وهم الدولة اليهودية بشرق بلاد العرب

أماني ساقتها أحلام الطبيب الروسي اليهودي روثستين

نسخة الكترونية من الرسالة التي بعث بها م. ل. روثستين للسفير البريطاني في باريس اللورد فرانسس بيرتي سنة 1917
نسخة الكترونية من الرسالة التي بعث بها م. ل. روثستين للسفير البريطاني في باريس اللورد فرانسس بيرتي سنة 1917
TT

وهم الدولة اليهودية بشرق بلاد العرب

نسخة الكترونية من الرسالة التي بعث بها م. ل. روثستين للسفير البريطاني في باريس اللورد فرانسس بيرتي سنة 1917
نسخة الكترونية من الرسالة التي بعث بها م. ل. روثستين للسفير البريطاني في باريس اللورد فرانسس بيرتي سنة 1917

ربما تبادر لذهن راصدي الشبكة العنكبوتية ووسائط التواصل الاجتماعي، أن المكتبة البريطانية العريقة تخلت عن وقارها واحتشامها، فشاركت الجمهور احتفاء بحلول الربيع بنشر »كذبة أبريل» التقليدية وإشاعتها، عندما أطل من موقعها الإلكتروني في أوائل أبريل (نيسان) خبر مثير بعنوان: »الدولة اليهودية في شرق بلاد العرب». وبمجرد ظهوره، انتشر كما حريق الغابات في المواقع بكل أطيافها، عربية وإسرائيلية وما يقع بينهما، وشاركتها صحف ومنها جريدة «الشرق الأوسط»، حيث كتب الأستاذ عبد الرحمن الراشد في عموده اليومي بعنوان «بلفور وإسرائيل والنفط والأحساء 12 أبريل 2014».
ولم تستقر سفينة التقوال على شاطئ حتى الآن.
كان الأمر برمته يدور على محتوى رسالة يتيمة مغمورة، ظلت حبيسة في غياهب النسيان طيلة قرن مضى، وهي الفترة التي غبرت بين زمن كتابتها ولحين إثارتها من رقادها. ورغم طول السبات ومهما كانت الأسباب، فإنه لا توجد فترة في التاريخ تدعو إلى الملل.
وهنا، تكمن مفارقة على درجة فائقة من الأهمية، تثير التساؤل، مفادها: هل كانت للأمر علاقة باحتفالية مئوية الحرب الكونية الأولى التي تستعد لها أطراف بريطانية رسمية، ومنها المكتبة نفسها، أو منظمات شعبية تشارك في انطلاقها، مرفقة مع حملة إعلامية مدعومة بالخبر والصور، إضافة لبرامج تلفزيونية لعرض أفلام ومقابلات وثائقية؟ أم أنها رسائل دعائية تديرها المكتبة البريطانية، للإعلان عن مشاركتها في مشروع ثقافي لرقمنة مخزونها الوثائقي الهائل الخاص بإقليم الخليج العربي؟ ومهما يكن، فالأمران كلاهما حقيقة واقعة وليس «كذبة» وإن جاءت في «أبريل»، يقول البيت العربي القديم:
مفتاح علمك منذور لقائله
والحق يقبع بين القيل والقال
تذكرت هذا البيت وأنا أقرأ مقدمة ما عرضه موقع المدونة لباحثي وموظفي المكتبة البريطانية وليس موقعها الرسمي كما اعتقده البعض، وقد صرح لي بذلك شخصيا دانييل لو (DANIEL LOWE) الذي كتبه، إذ يقول:
«في 12 سبتمبر (أيلول) 1917، تسلم السفير البريطاني في باريس اللورد فرانسس بيرتي رسالة تحمل عرضا غير عادي، قدمه الدكتور م.ل. روثستين الطبيب الروسي اليهودي. وقد كشف بيرتي عن مضمون ذلك الاقتراح إلى وزير الخارجية آرثر جيمس بلفور بأن يحشد جيشا - بقيادته - تقوم القوى المتحالفة بتجهيزه وتنظيمه لاحتلال منطقة الحسا (الأحساء) التركية (السعودية حاليا) وهي واحات تقع على الساحل الشرقي لبلاد العرب، لغرض إقامة دولة يهودية».
وأوضح روثستين اقتراحه - كما جاء في رسالته - قائلا: «سأقوم خلال الربيع المقبل بجمع فرقة عسكرية مقاتلة يهودية قوامها مائة وعشرون ألف جندي من الرجال الأشداء الذين لم يجر تجنيدهم، وسيتضاعف عدد هذه الفرقة التي ستتعاون، وبسرعة، وفق بعض الشروط، مع القوات المتحالفة».
ويواصل دانيال لو عرضه: «مبدئيا، لا توجد هناك شواهد وثائقية أو معلومات شخصية تعود إلى روثستين، كما أننا نعتقد أن خطته لا تشكل جزءا من حركة معلنة تتمتع بتأثير أو قوة، كما أننا لا نعرف عن الأسباب التي قادته إلى ترتيب اقتراح غريب لا يتلاءم مع الاستراتيجية البريطانية الإمبريالية المعلنة والمسيطرة على الإقليم أصلا».
كذلك يذكر توماس ويليام هولدرنس، من موظفي «مكتب الهند» البريطاني، أن «الأحساء لم تعد تابعة لولاية تركية (عثمانية)، إذ إنها منذ عام 1913، قد احتلت من قبل ابن سعود (الملك عبد العزيز) وهو حليف لبريطانيا. أما حكام البحرين من آل خليفة، فإن لهم ارتباطا بمعاهدة حماية مع بريطانيا منذ عام 1820، وإن حكومة صاحب الجلالة لن تؤيد أو تشجع أي اقتراح يؤثر على الحقوق الإقليمية أو يؤدي إلى تغيير الأمر الواقع Status Quo. يعترف روثستين في رسالته الممتدة على أربع صفحات والمكتوبة بالفرنسية، بقوله: «قد لا تكون الخطة واقعية، ولكن هذه النظرة ستتلاشى حينما يصل الألف الأول من الرجال لأخذ مواقعهم، فالجنود سيتوافدون على البحرين، وحين يصل عددهم إلى ثلاثين ألفا سيشنون هجوما يحقق احتلالهم للمنطقة التركية من الأحساء (قرب الخليج) التي ستصبح دولة يهودية»، كما كان روثستين يتوقع أن تعلن تركيا الحرب نتيجة هذا الاحتلال، فيقول: «وهنا، فإن القوات اليهودية ستشتبك حتى يجري النصر أو التحالف أو الانكسار».
كان الرفض البريطاني قاطعا لخطة روثستين التي وصفت بأنها «غير مستساغة مطلقا»، وقد كتب سكرتير بلفور الخاص إلى السفير بيرتي في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 1917م طالبا منه الرد على رسالة روثستين، ويعلمه أن الحكومة البريطانية لن تمنح مشروعه أي جدوى، وعلى العموم، فإن مقترح روثستين كان مغمورا وشبه منسي تاريخيا، ولكن إثارته تعكس التوجه التاريخي الداعي لتأسيس وطن قومي يهودي مرتبط آيديولوجيا بالحركة الوطنية الأوروبية التي يرتجى من قوتها الإمبريالية تأييده.
وعلاوة على ترديد اقتراحات لتحقيق المشروع في كل من أوغندا والأرجنتين وروسيا وقبرص، فإنه بعد رفض مشروع روثستين بشهر واحد تبين أن هناك اتفاقا كان يطبخ على نار هادئة، منذ مارس (آذار) 1915، وعند نضوجه كتب بلفور بنفسه «الوعد» المعروف حاليا، معلنا رغبة بريطانيا وتفضيلها الهدف الصهيوني «بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين».
إن ما تقدم هو استعراض لما ظهر على مدوّنة موقع المكتبة البريطانية في 3 أبريل 2014، لكنني أريد أن أوضح وأضيف في هذا المجال بالقول إن ما قام بإظهاره الباحث لو في المكتبة البريطانية، وإن كان باللغة الإنجليزية، من إثارة الموضوع، فإنه لم يكن الحجر الأول الذي ألقي في بركة راكدة. بل إن فضل السبق يرجع إلى أربعة عقود ونيف مضت، وكان ظهوره باللغة العربية فقط، وعلى نطاق أكاديمي محدود، يعود للباحثة الفلسطينية الدكتورة خيرية قاسمية أستاذة التاريخ في جامعة دمشق، وحاملة إجازة الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1972، وكان ما سبق جزءا من أطروحتها، حينما نشرته في مجلة «شؤون فلسطينية» الصادرة عن مركز البحوث الفلسطينية في بيروت يناير (كانون الثاني) 1972 بعنوان «وثائق بريطانية حول اقتراح بإقامة دولة يهودية في منطقة الخليج العربي»، ومن بعدها كتب د. أحمد سوسة مخطوطة لكتابه «الصهيونية: مديات الافتراءات» وكان ذلك قبل وفاته عام 1982 بفترة وجيزة، ولكن نشره جاء متأخرا حتى عام 2003، وذكر المصدر السابق وأضاف عليه صفحة كاملة.
جاءت المعارضة الشديدة من الوزير اليهودي البريطاني إدوين صموئيل مونتيغيو الذي كان يشغل منصب سكرتير حكومة الهند في وزارة ديفيد لويد جورج يوليو (تموز) 1917، تجاه اقتراح روثستين عن «فكرة وطن قومي لليهود»، إذ قال في رسالة مؤرخة بـ15 أكتوبر 1917، «إنه بصرف النظر عن المشكلة التي هي مثار للجدل حول الرغبة في إقامة دولة يهودية في أي مكان، فهناك أسباب خاصة لاعتبار المواقع المختارة لكل تمركز للفرق اليهودية وللإقامة النهائية للدولة اليهودية المقترحة، غير ملائمة تماما. وإن وصف الأحساء كولاية تركية يمكن أن يكون صحيحا من الناحية الفنية، ولكن المنطقة بحوزة ابن سعود أمير نجد منذ عام 1913، وقد عقد معاهدة صداقة وتحالف مع حكومة جلالته في ديسمبر 1915، المعاهدة التي تعترف صراحة بحقوق ابن سعود بالأحساء، وتضمن له المساعدة من حكومة جلالته في حالة هجوم أي دولة أجنبية على بلاده. وفي ما يتعلق بالبحرين، فإن شيوخها لهم علاقات معاهدة مع بريطانيا منذ عام 1820، وإن حكومة جلالته لا يمكنها أن تقر - من دون موافقة صريحة من هؤلاء الحكام - أي مقترحات تتعلق بحقوقهم الإقليمية»، وكان لمونتيغيو موقف لا يقل حزما وصلابة تجاه وعد بلفور أيضا.
ثم جاء بعدهما ما كتبه د. جمال زكريا قاسم، ونشره مرتين من دون أن يذكر المصدر (خيرية قاسمية)؛ وظهر في المرة الأولى في مجلة «الخليج العربي» العدد الثاني منشورات جامعة البصرة 1975م، وفي الثانية في كتاب «تاريخ الخليج العربي الحديث والمعاصر» إصدار دار الفكر العربي - القاهرة 1997، في ملحق برقم (أ) بعنوان «اقتراح بإنشاء دولة يهودية في البحرين والأحساء»، ولم يعلق على قاسم الموضوع، بل اكتفى فقط بنشر نسخة مصورة مكتوبة على آلة طابعة لرسالة روثستين باللغة الفرنسية، ولكن لا أحد – في ما أعلم - تعمق في تقصي التفاصيل، أو بادر إلى تقديم مادة ذات أهمية توثيقية ومرجعية تغني البحث، وانتهى الأمر عند ذلك. من هو روثستين؟
كاتب الرسالة، كما سبق، طبيب روسي المولد يهودي الديانة، فالاسم روثستين من الأسماء اليهودية السلافية الدارجة في روسيا وألمانيا وبولندا، فالمقطع روث يعني أحمر، أما ستين فهو الشخص المقيم، وهو من يهود مدينة سامارا الروسية الواقعة على ضفاف نهر الفولغا - القريبة من فولغا غراد (ستالين غراد لاحقـا إبان الحقبة الشيوعية).
ويهود روسيا عموما كانوا محل شك وريبة لدى العامة التي تدين بالمسيحية الأرثوذكسية المتزمتة عبر تاريخ البلاد. وقد زاد التأزم خاصة في فترة ما بعد منتصف القرن التاسع عشر وتلازم مع الحركات الثورية الفلاحية التي تأثرت بقسوة حكم الإقطاع وسيطرة النبلاء المطلقة، فتفاقمت الأمور وكثرت المحاولات الفاشلة لاغتيال ألكسندر الثاني قيصر روسيا إلى أن قضى نحبه بقنبلة في 1 مارس (آذار) 1881.
واتهم فيها اليهود بالضلوع في تدبير مقتل القيصر، فشنت حملات قتل جماعي منظم لهم، أطلق على الحملة بلغتهم «اليديش» مسمى الـ«بوغروم» POGROM، ما أدى إلى هجرة أعداد كبيرة من اليهود الروس إلى فلسطين ما بين عامي 1882 - 1903 ، وتعد الهجرة الكبرى الأولى وسميت «بيليويم»، ولقد تزامن ذلك وهجرة روثستين إلى فلسطين ولم يقم فيها طويلا، إذ هاجر منها إلى مصر واستقر في القاهرة وعمل فيها بمهنة التطبيب ووُلِد ابنه أميدييه فيها يوم 20 يونيو (حزيران) 1891، ومنها انتقل إلى فرنسا في بداية القرن العشرين وحجته في ذلك طلب التعليم العالي لابنه، واستقر في جنوب فرنسا بمدينة إكس - إن – بروفانس.
لم تكن الأمور سهلة في فرنسا بالنسبة إلى المهاجرين، وخصوصا اليهود منهم، لانتشار موجة الكراهية بعد محاكمة الضابط اليهودي الفريد دريغوس الذي اتهم عام 1894 بالتعامل مع الألمان وتزويدهم بأسرار عسكرية، وكانت العلاقة بين البلدين يشوبها كره وتوتر وعداء، وصدر الحكم على دريغوس بالسجن المؤبد مدى الحياة يقضيه في «جزيرة الشيطان» DEVIL’S ISLAND من مستعمرات فرنسا قبالة سواحل أميركا الجنوبية.
وحينما صدر الحكم، نقل إلى ساحة المحكمة العسكرية، حيث جرد من رتبته وكسر سيفه إهانة له، أمام حشد من الألوف المحتشدة التي كانت تهتف «الموت لليهود».
صاحبت تلك الفترة حوادث دامية وانتشرت موجة «عداء السامية» التي على أثرها بدأت نواة الحركة الصهيونية الحديثة التي أسسها تيودور هيرتزل وكان مندوبا لجريدة «نوي فراي برس» الصادرة في فيينا عاصمة النمسا، وكان يغطي حينها تفاصيل وقائع المحاكمة.
كان استمرار حالة العداء لليهود أمرا طبيعيا، حجبته الكتابات الصحافية اليومية ومظاهرات الأحزاب اليمينية المتطرفة حتى نشوب الحرب العالمية الأولى 2 أغسطس (آب) 1914، فوجدت المنظمات اليهودية في عموم فرنسا فرصة سانحة لتعديل أوضاعها وتحسين صورتها أمام الرأي العام والشارع الفرنسي خاصة، بإعلان النداءات للجالية اليهودية بلغة «اليديش»، إضافة إلى الفرنسية، بواسطة الجرائد اليهودية، وأهمها جريدة «الشعب اليهودي»، بالتطوع للخدمة العسكرية للقتال في الجبهات المشتعلة على طول شمال البلاد التي تشكل معظم الحدود مع ألمانيا.
وكانت أهم مراكز التطوّع الجامعة اليهودية بشارع دي جارينت في باريس الذي كان يشهد يوميا طوابير المتطوعين، ومن جملتهم آميدييه روثستين «ذلك الشاب الضئيل الجسم (عمره 22 سنة) ذو عينين ملتهبتين كمن كان مصابا بالحمى، وروح متوثبة للقتال»، كما وصفه الصحافي الفرنسي الشهير موريس بارس في جريدة «صدى باريس» التي كان يكتب فيها يوميات الحرب على جبهات ميادين القتال، فكانت مقالاته مؤثرة سلبت عقول القراء في فرنسا قاطبة، بدرجة لم يتمكن فيها السياسيون والمثقفون من بلوغها، وهذا ما اتفق عليه كل من وثق ظروف تلك الحقبة.
سيقت «الفرقة اليهودية» التي تطوع آميدييه للخدمة فيها إلى الجبهة الشمالية الملتهبة، واشترك في معاركها منذ اندلاع الحرب جنديا في قوات المشاة فأبلى بلاء حسنا وأبدى شجاعة نادرة، مما حدا برؤسائه إلى ترقيته لرتبة نائب ضابط ومنحه وسام الشجاعة لجوقة الشرف بدرجة فارس، لصموده في معارك الخنادق يوم 25 سبتمبر 1915، خلال ما أطلق عليها «أودية الموت في فردان»، ولقد أضافت تلك المعركة خلال شدتها أبعادا جديدة من الشراسة وطول الوقت، حيث تواصل القتال ما يقارب سنة، فامتدت طوال عام 1916، وقتل فيها نحو ثلاثة أرباع مليون جندي، ورفع فيها شعارها المشهور «لن يمروا».
ولكن في 18 أغسطس (آب) 1916، قتل آميدييه روثستين دفاعا عن قلعة فو (VAUX)، ومما يذكر عن تلك الموقعة في إبادةٍ للأغلبية الساحقة من المدافعين، حيث استعملت فيها الغازات السامة وراجمات اللهب، ولم يقتصر ذلك على البشر، بل تعداه إلى حمام الزاجل الذي كان وسيلة الاتصال الوحيدة بالقيادة العامة، بعد أن انقطعت كل الطرق، وبقيت حمامة وحيدة أرسلها قائد الموقع الميجور رينال قبل منتصف النهار، تحمل الرسالة الأخيرة التالية:
«ما زلنا نقاوم، ولكن... النجدة ملحة. خابرونا بالإشارة الضوئية من سوفيل، لأن إشارتنا لا يرد عليها، هذه حمامتي الأخيرة».
وأطلقت الحمامة، ولكن تأثير الغاز السام الذي انتشر على الموقع جعل حركتها بطيئة، فرجعت مرة أخرى لتستقر على كوة الخندق، وبعد عدة محاولات استطاعت الانطلاق فأوصلت الرسالة إلى القيادة في فردان، فكانت نهايتها مثل الجندي الإغريقي فيديبيديس الذي سقط ميتـا بعد أن أوصل رسالة النصر بمعركة مارثون الشهيرة. تلك الحمامة هي الوحيدة التي كرمت حينما أنعم عليها بوسام الشجاعة، وقد حنطت ووضعت في المتحف الحربي بباريس.
ما سلف وإن كان فيه شيء من الاستطراد، لكني وجدت أن لا مندوحة من التعرض للتفاصيل، بقدر ما تفرضه الضرورة، لإبراز تداخلات المشهد العام التي رافقت سنوات أفول القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وما تخللهما من أحداث دامية، أثرت في نفسية متعبة مجموعة أعراض يطلق علم النفس عليها اسم «تزامن الفجيعة» (BEREAVEMENT) SYNDROM
فجاءت الرسالة تحمل مكنونا تلفه أضغاث أحلام تكالبت على صاحبها مخلفة رؤية لا يمكن الاتكاء عليها، وأظهرت نصا فقيرا بالمعلومات مفعما بالمتناقضات التي كتبها أب مكلوم دفعه قهر الحزن وألم الحسرة إلى فضاءات سحيقة خلفت تصورا بعيدا عن المنطق، أبلى تفكيره فيه، وحاد به عن جادة الصواب. ثم إن الرسالة في تواقيعها الحسية صرخة استنجاد واستجداء وشكوى صادرة من غريب لا معين له. ولم يكن بحوزته ما يستعين به إلا شهادة يتيمة هي قصاصة من جريدة أرفقها، كان قد كتبها الصحافي موريس بارس (السابق الذكر)، فوجدها طوق نجاة استغاث به رغم أن كاتبها كان من غلاة المعادين لليهود في فرنسا وتشهد له في ذلك كتاباته. ولكن روثستين كان يرجو منها الشفاعة لمحنته أن يبرز وصف بارس المتألق للسجل العسكري لابنه القتيل خلال الحرب، ليقدم وبصورة لا شعورية مدى عمق الجرح الغائر المؤلم والعصي على الاندمال الذي بدا واضحا في مقطع يقول فيه: «هل بمقدور دم ابني الذي أهرق وتدفق بكرم، وعن طواعية، أن يشفع لدى سيادتكم لمنح ثقتكم للاقتراح الذي أضعه بين أيديكم؟»، وهو في ذلك أيضا يشير بطرف خفي إلى الأعداد الرهيبة من ضحايا الجيوش البريطانية، وفي الآونة نفسها، التي سقطت في معارك أشهرها «السوم» و«إيبر».
كما أن ثمة بعدا دينيا يتّسق مع تاريخ تقديم الرسالة وهو 12 سبتمبر 1917، الذي يصادف تقريبا مناسبة الذكرى الأولى لمقتل ابنه في 18 أغسطس 1916،، ولليهود طقوس تأبين وحداد ملزمة، تبدأ من اليوم الأول بالقراءات الدينية وتستمر طوال السنة، يتخللها تأبين «اليوم السابع» أو «شيفعه» (SHIVA) ثم «الثلاثينية» (شيلوشيم)، وتستمر كل شهر لسنة كاملة، ثم ذكرى السنة الأولى «ياهرزيت» التي يجري فيها بناء القبر بالحجر، ويوضع شاهد له إما بصورة عمودية أو أفقية.
وبالرجوع إلى الرسالة، فإنها، وإن أصبحت وثيقة تاريخية، لا يمكن اعتبارها - على ما لامسته من حدث - أن تمنح استحقاقا تستند إليه وقائع الماضي وترتهن بموجبها الحقيقة لتؤهل إدراجها كجزء من مشروع دراسة توثيقية. فكاتبها كان مشحونا بالعاطفة، ما أدى إلى ارتباك مفهومه لحركة التاريخ. إذ فاته أو سقط من ذاكرته المتعبة التي خانته نتيجة الرزء الذي أصابه، أو أنه غير مهتم أصلا بمتابعة أحداث التاريخ في مكان قصي عن عالمه واهتماماته، فهو لم يعرف أن الأحساء لم تعد «تركية» على حد قوله وأنها تحرّرت وتخلصت من ربقة احتلال امتد أربعة عقود عام 1913، وأن تركيا العثمانية قد دخلت الحرب منذ 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 1914 وأصبحت طرفا محاربا فيها منذ بدايتها وتدور معارك في جبهات تحتلها في العراق عام 1914، وفلسطين 1917، وسوريا وشمال الجزيرة، والأهم من ذلك المعركة الشهيرة غليبولي، التي دارت بعقر دارها وقرب عاصمتها ـ يومذاك ـ إسطنبول عام 1915م.
ولنأخذ فسحة لتحليل واستجلاب الأفكار ونتريث قبل الولوج في متاهات التعليق على اقتراح: «إرسال مائة وعشرين ألف مقاتل يهودي من روسيا. فهو كلام مرسل، وأمر عصي على العقل قبوله، ولا يستحق عناء الرد والتفكير فيه لسذاجته. لكنني أعرض، وبصورة مقتضبة، لمن لا يعرف، صعوبة الطبيعة والطبوغرافيا حتى في أيامنا هذه. فعلى الرغم من التطور الهائل الذي نعيشه الآن، فإن الأمر ليس بالسهولة كما صورته مخيلة روثستين، فما بالك عنه قبل قرن من الزمن حينما كانت الظروف اللوجيستية والجيوسياسية والإثنية، إضافة إلى الطبيعة القاسية الطاردة، تجعله شبه مستحيل. ومن يريد المزيد فليقرأ عن الحملات العسكرية التي انقرضت عن بكرة أبيها، وفي العصور المتدنية أمثلة منها: الحملة المصرية - التركية (حملة محمد علي باشا) 1818 - 1822 م وحملة مدحت باشا 1871،، فهذه على الرغم من تقارب مصادر تموينها والمشاركة بالانتماء الديني الواحد واللغوي إلى حد ما، وتعاون بعض القبائل المحلية، فإنها لم تبلغ أهدافها وإن بلغتها فلفترات محدودة، ولكنها فشلت في النهاية، فما بالك بأقوام ذوي ديانة مختلفة ولغة غريبة وعادات غير مألوفة، إضافة إلى ما يتبعها من بون شاسع في الطقس من قارس القر إلى لهيب الحر، والصحراء العربية كما يقول المثل «من دخلها ضاع، ومن تاه فيها جاع».
أمام كل هذا، يدفعني الفضول إلى تصور حالة ردود فعل اللورد بيرتي الدبلوماسي المخضرم وهو يقرأ هذه الرسالة الغريبة. فربما غص من جراء ذلك في كوب الشاي الذي كان يتناوله. ولكن الأمر الذي يبدو أكثر غرابة في ذلك هو إرسالها على تفاهتها لعناية وزير خارجية الدولة الأعظم آنذاك والحرب في اشتدادها، وهو السياسي البارع الملم بكل الظروف، الذي أمضى في باريس وحدها ثلاث عشرة سنة، وكان يريد التقاعد من منصبه لكبر سنه، ولكن ظروف الحرب أجبرته على تمديد مدة خدمته.
ومثلما ذبلت ذاكرة روثستين إزاء أحداث التاريخ، فإنها قد عادت كذلك لتشمل أمور دينه وعقيدته التي كانت تلازمه - وهو اليهودي المتزمت - في كل مناحي حياته ولم يتخل عنها حتى في اقتراحه الداعي إلى «إنشاء قيادة ومجلس شرعي يتوافق مع الديانة اليهودية الأرثوذكسية»، إذ يذكر يهودا شيرنوف في كتابه «في بوتقة الحضارة» (1938) إذ يقول فيه: «لقد دهشت حينما رأيت وأنا أزور بيت روثستين المتواضع في أكس - إن - بروفانس بجنوب فرنسا، لوحة معلقة على باب يفصل غرفة الجلوس عن صالة الطعام منقوشا عليها بالعبرية: «إذا نسيتك يا أورشليم عسى يدي اليمنى أن تذبل». وها هو ينسى أورشليم - في اقتراحه - ويريد أن يعوضها بوطن في الأحساء. فهل يقصد في ذلك وعند تحقيق أحلامه عزوفه عن تذكّر أورشليم، لأنها لم تعد مهمة بعد ذلك في ذاكرة اليهود التي تعد دوما كتبهم وصلواتهم بالعودة إليها، أم أنها تأثير أعراض حالة انفصامية؟ فإلى من أثار هذا الغبار نطالب بجواب شاف، وإلا فإنها زوبعة في فنجان.
* باحث كويتي مهتم بالتاريخ



«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.