم أصلا».
كذلك يذكر توماس ويليام هولدرنس، من موظفي «مكتب الهند» البريطاني، أن «الأحساء لم تعد تابعة لولاية تركية (عثمانية)، إذ إنها منذ عام 1913، قد احتلت من قبل ابن سعود (الملك عبد العزيز) وهو حليف لبريطانيا. أما حكام البحرين من آل خليفة، فإن لهم ارتباطا بمعاهدة حماية مع بريطانيا منذ عام 1820، وإن حكومة صاحب الجلالة لن تؤيد أو تشجع أي اقتراح يؤثر على الحقوق الإقليمية أو يؤدي إلى تغيير الأمر الواقع Status Quo. يعترف روثستين في رسالته الممتدة على أربع صفحات والمكتوبة بالفرنسية، بقوله: «قد لا تكون الخطة واقعية، ولكن هذه النظرة ستتلاشى حينما يصل الألف الأول من الرجال لأخذ مواقعهم، فالجنود سيتوافدون على البحرين، وحين يصل عددهم إلى ثلاثين ألفا سيشنون هجوما يحقق احتلالهم للمنطقة التركية من الأحساء (قرب الخليج) التي ستصبح دولة يهودية»، كما كان روثستين يتوقع أن تعلن تركيا الحرب نتيجة هذا الاحتلال، فيقول: «وهنا، فإن القوات اليهودية ستشتبك حتى يجري النصر أو التحالف أو الانكسار».
كان الرفض البريطاني قاطعا لخطة روثستين التي وصفت بأنها «غير مستساغة مطلقا»، وقد كتب سكرتير بلفور الخاص إلى السفير بيرتي في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 1917م طالبا منه الرد على رسالة روثستين، ويعلمه أن الحكومة البريطانية لن تمنح مشروعه أي جدوى، وعلى العموم، فإن مقترح روثستين كان مغمورا وشبه منسي تاريخيا، ولكن إثارته تعكس التوجه التاريخي الداعي لتأسيس وطن قومي يهودي مرتبط آيديولوجيا بالحركة الوطنية الأوروبية التي يرتجى من قوتها الإمبريالية تأييده.
وعلاوة على ترديد اقتراحات لتحقيق المشروع في كل من أوغندا والأرجنتين وروسيا وقبرص، فإنه بعد رفض مشروع روثستين بشهر واحد تبين أن هناك اتفاقا كان يطبخ على نار هادئة، منذ مارس (آذار) 1915، وعند نضوجه كتب بلفور بنفسه «الوعد» المعروف حاليا، معلنا رغبة بريطانيا وتفضيلها الهدف الصهيوني «بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين».
إن ما تقدم هو استعراض لما ظهر على مدوّنة موقع المكتبة البريطانية في 3 أبريل 2014، لكنني أريد أن أوضح وأضيف في هذا المجال بالقول إن ما قام بإظهاره الباحث لو في المكتبة البريطانية، وإن كان باللغة الإنجليزية، من إثارة الموضوع، فإنه لم يكن الحجر الأول الذي ألقي في بركة راكدة. بل إن فضل السبق يرجع إلى أربعة عقود ونيف مضت، وكان ظهوره باللغة العربية فقط، وعلى نطاق أكاديمي محدود، يعود للباحثة الفلسطينية الدكتورة خيرية قاسمية أستاذة التاريخ في جامعة دمشق، وحاملة إجازة الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1972، وكان ما سبق جزءا من أطروحتها، حينما نشرته في مجلة «شؤون فلسطينية» الصادرة عن مركز البحوث الفلسطينية في بيروت يناير (كانون الثاني) 1972 بعنوان «وثائق بريطانية حول اقتراح بإقامة دولة يهودية في منطقة الخليج العربي»، ومن بعدها كتب د. أحمد سوسة مخطوطة لكتابه «الصهيونية: مديات الافتراءات» وكان ذلك قبل وفاته عام 1982 بفترة وجيزة، ولكن نشره جاء متأخرا حتى عام 2003، وذكر المصدر السابق وأضاف عليه صفحة كاملة.
جاءت المعارضة الشديدة من الوزير اليهودي البريطاني إدوين صموئيل مونتيغيو الذي كان يشغل منصب سكرتير حكومة الهند في وزارة ديفيد لويد جورج يوليو (تموز) 1917، تجاه اقتراح روثستين عن «فكرة وطن قومي لليهود»، إذ قال في رسالة مؤرخة بـ15 أكتوبر 1917، «إنه بصرف النظر عن المشكلة التي هي مثار للجدل حول الرغبة في إقامة دولة يهودية في أي مكان، فهناك أسباب خاصة لاعتبار المواقع المختارة لكل تمركز للفرق اليهودية وللإقامة النهائية للدولة اليهودية المقترحة، غير ملائمة تماما. وإن وصف الأحساء كولاية تركية يمكن أن يكون صحيحا من الناحية الفنية، ولكن المنطقة بحوزة ابن سعود أمير نجد منذ عام 1913، وقد عقد معاهدة صداقة وتحالف مع حكومة جلالته في ديسمبر 1915، المعاهدة التي تعترف صراحة بحقوق ابن سعود بالأحساء، وتضمن له المساعدة من حكومة جلالته في حالة هجوم أي دولة أجنبية على بلاده. وفي ما يتعلق بالبحرين، فإن شيوخها لهم علاقات معاهدة مع بريطانيا منذ عام 1820، وإن حكومة جلالته لا يمكنها أن تقر - من دون موافقة صريحة من هؤلاء الحكام - أي مقترحات تتعلق بحقوقهم الإقليمية»، وكان لمونتيغيو موقف لا يقل حزما وصلابة تجاه وعد بلفور أيضا.
ثم جاء بعدهما ما كتبه د. جمال زكريا قاسم، ونشره مرتين من دون أن يذكر المصدر (خيرية قاسمية)؛ وظهر في المرة الأولى في مجلة «الخليج العربي» العدد الثاني منشورات جامعة البصرة 1975م، وفي الثانية في كتاب «تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر» إصدار دار الفكر العربي - القاهرة 1997، في ملحق برقم (أ) بعنوان «اقتراح بإنشاء دولة يهودية في البحرين والأحساء»، ولم يعلق على قاسم الموضوع، بل اكتفى فقط بنشر نسخة مصورة مكتوبة على آلة طابعة لرسالة روثستين باللغة الفرنسية، ولكن لا أحد – في ما أعلم - تعمق في تقصي التفاصيل، أو بادر إلى تقديم مادة ذات أهمية توثيقية ومرجعية تغني البحث، وانتهى الأمر عند ذلك. من هو روثستين؟
كاتب الرسالة، كما سبق، طبيب روسي المولد يهودي الديانة، فالاسم روثستين من الأسماء اليهودية السلافية الدارجة في روسيا وألمانيا وبولندا، فالمقطع روث يعني أحمر، أما ستين فهو الشخص المقيم، وهو من يهود مدينة سامارا الروسية الواقعة على ضفاف نهر الفولغا - القريبة من فولغا غراد (ستالين غراد لاحقـا إبان الحقبة الشيوعية).
ويهود روسيا عموما كانوا محل شك وريبة لدى العامة التي تدين بالمسيحية الأرثوذكسية المتزمتة عبر تاريخ البلاد. وقد زاد التأزم خاصة في فترة ما بعد منتصف القرن التاسع عشر وتلازم مع الحركات الثورية الفلاحية التي تأثرت بقسوة حكم الإقطاع وسيطرة النبلاء المطلقة، فتفاقمت الأمور وكثرت المحاولات الفاشلة لاغتيال ألكسندر الثاني قيصر روسيا إلى أن قضى نحبه بقنبلة في 1 مارس (آذار) 1881.
واتهم فيها اليهود بالضلوع في تدبير مقتل القيصر، فشنت حملات قتل جماعي منظم لهم، أطلق على الحملة بلغتهم «اليديش» مسمى الـ«بوغروم» POGROM، ما أدى إلى هجرة أعداد كبيرة من اليهود الروس إلى فلسطين ما بين عامي 1882 - 1903 ، وتعد الهجرة الكبرى الأولى وسميت «بيليويم»، ولقد تزامن ذلك وهجرة روثستين إلى فلسطين ولم يقم فيها طويلا، إذ هاجر منها إلى مصر واستقر في القاهرة وعمل فيها بمهنة التطبيب ووُلِد ابنه أميدييه فيها يوم 20 يونيو (حزيران) 1891، ومنها انتقل إلى فرنسا في بداية القرن العشرين وحجته في ذلك طلب التعليم العالي لابنه، واستقر في جنوب فرنسا بمدينة إكس - إن – بروفانس.
لم تكن الأمور سهلة في فرنسا بالنسبة إلى المهاجرين، وخصوصا اليهود منهم، لانتشار موجة الكراهية بعد محاكمة الضابط اليهودي الفريد دريغوس الذي اتهم عام 1894 بالتعامل مع الألمان وتزويدهم بأسرار عسكرية، وكانت العلاقة بين البلدين يشوبها كره وتوتر وعداء، وصدر الحكم على دريغوس بالسجن المؤبد مدى الحياة يقضيه في «جزيرة الشيطان» DEVIL’S ISLAND من مستعمرات فرنسا قبالة سواحل أميركا الجنوبية.
وحينما صدر الحكم، نقل إلى ساحة المحكمة العسكرية، حيث جرد من رتبته وكسر سيفه إهانة له، أمام حشد من الألوف المحتشدة التي كانت تهتف «الموت لليهود».
صاحبت تلك الفترة حوادث دامية وانتشرت موجة «عداء السامية» التي على أثرها بدأت نواة الحركة الصهيونية الحديثة التي أسسها تيودور هيرتزل وكان مندوبا لجريدة «نوي فراي برس» الصادرة في فيينا عاصمة النمسا، وكان يغطي حينها تفاصيل وقائع المحاكمة.
كان استمرار حالة العداء لليهود أمرا طبيعيا، حجبته الكتابات الصحافية اليومية ومظاهرات الأحزاب اليمينية المتطرفة حتى نشوب الحرب العالمية الأولى 2 أغسطس (آب) 1914، فوجدت المنظمات اليهودية في عموم فرنسا فرصة سانحة لتعديل أوضاعها وتحسين صورتها أمام الرأي العام والشارع الفرنسي خاصة، بإعلان النداءات للجالية اليهودية بلغة «اليديش»، إضافة إلى الفرنسية، بواسطة الجرائد اليهودية، وأهمها جريدة «الشعب اليهودي»، بالتطوع للخدمة العسكرية للقتال في الجبهات المشتعلة على طول شمال البلاد التي تشكل معظم الحدود مع ألمانيا.
وكانت أهم مراكز التطوّع الجامعة اليهودية بشارع دي جارينت في باريس الذي كان يشهد يوميا طوابير المتطوعين، ومن جملتهم آميدييه روثستين «ذلك الشاب الضئيل الجسم (عمره 22 سنة) ذو عينين ملتهبتين كمن كان مصابا بالحمى، وروح متوثبة للقتال»، كما وصفه الصحافي الفرنسي الشهير موريس بارس في جريدة «صدى باريس» التي كان يكتب فيها يوميات الحرب على جبهات ميادين القتال، فكانت مقالاته مؤثرة سلبت عقول القراء في فرنسا قاطبة، بدرجة لم يتمكن فيها السياسيون والمثقفون من بلوغها، وهذا ما اتفق عليه كل من وثق ظروف تلك الحقبة.
سيقت «الفرقة اليهودية» التي تطوع آميدييه للخدمة فيها إلى الجبهة الشمالية الملتهبة، واشترك في معاركها منذ اندلاع الحرب جنديا في قوات المشاة فأبلى بلاء حسنا وأبدى شجاعة نادرة، مما حدا برؤسائه إلى ترقيته لرتبة نائب ضابط ومنحه وسام الشجاعة لجوقة الشرف بدرجة فارس، لصموده في معارك الخنادق يوم 25 سبتمبر 1915، خلال ما أطلق عليها «أودية الموت في فردان»، ولقد أضافت تلك المعركة خلال شدتها أبعادا جديدة من الشراسة وطول الوقت، حيث تواصل القتال ما يقارب سنة، فامتدت طوال عام 1916، وقتل فيها نحو ثلاثة أرباع مليون جندي، ورفع فيها شعارها المشهور «لن يمروا».
ولكن في 18 أغسطس (آب) 1916، قتل آميدييه روثستين دفاعا عن قلعة فو (VAUX)، ومما يذكر عن تلك الموقعة في إبادةٍ للأغلبية الساحقة من المدافعين، حيث استعملت فيها الغازات السامة وراجمات اللهب، ولم يقتصر ذلك على البشر، بل تعداه إلى حمام الزاجل الذي كان وسيلة الاتصال الوحيدة بالقيادة العامة، بعد أن انقطعت كل الطرق، وبقيت حمامة وحيدة أرسلها قائد الموقع الميجور رينال قبل منتصف النهار، تحمل الرسالة الأخيرة التالية:
«ما زلنا نقاوم، ولكن... النجدة ملحة. خابرونا بالإشارة الضوئية من سوفيل، لأن إشارتنا لا يرد عليها، هذه حمامتي الأخيرة».
وأطلقت الحمامة، ولكن تأثير الغاز السام الذي انتشر على الموقع جعل حركتها بطيئة، فرجعت مرة أخرى لتستقر على كوة الخندق، وبعد عدة محاولات استطاعت الانطلاق فأوصلت الرسالة إلى القيادة في فردان، فكانت نهايتها مثل الجندي الإغريقي فيديبيديس الذي سقط ميتـا بعد أن أوصل رسالة النصر بمعركة مارثون الشهيرة. تلك الحمامة هي الوحيدة التي كرمت حينما أنعم عليها بوسام الشجاعة، وقد حنطت ووضعت في المتحف الحربي بباريس.
ما سلف وإن كان فيه شيء من الاستطراد، لكني وجدت أن لا مندوحة من التعرض للتفاصيل، بقدر ما تفرضه الضرورة، لإبراز تداخلات المشهد العام التي رافقت سنوات أفول القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وما تخللهما من أحداث دامية، أثرت في نفسية متعبة مجموعة أعراض يطلق علم النفس عليها اسم «تزامن الفجيعة» (BEREAVEMENT) SYNDROM
فجاءت الرسالة تحمل مكنونا تلفه أضغاث أحلام تكالبت على صاحبها مخلفة رؤية لا يمكن الاتكاء عليها، وأظهرت نصا فقيرا بالمعلومات مفعما بالمتناقضات التي كتبها أب مكلوم دفعه قهر الحزن وألم الحسرة إلى فضاءات سحيقة خلفت تصورا بعيدا عن المنطق، أبلى تفكيره فيه، وحاد به عن جادة الصواب. ثم إن الرسالة في تواقيعها الحسية صرخة استنجاد واستجداء وشكوى صادرة من غريب لا معين له. ولم يكن بحوزته ما يستعين به إلا شهادة يتيمة هي قصاصة من جريدة أرفقها، كان قد كتبها الصحافي موريس بارس (السابق الذكر)، فوجدها طوق نجاة استغاث به رغم أن كاتبها كان من غلاة المعادين لليهود في فرنسا وتشهد له في ذلك كتاباته. ولكن روثستين كان يرجو منها الشفاعة لمحنته أن يبرز وصف بارس المتألق للسجل العسكري لابنه القتيل خلال الحرب، ليقدم وبصورة لا شعورية مدى عمق الجرح الغائر المؤلم والعصي على الاندمال الذي بدا واضحا في مقطع يقول فيه: «هل بمقدور دم ابني الذي أهرق وتدفق بكرم، وعن طواعية، أن يشفع لدى سيادتكم لمنح ثقتكم للاقتراح الذي أضعه بين أيديكم؟»، وهو في ذلك أيضا يشير بطرف خفي إلى الأعداد الرهيبة من ضحايا الجيوش البريطانية، وفي الآونة نفسها، التي سقطت في معارك أشهرها «السوم» و«إيبر».
كما أن ثمة بعدا دينيا يتّسق مع تاريخ تقديم الرسالة وهو 12 سبتمبر 1917، الذي يصادف تقريبا مناسبة الذكرى الأولى لمقتل ابنه في 18 أغسطس 1916،، ولليهود طقوس تأبين وحداد ملزمة، تبدأ من اليوم الأول بالقراءات الدينية وتستمر طوال السنة، يتخللها تأبين «اليوم السابع» أو «شيفعه» (SHIVA) ثم «الثلاثينية» (شيلوشيم)، وتستمر كل شهر لسنة كاملة، ثم ذكرى السنة الأولى «ياهرزيت» التي يجري فيها بناء القبر بالحجر، ويوضع شاهد له إما بصورة عمودية أو أفقية.
وبالرجوع إلى الرسالة، فإنها، وإن أصبحت وثيقة تاريخية، لا يمكن اعتبارها - على ما لامسته من حدث - أن تمنح استحقاقا تستند إليه وقائع الماضي وترتهن بموجبها الحقيقة لتؤهل إدراجها كجزء من مشروع دراسة توثيقية. فكاتبها كان مشحونا بالعاطفة، ما أدى إلى ارتباك مفهومه لحركة التاريخ. إذ فاته أو سقط من ذاكرته المتعبة التي خانته نتيجة الرزء الذي أصابه، أو أنه غير مهتم أصلا بمتابعة أحداث التاريخ في مكان قصي عن عالمه واهتماماته، فهو لم يعرف أن الأحساء لم تعد «تركية» على حد قوله وأنها تحرّرت وتخلصت من ربقة احتلال امتد أربعة عقود عام 1913، وأن تركيا العثمانية قد دخلت الحرب منذ 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 1914 وأصبحت طرفا محاربا فيها منذ بدايتها وتدور معارك في جبهات تحتلها في العراق عام 1914، وفلسطين 1917، وسوريا وشمال الجزيرة، والأهم من ذلك المعركة الشهيرة غليبولي، التي دارت بعقر دارها وقرب عاصمتها ـ يومذاك ـ إسطنبول عام 1915م.
ولنأخذ فسحة لتحليل واستجلاب الأفكار ونتريث قبل الولوج في متاهات التعليق على اقتراح: «إرسال مائة وعشرين ألف مقاتل يهودي من روسيا. فهو كلام مرسل، وأمر عصي على العقل قبوله، ولا يستحق عناء الرد والتفكير فيه لسذاجته. لكنني أعرض، وبصورة مقتضبة، لمن لا يعرف، صعوبة الطبيعة والطبوغرافيا حتى في أيامنا هذه. فعلى الرغم من التطور الهائل الذي نعيشه الآن، فإن الأمر ليس بالسهولة كما صورته مخيلة روثستين، فما بالك عنه قبل قرن من الزمن حينما كانت الظروف اللوجيستية والجيوسياسية والإثنية، إضافة إلى الطبيعة القاسية الطاردة، تجعله شبه مستحيل. ومن يريد المزيد فليقرأ عن الحملات العسكرية التي انقرضت عن بكرة أبيها، وفي العصور المتدنية أمثلة منها: الحملة المصرية - التركية (حملة محمد علي باشا) 1818 - 1822 م وحملة مدحت باشا 1871،، فهذه على الرغم من تقارب مصادر تموينها والمشاركة بالانتماء الديني الواحد واللغوي إلى حد ما، وتعاون بعض القبائل المحلية، فإنها لم تبلغ أهدافها وإن بلغتها فلفترات محدودة، ولكنها فشلت في النهاية، فما بالك بأقوام ذوي ديانة مختلفة ولغة غريبة وعادات غير مألوفة، إضافة إلى ما يتبعها من بون شاسع في الطقس من قارس القر إلى لهيب الحر، والصحراء العربية كما يقول المثل «من دخلها ضاع، ومن تاه فيها جاع».
أمام كل هذا، يدفعني الفضول إلى تصور حالة ردود فعل اللورد بيرتي الدبلوماسي المخضرم وهو يقرأ هذه الرسالة الغريبة. فربما غص من جراء ذلك في كوب الشاي الذي كان يتناوله. ولكن الأمر الذي يبدو أكثر غرابة في ذلك هو إرسالها على تفاهتها لعناية وزير خارجية الدولة الأعظم آنذاك والحرب في اشتدادها، وهو السياسي البارع الملم بكل الظروف، الذي أمضى في باريس وحدها ثلاث عشرة سنة، وكان يريد التقاعد من منصبه لكبر سنه، ولكن ظروف الحرب أجبرته على تمديد مدة خدمته.
ومثلما ذبلت ذاكرة روثستين إزاء أحداث التاريخ، فإنها قد عادت كذلك لتشمل أمور دينه وعقيدته التي كانت تلازمه - وهو اليهودي المتزمت - في كل مناحي حياته ولم يتخل عنها حتى في اقتراحه الداعي إلى «إنشاء قيادة ومجلس شرعي يتوافق مع الديانة اليهودية الأرثوذكسية»، إذ يذكر يهودا شيرنوف في كتابه «في بوتقة الحضارة» (1938) إذ يقول فيه: «لقد دهشت حينما رأيت وأنا أزور بيت روثستين المتواضع في أكس - إن - بروفانس بجنوب فرنسا، لوحة معلقة على باب يفصل غرفة الجلوس عن صالة الطعام منقوشا عليها بالعبرية: «إذا نسيتك يا أورشليم عسى يدي اليمنى أن تذبل». وها هو ينسى أورشليم - في اقتراحه - ويريد أن يعوضها بوطن في الأحساء. فهل يقصد في ذلك وعند تحقيق أحلامه عزوفه عن تذكّر أورشليم، لأنها لم تعد مهمة بعد ذلك في ذاكرة اليهود التي تعد دوما كتبهم وصلواتهم بالعودة إليها، أم أنها تأثير أعراض حالة انفصامية؟ فإلى من أثار هذا الغبار نطالب بجواب شاف، وإلا فإنها زوبعة في فنجان.
* باحث كويتي مهتم بالتاريخ



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.